بسم الله الرحمن الرحيم
ونقل في حقائق عن التصوف ص257 عن الشيخ الأكبر ابن عربي قوله: -فإن المتأهب للمزيد، المتعرض لنفحات الجود بأسرار الوجود إذا لزم الخلوة والذكر، وفرّغ المحل من الفكر، وقعد فقيراً لا لشيء له عند باب ربه، حينئذ يمنحه الله تعالى!! ويعطيه من العلم به والأسرار الإلهية والمعارف الربانية التي أثنى الله سبحانه بها على عبده خضر فقال: -عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً-... وقيل للجنيد: بم نلت ما نلت؟ فقال بجلوسي تحت تلك الدرجة ثلاثين سنة، وقال أبويزيد: أخذتم علمكم ميتا عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت. فيحصل لصاحب الهمة في الخلوة مع الله وبه جلت هبته وعظمت منته من العلوم ما يغيب عندها كل متكلم على البسيطة، بل كل صاحب نظر وبرهان ليست له هذه الحالة- أ هـ.
تأمل هذا الكلام مرة بعد أخرى لتقف على منهج الصوفية في التلقي، وازدرائهم العلم الشرعي - مهما قالوا إن طريقنا محكوم بالكتاب والسنة - لأنهم يقدمون الإلهام والكشف والفتح على كل علم وبرهان.
وهذا ليس من شطحات ابن عربي - كما قد يتوهم البعض - ولكنها طريقة القوم، يقول الغزالي في الإحياء 3/19مبيناً طريقة الخلوة ومقصدها: -إن الطريق في ذلك أولاً بانقطاع علائق الدنيا بالكلية، وتفريغ القلب منها ويقطع الهمة عن الأهل والمال والولد والوطن وعن العلم!! والولاية والجاه، بل يصير قلبه إلى حالة يستوي فيها وجود كل شيء وعدمه، ثم يخلو بنفسه في زاوية مع الاقتصار على الفرائض والرواتب، ويجلس فارغ القلب مجموع الهمة، ولا يفرق - تأمل - فكره بقراءة قرآن!! ولا بالتأمل في تفسير ولا بكتب حديث ولا غيره -ويمضي الغزالي في شرح الطريقة فيحظر على السالم أن يخطر بباله شيء سوى الله، ويبدأ قائلاً بلسانه: -الله، الله- على الدوام مع حضور القلب حتى ينتهي إلى حالة يترك فيها تحريك اللسان ويرى أن صورة اللفظ وحروفه وهيئة الكلمة ويبقى معني الكلمة مجرداً في قلبه حاضراً فيه كأنه لازم له، ويظل هكذا متعرضاً لنفحة من نفحات رحمة الله وينتظر ما يفتح عليه كما فتح على الأنبياء والأولياء أ.هـ.
وقال أيضاً: -وانكشف لي في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها- -المنقذ من الضلال ص131-.
قال ابن الجوزي في تلبيس إبليس ص 288: -وقد قال أبوحامد الغزالي في كتابه الإحياء: مقصود الرياضة تفريغ القلب، وليس ذلك إلا بالخلوة في مكان مظلم، وقال: فإن لم يكن مكان مظلم، فيلف رأسه في جبته أو يتدثر بكساء أو إزار ففي مثل هذه الحالة يسمع نداء الحق!! ويشاهد جلال حضرة الربوبية!! -الإحياء 3/76-.
قال ابن الجوزي: انظر إلى هذه الترتيبات، والعجب كيف تصدر من فقيه عالم، ومن أين له أن الذي يراه نداء الحق؟ وأن الذي يشاهده جلال الربوبية؟ وما يؤمنه أن يكون ما يجده من الوساوس والخيالات الفاسدة؟ وهذا الظاهر ممن يستعمل التقلل من الطعام فإنه يغلب عليه الماليخوليا- أهـ.
ويقول القسطلاني في إرشاد الساري 1/62: -والخلوة أن يخلو عن غيره بل وعن نفسه بربه وعند ذلك يصير خليقاً بأن يكون قالبه ممرا لواردات علوم الغيب!! وقلبه ممراً لها-.
ويقول الفيروز آبادي: -خلوة طلاب طريق الحق على أنواع:
الأول: أن تكون خلوتهم لطلب مزيد على الحق من الحق!! لا بطريق النظر والفكر، وهذا غاية مقاصد أهل الحق- -حقائق عن التصوف ص 253-.
- فتبين لك - أخي القارئ - أن الخلوة خطوة مهمة على طريق تزكية النفس عند الصوفية، وأنها سبيل لتلقي العلم اللدني من الله عز وجل وانظر إلى الاستدلال العجيب الذي احتج به أبوالحسن الشاذلي ونقله عنه ابن عجيبة بقوله تعالى: -فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له- الآية -إيقاظ الهمم ص 58- فجعل الخلوة والعزلة - في اصطلاحهم الخاص كما تقدم - سبباً لنيل هبة الله من العلم اللدني ومقامات الولاية.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد