بسم الله الرحمن الرحيم
لقد انطوت حملة نابليون على مصر عام 1798 على كل التوجهات الاستعمارية الغربية تجاه الشرق العربي، فقد كان نابليون يسعى من وراء هذه الحملة إلى تمزيق وإضعاف الدولة العثمانية تمهيداً للقضاء على دولة الخلافة الإسلامية وفرض النفوذ الفرنسي على الشواطئ الشرقية للمتوسط، حتى تكون فرنسا قادرة على فرض شروطها على بريطانية. من ناحية أخرى فقد حمل نابليون معه إلى الشرق العربي مشروعين اثنين كانا قد كثر الحديث عنهما في بعض الأوساط الفرنسية، وهذان المشروعان هما إنشاء دولة لليهود الأوروبيين في فلسطين، والآخر هو إنشاء كيان للمسيحيين في الشرق وبالتحديد الموارنة. [1]
لقد كتب نابليون يخاطب يهود العالم قائلاً:
« من بونابرت القائد الأول في جيوش الجمهورية الفرنسية في أفريقيا وآسيا، إلى الورثة الشرعيين لأرض إسرائيل.
الإسرائيليون هم الأمة الفريدة التي لم تستطع آلاف السنين وشهوة الفتح والطغيان أن تجردهم سوى من أراضيهم، ولكن ليس من اسمهم وكيانهم القومي...ألا ثوروا على العار يا أيها المشردون وأعلنوها حرباً لم يحدث مثلها في تاريخ البشرية، حرب تقوم بها أمة اُعتبرت أرضها بجرة قلم من الحكام غنيمة لأعدائها الذين يريدون بفظاظة تقاسمها فيما بينهم وكما يشاءون.إن فرنسا تنتقم لعارها وعار أبعد الأمم التي تركت منسية وقتاً طويلاً تحت أغلال العبودية، وتنتقم للعار الذي أحاق بكم خلال ألفي سنة.
إن الأمة العظيمة التي لا تتاجر بالشرف، كما فعل أولئك الذين باعوا أجدادكم إلى كل الأمم تناديكم الآن من أجل أن تستلموا منها ما قد احتلته حتى الآن وبحصانة ومساعدة هذه الأمة، كي تبقوا أسياد البلاد، ولكي تدافعوا عنها ضد كل الذين يريدون غزوها.
لقد جعل الجيش الصغير الذي بعثتني العناية الإلهية به إلى هنا من القدس مقر قيادته الرئيسية. إن هذا الجيش الذي يقاد بالعدل ويصحبه النصر سوف ينتقل بعد أيام قليلة إلى دمشق، المدينة المجاورة التي تهدد مدينة داوود.... فها قد سنحت الفرصة التي قد لا تتكرر ثانية خلال ألفي سنة، من أجل المطالبة باسترداد حقوقكم المدنية بين سكان المعمورة والتي حُرمتم منها بشكل مخز طيلة ألفي سنة، ومن أجل المطالبة باستعادة كيانكم السياسي كأمة بين الأمم وبحقكم الطبيعي في عبادة يهوه بحسب إيمانكم علناً ومن غير شك، إلى الأبد» [2]
إن خطاب نابليون هذا يبدو حتى اليوم غير مبرر وغير مفهوم تاريخياً، فإذا كانت مصالح فرنسا كدولة استعمارية تقتضى تمزيق الدولة العثمانية واحتلال الشواطئ الشرقية للمتوسط، وتقتضى أيضاً بث التفرقة الطائفية والمذهبية والجهوية في بلدان الشرق العربي وإيجاد حلفاء محليين يدعمون سياساتها. لكن ما هي مصلحة نابليون وفرنسا في طرح مثل هذا المشروع الذي كان يبدو مستحيلاً لليهود أنفسهم في ذلك الوقت، هذا المشروع الذي ما أن فقد نابليون إمكانية تنفيذه حتى تبنته بريطانية وقامت بإنجازه وتحقيقه على الأرض لتسلمه بعد ذلك للولايات المتحدة الأمريكية.
لقد انتقل الغرب في موقفه من اليهود والمسألة اليهودية نقلة كبيرة وحادة من العداء والكره الشديدين، إلى الدعم غير المحدود، ففي حين كان اليهود في الوعي المسيحي الغربي هم قتلة المسيح والمرابين مصاصي دماء الشعوب الأوروبية، تحولوا فجأة إلى الأمة الفريدة والأمة المضطهدة المظلومة، كما يصفها نابليون في خطابه، والتي حان الوقت لإنصافها وتقديم الوطن القومي لها!
لقد كان الوعد «البلفوري» النابليوني مقدمة لمجموعة من الوعود المتتالية التي نجد مثيلاتها في وعود مقدمة من القيصر الألماني وكذلك من قبل أحد وزراء حكومة القيصر الروسي وصولاً إلى بلفور البريطاني. [3]
إن السؤال الذي يطرح نفسه بالنسبة لنداء نابليون السابق الذكر وحمله للملف اليهودي في حملته على مصر وسوريا، ثم ما تلا ذلك من وعود بلفورية متتالية وتبني كامل من قبل الحضارة الغربية الحديثة للمسألة اليهودية ودولة إسرائيل، وما نراه اليوم من التسامح الشديد مع الدولة العبرية ومعاملتها على أنها الولد المدلل للحضارة الغربية ليطرح السؤال حقاً عن طبيعة العلاقة الغامضة بين الحضارة الغربية الحديثة والصهيونية العالمية.
إن نظرية المؤامرة هي نظرية غير رائجة وغير مرغوبة من قبل مثقفينا، ولذلك ربما، ينأى عبد الوهاب المسيري بنفسه بعيداً عن تهمة التفكير التآمري، ويجترح توصيفاًً جديداً في موسوعته القيمة، يسميه «العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية» ليفسر به دعم الغرب الكامل غير المحدود للصهيونية، والذي يقوم الغرب بموجبه بدعم قيام دولة يهودية في فلسطين مقابل مجموعة من الأهداف المصلحية الاستعمارية التي يحققها الغرب من هذا الموقف. [4]
من جهة أخرى فإن نظرية المصلحة الاستعمارية للغرب في غرس ودعم إسرائيل، لم تعد مقنعة أيضاً، ذلك أن أبسط الجداول الاقتصادية تظهر بوضوح أن مصلحة الغرب مع أيٍ, من دول الخليج، هي أكبر وأهم من مصلحته مع إسرائيل!
إن ما نود أن نلفت الانتباه إليه هو ذلك النوع من الشراكة الأيديولوجية ربما، أو حالة التوأمة الفكرية ما بين النظرة الحديثة للعالم ورؤيته من منظور يهودي. إن هذه التوأمة هي التي تجعل نابليون يفكر في مطلع القرن الثامن عشر بإنشاء وطن قومي لليهود، وهي التي تجعل الغرب منحازاً بطبيعته وبنيته إلى إسرائيل.
الحقيقة أن المتتبع لهذه العلاقة ما بين الحضارة الغربية الحديثة والحركة الصهيونية واليهودية العالمية ليلمس ذلك التداخل العضوي بين مكونات الحداثة الغربية والرؤية اليهودية للعالم، فمن جهة أولي يمكن اعتبار البروتستانتيه انقلابا يهودياً على المسيحية كان له أثره الواضح لا في تاريخ المسيحية بل في تاريخ الغرب الحديث، حيث يمكننا أن نعتبر مع عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر أن الرأسمالية الغربية الحديثة هي نتاج للأخلاقية البروتستانتية، ومن ناحية أخرى نشاهد كيف تتحول بعض أنماط الشذوذ اليهودي المتسربة من تحولات القبالا المتأخرة في القرن السابع عشر إلى نظريات فرويد الحداثية في علم النفس، وكيف تتحول «المشيحانية» اليهودية إلى طوباوية شيوعية على يد ماركس، ولن نسترسل في سرد هذه القائمة الطويلة، بل حسبنا أن نشير إلى ظاهرة المحافظين الجدد في أمريكا وحقيقة الخطاب المعادي للعرب والمسلمين الذي يمثل على المستوى التاريخي التقاءً للحقد الصهيوني مع نظيره الصليبي لصناعة أيديولوجيا العداء للإسلام والإنسانية على السواء.
إن هذه الحالة من التداخل العضوي بين مكونات الحداثة الغربية والفكر اليهودي الصهيوني والتي أنتجت أغرب ظاهرة سياسية واجتماعية هجينة في القرن العشرين متمثلة بدولة إسرائيل، لهي أحوج ما تكون إلى التفكيك والدراسة النظرية، وسواء أسمينا هذه الحالة من التداخل، «مؤامرة» أو «عقداً صامتاً» فإن المهم هو أن ندرك حقيقة العدو الذي تواجهه الأمة الإسلامية في هذه المرحلة الخطيرة من حياتها، وأن ندرك الخلفيات القائمة خلف منظوماته التحالفية، وأن ندرك كل ذلك وننظر إليه بملء عيوننا وعقولنا دون مواربة أو مجاملة.
-------------------------------------------------------------------------
[1] انظر في، جوزيف حجار « الموحدون المسيحيون في الشرق» مطبعة بلون، باريس، 1955. نقلاً عن غريغوار مرشو، مقدمات الاستتباع، المعهد العالمي للفكر الأسلامي، 1996. ص 56 و123 132.
[2] غريغوار مرشو، مصدر سابق، ص 132.
[3] لمراجعة نصوص هذه الوعود يمكن العودة إلى الموسوعة اليهودية الصهيونية للمسيري، الجزء السادس، الوعود البلفورية.
[4] انظر:عبد الوهاب المسيري، الموسوعة، ج6.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد