بسم الله الرحمن الرحيم
سؤال:
قرأت في بعض الساحات التي لا تنتمي لأهل السنة والجماعة الخلاصة التالية حول موضوع الصلاة في السفر...وقد طلب مني أحد الإخوة بيان رأي أهل السنة والجماعة في هذه المسألة..
وقد قال الباحث في خلاصته:
يدل ما تقدم من الأحاديث الصحيحة الثابتة على بقاء حكم قصر الصلاة في السفر مهما كانت مدة المكث، إذ الأصل الأخذ بالعام على عمومه والمطلق على إطلاقه ما لم يرد دليل صالح للاستدلال يخصص ذلك العموم أو يقيد ذلك الإطلاق، ولم يأت القائلون بخلاف هذا القول بما يصلح للحُجة وينهض للاستدلالº عدى بعض الأحاديث الضعيفة والآثار الواهية وبعض الأدلة التي لا تدل على الموضوع لا من بعيد ولا من قريب. هذا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،
الجواب:
أما السؤال الذي أوردته أقول:
هذه المسألة - وهي مدة قصر الصلاة في السفر - اختلف فيها أهل العلم على أقوال كثيرة تصل إلى أكثر من عشرين قولا وسأذكر أهمها:
1) إذا نوى الإقامة أكثر من أربعة أيام فإنه يتم الصلاة.
وهذا مذهب الحنابلة.
واستدلوا بحديث جابر - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة مهلين بالحج.... رواه البخاري (2505) ومسلم (1216).
قال الشيخ ابن عثيمين في رسالة قصر الصلاة (ص50) في رد هذا القول:
أما وجه منعهما شرعا: فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام بمكة في حجة الوداع عشرة أيام... وأقام بها في غزوة الفتح تسعة عشر يوما، وأقام بتبوك عشرين وكان يقصر الصلاة مع هذه الإقامات المختلفة.
وأما وجه منعها عرفا: فإن الناس يقولون في الحاج إنه مسافر، وإن كان قد سافر أول ذي الحجة، ويقولون للمسافر للدراسة إنه مسافر للدراسة في الخارج، ونحو ذلك. ا. هـ.
2) إذا نوى الإقامة أربعة أيام فأكثر فإنه يلزمه الإتمام لكن لا يحسب منها يوم الدخول ويوم الخروج.
وهذا مذهب الشافعية والمالكية.
واستدلوا بأنه مروي عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه -.
3) إذا نوى الإقامة أكثر من خمسة عشر يوما أتم وإذا نوى دونها قصر.
وهذا مذهب الحنفية، وهو قول الثوري والمزني.
واستدلوا بما روي عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا: إذا قدمت بلدة وأنت مسافر وفي نفسك أن تقيم خمسة عشر يوما فأكمل الصلاة.
4) أنه يقصر ما لم ينو الاستيطان أو الإقامة المطلقة.
وهذا ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ محمد بن صالح العثيمين.
ودليلهم في ذلك:
- إطلاق الأدلة كقوله - تعالى -: \" وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة \".
قال الشيخ محمد العثيمين في الشرح الممتع (4/533):
فقوله - تعالى -: \" إذا ضربتم في الأرض \" عام يشمل كل ضارب، ومن المعلوم أن الضرب في الأرض أحيانا يحتاج إلى مدة. ا. هـ.
- حديث أنس - رضي الله عنه - قال خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجع إلى المدينة. متفق عليه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الرد على القائلين بالتحديد (24/137):
وأيضا فمن جعل للمقام حدا من الأيام: إما ثلاثة، وإما أربعة، وإما عشرة، وإما اثني عشر، وإما خمسة عشر فإنه قال قولا لا دليل عليه. ا. هـ.
والله أعلم.
المسافرون لهم ثلاث حالات:
الأولى: أن ينووا الإقامة المطلقة في بلاد الغربة كالعمال المقيمين للعمل، والتجار المقيمين للتجارة، ونحوهم ممن عزم على الإقامة إلا لسبب يقتضي نزوحهم، فهؤلاء حكمهم حكم المستوطنين من وجوب الصوم وإتمام الصلاة وغير ذلك.
الثانية: أن ينووا إقامة لغرض معين غير مقيدة بزمن، فمتى انتهى غرضهم عادوا إلى أوطانهم كمن قدم لمراجعة دائرة حكومية، أو لبيع سلعة أو شرائها، فهؤلاء حكمهم حكم المسافرين على المذهب، وحكاه ابن المنذر إجماعا، لكن لو ظن هؤلاء أن غرضهم لا ينتهي إلا بعد أربعة أيام ففيه خلاف سيأتي في الحالة الثالثة.
الثالثة: أن ينووا إقامة لغرض معين مقيدة بزمن، متى انتهى غرضهم عادوا إلى أوطانهم، فقد اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:
القول الأول: أنه إذا نوى الإقامة أكثر من أربعة أيام فيلزمه الإتمام، وهذا مذهب الحنابلة، واستدلوا على ذلك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم مكة في حجة الوداع يوم الأحد الرابع من ذي الحجة، وأقام فيها الأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء، وخرج يوم الخميس إلى منى، فأقام بمكة أربعة أيام يقصر الصلاة [خ، م] فيؤخذ من هذا أن المسافر إذا نوى إقامة أربعة أيام فإنه يقصر لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والجواب عن هذا أن إقامة النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعة أيام وقعت اتفاقا لا قصدا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم أن من الناس من قدم قبله بيوم وبيومين، بل من الناس من جاء من شهر ذي القعدة بل من شوال، ولم يأمرهم بالإتمام.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الجواب عن الدليل السابق [الفتاوى 24 / 140]: \" وهذا الدليل مبني على أنه إذا قدم المصر فقد خرج عن حد السفر، وهو ممنوع، بل مخالف للنص والإجماع والعرف \"
قال شيخنا في رسالة قصر الصلاة: \" أما وجه منعه شرعا إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام بمكة في عام الفتح عشرة أيام.... وأقام بها في غزوة الفتح تسعة عشر يوما، وأقام بتبوك عشرين وكان يقصر الصلاة مع هذه الإقامات المختلفة، وأما وجه منعه عرفا فإن الناس يقولون في الحاج إنه مسافر، وإن كان قد سافر أول ذي الحجة، ويقولون للمسافر للدراسة إنه مسافر للدراسة في الخارج ونحو ذلك \" ا. هـ
ثم الحنابلة يقولون إنه يصير مقيما، فعندهم الناس ثلاثة أقسام: مسافر ومقيم ومستوطن، وهذا الذي صار مقيما له حكم المستوطن في كل شيء إلا في الجمعة، فإنه تلزمه الجمعة لكن لا يكون فيها إماما ولا خطيبا ولا يتم به العدد، فصار مسافرا من وجه ومستوطنا من وجه، وهذا التقسيم ليس عليه دليل، وهو أيضا متناقض، إذا كيف يكون الإنسان مستوطنا من وجه ومسافرا من وجه آخر، والراجح أن الناس قسمان، مسافر ومستوطن، وإن شئت فقل: مسافر ومقيم هذا هو الذي تقتضيه الأدلة، كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية [الفتاوى 24 / 137، 184].
القول الثاني: أنه إذا نوى الإقامة أربعة أيام فأكثر فإنه يلزمه الإتمام، لكن لا يحسب منها يوم الدخول ويوم الخروج، وعلى هذا فتكون الأيام ستة، وهذا مذهب الشافعية وقال به مالك وهو رواية عن أحمد حكاها صاحب الإنصاف، واستدلوا بأدلة منها:
1- حديث العلاء بن الحضرمي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا) [م 1352]، قال النووي في شرح مسلم: \" معنى الحديث: أن الذين هاجروا من مكة قبل الفتح إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرم عليهم استيطان مكة والإقامة بها، ثم أبيح لهم إذا وصلوها بحج أو عمرة أو غيرهما أن يقيموا بعد فراغهم ثلاثة أيام ولا يزيدوا على الثلاثة، واستدل أصحابنا وغيرهم بهذا الحديث على أن إقامة ثلاثة ليس لها حكم الإقامة، بل صاحبها في حكم المسافر، قالوا: فإذا نوى المسافر الإقامة في بلد ثلاثة أيام غير يوم الدخول ويوم الخروج جاز له الترخيص برخص السفر من القصر والفطر وغيرهما من رخصه، ولا يصير له حكم المقيم \"
والحق أن الحديث حجة عليهم لأنه إذا جاز لهم أن يقصروا في سفرهم هذا، فهم في الحقيقة لم يجلسوا ثلاثة أيام فقط، بل هذه الثلاثة بعد إتمام الحج، وربما هم قد جلسوا في حجهم أسبوعا أو نحو ذلك، فكيف يؤخذ من هذا التحديد بأربعة أيام أو ثلاثة.
2- أن هذا مروي عن عثمان - رضي الله عنه -
القول الثالث: إذا نوى الإقامة أكثر من خمسة عشر يوما أتم، وهذا مذهب أبي حنيفة وهو قول الثوري والمزني، واستدلوا بما روي عن ابن عباس وابن عمر - رضي الله عنهم - أنهما قالا: \" إذا قدمت بلدة وأنت مسافر وفي نفسك أن تقيم خمسة عشر يوما فأكمل الصلاة \" رواه الطحاوي.
وهناك مذاهب أخرى لأفراد الصحابة والتابعين، فمذهب ابن عباس - رضي الله عنهما - أن إذا نوى الإقامة تسعة عشر يوما قصر، وما زاد فإنه لا يقصر، وقد صرح - رضي الله عنه - بهذا في حديث رواه البخاري عنه أنه قال: \" أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - تسعة عشر يقصر فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا وإن زدنا أتممنا \" [خ 1080]، ومذهب الأوزاعي أنه إذا نوى الإقامة ثلاثة عشر يوما أتم وإن نوى أقل من ذلك قصر، وعن ربيعة: يوم وليلة، وعن الحسن البصري: أن المسافر يصير مقيما بدخول البلد، والأقوال في هذه المسألة تزيد على العشرين.
والقول الراجح هو ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وهو اختيار ابن القيم والشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، والشيخ عبد الرحمن السعدي، والشيخ محمد رشيد رضا، وشيخنا، وهو أنهم مسافرون، ما لم ينووا الاستيطان أو الإقامة المطلقة، واستدلوا على لك بما يلي:
1- إطلاق الأدلة كقوله - تعالى -{وإذا ضربتم في الأرض} وهذا عام يشمل جميع الضاربين من أطال من هم ومن قصر.
2- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام في تبوك عشرين يوما يقصر الصلاة [حم 13726، د 1235، حب 4 / 184، هق 3 / 152، قال أبو داود غير معمر لا يسنده، ورده النووي في الخلاصة كما نقله الزيلعي في نصب الراية 2 / 186: \" هو حديث صحيح الإسناد على شرط البخاري ومسلم، لا يقدح فيه تفرد معمر فإنه ثقة حافظ فزيادته مقبولة \" وقال الحافظ في التلخيص 2 / 45: \"... ورواه ابن حبان والبيهقي من حديث معمر، وصححه ابن حزم والنووي..... \"، والحديث صححه الألباني] قال شيخ الإسلام في الفتاوى [24 / 136]: \" ومعلوم بالعادة أن مما يفعل بمكة وتبوك لم يكن ينقضي في ثلاثة أيام ولا أربعة، حتى إنه كان يقول: اليوم أسافر، غدا أسافر \"
3- أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة عام الفتح تسعة عشر يوما يقصر الصلاة [خ 1080، 4298]
4- عن أبي جمرة نصر بن عمران قال: قلت لابن عباس: إنا نطيل المقام بخراسان فكيف ترى؟ قال: \" صل ركعتين وإن أقمت عشر سنين \" رواه ابن أبي شيبة.
5- أقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة وقد حال الثلج بينه وبين الدخول [هق 3 / 152، وأخرجه عبد الرزاق 2 / 533، والأثر صححه ابن الملقن، وقال ابن حجر في الدراية 1 / 212: \" إسناده صحيح \"، وقال النووي معلقا على سند البيهقي: وهذا سند على شرط الشيخين، انظر التلخيص الحبير 2 / 47، نصب الراية 2 / 185]
6- وروى البيهقي [3 / 152] أن أنسا أقام بالشام يقصر سنتين.
7- وروى البيهقي كذلك عن أنس أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقاموا برامهرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة.
ثم نقول: من نوى الإقامة ستا وتسعين ساعة فله أن يقصر على مذهب الحنابلة، ومن نوى الإقامة ستا وتسعين ساعة وعشر دقائق فليس له أن يقصر، لأن الأول مسافر والثاني مقيم، فأين هذا التقسيم في كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد