صناعة الفتوى وفقه الأقليات ( 6 )


بسم الله الرحمن الرحيم

 

ثالثاً: قاعدة تنزيل الحاجة منزلة الضرورة:

في طليعة هذا البحث أود أن أنبّه وأنوّه بما قد يعتبر بداراً بالاعتذار قبل خوض الغمار أو أنه من باب تبرير التقصير أو هو نوع من التخدير.

والحقيقة أنه إهابة بالناظر وشحذ لهمّته لمشاطرتي في الشعور بصعوبة الموضوع وهي صعوبة ناشئة عن السهولة الظاهرة التي تجعل كثيراً من الباحثين يصلون إلى نتائج غير وافية ولا كافية في الفصل في مسألة علاقـة الحاجة بالضرورة.

إن دقّة الفروق بين القاعدتين جعل القرافي يرى أن السؤال عن الفرق أنجح وسيلة لتحقيق القاعدة قائلاً: \"وإن وقع السؤال عن الفرق بين القاعدتين فالمقصود تحقيقهما ويكون تحقيقهما بالسؤال عن الفرق بينهما أولى من تحقيقهما بغير ذلك. فإن ضم القاعدة إلى ما يشاكلها في الظاهر وبضادها في الباطن أولى لأن الضد يظهر حسنه الضد وبضدها تتميز الأشياء. \"(الفروق: 1/3).

إن إعمال الحاجة في الأحكام أصبح من المشتبهات التي لا يعلمها كثير من الناس أضف إلى ذلك أن أكثر القضايا الفقهية المعاصرة سواءً تلك التي وقع البت فيها من طرف المجامع أو تلك التي لا تزال منشورة أمامها ترجع إلى إشكالية تقدير الحاجة وتقدير الحكم الذي ينشأ عنها: هل تلحق بالضرورة فتعطي حكمها أو لا تلحق بها؟

سواءً كانت قضايا طبية تتعلق بعلاج العقم مثلاً أو الإجهاض، أو قضايا اقتصادية تتعلق بالعقود الجديدة من إيجار ينتهي بالتمليك أو تأمين بأنواعه، أو أحكام الشركات والأسهم وعقود التوريد والشروط الجزائية الحافزة على الوفاء بمقتضى العقد. مما يعني أن تحديد علاقة الحاجة بالضرورة أصبح مفتاحاً لأقفال معضلة المعاملات الفقهية في العصر الحديث مع الإشارة إلى أهمية هذا الموضوع في فقه الأقليات.

وسأحاول الآن عوداً على بدء أن أنثر كنانة هذا الموضوع لأعجم عيدانها وأغور في أغوارها وأصعد في قنانها \"وكم بالقنان من محل ومحرم\".

وذلك حسب الخطة التالية:

تعريف الضرورة:

لغة واصطلاحاً: من نصوص اللغويين ونصوص الأصوليين والفقهاء.

أصل مشروعية الضرورة.

تعريف الحاجة:

لغة واصطلاحاً: من نصوص اللغويين ونصوص الأصوليين والفقهاء مع أمثلة فقهية تبرز الفرق بينها وبين الضرورة.

أصل مشروعية الحاجة.

نتيجة التعريفين: التشابك اللغوي والتداخل الفقهي والأصولي، منشأه الاشتراك أو التشكيك.

المصطلحات ذات العلاقة بموضوع الضرورة والحاجة.

إجمال الفروق بين الضرورة والحاجة بناءً على ما ذكرناه من الفقهاء والأصوليين واللغويين.

وأخيراً تطبيقات معاصرة من قرارات المجلس الأوربي للإفتاء ومجمع الفقه الإسلامي بجدة مع التعليق على هذه القرارات.

خاتمة تتضمن النتائج.

الضرورة لغة:

قال مجد الدين الفيروز أبادي في القاموس ممزوجاً بشرحه: (والاضطرار الاحتياج إلى الشيء) وقد (اضطر إليه) أمر (أحوجه وألجأه فاضطُر بضم الطاء) بناؤه افتعل جعلت التاء طاء لأن التاء لم يحسن لفظه مع الضاد (والاسم الضرة) بالفتح. قال دريد بن الصمة:

وَتُخرِجُ مِنهُ صَرَّةُ القَومِ جُرأَةً *** وَطولُ السُرى ذَرِّيَّ عَضبٍ, مُهَنَّدِ

أي تلألؤ عضب.

وفي حديث علي - رضي الله عنه - رفعه أنه نهى عن بيع المضطر.

ومعنى البيع هذا الشراء أو المبايعة أو قبول البيع.

وقوله - عز وجل -: \"فمن اضطُرَّ غير باغٍ, ولا عادٍ,\" أي فمن أُلجيء إلى أكل الميتة وما حرم وضيّق عليه الأمر بالجوع وأصله من الضرر وهو الضيق.

وقال الليث: الضرورة اسم لمصدر الاضطرار تقول حملتني الضرورة على كذا وكذا.

الضرورة اصطلاحاً:

والضرورة في الاصطلاح فقهية وتطلق إطلاقين أحدهما: ضرورة قصوى تبيح المحرّم سوى ما استُثني. والثانية: ضرورة دون ذلك وهي المعبّر عنها بالحاجة إلاّ أنهم يطلقون عليها الضرورة في الاستعمال توسعاً.

1 الضرورة الفقهية بالمعنى الأخص:

عرّفها السيوطي بقوله: (فالضرورة بلوغه حدّاً إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب وهذا يبيح تناول الحرام) (الأشباه والنظائر: ص61). وهذه هي الضرورة التي قال عنها إمام الحرمين أنها لا تثبت حكماً كلياً في الجنس بل يعتبر تحقيقها في كل شخص كأكل الميتة وطعام الغير.

قال في مغني المحتاج وهو\" شافعي\": ومن خاف\" من عدم الأكل \"على نفسه موتاً أو مرضاً مخوفاً\" أو زيادته أو طول مدته أو انقطاعه عن رفقته أو خوف ضعف عن مشي أو ركوب ولم يجد حلالاً يأكله ووجد محرماً كميتة و لحم خنـزير وطعام الغير \"لزمه أكله\". (6/158)

الدردير في الشرح الصغير \"مالكي\": \"الضرورة هي حفظ النفوس من الهلاك أو شدة الضرر\". (الدردير: 2/183)

عرّفها الجصاص(حنفي): \"هي خوف الضرر أو الهلاك على النفس أو بعض الأعضاء بترك الأكل\"(أحكام القرآن: 1/195)

قال القرطبي: الاضطرار لا يخلو أن يكون بإكراه من ظالم أو بجوع من مخمصة والذي عليه الجمهور من الفقهاء والعلماء في معنى الآية هو من صيره العدم والغرث وهو الجوع إلى ذلك، وقيل معناه أكره وغلب على أكل هذه المحرّمات. (القرطبي: 2/225).

2- الضرورة بالمعنى الاستعمالي الفقهي الموسع والتي تعني الحاجة:

قال خليل: \" وصح قبله (أي بدو الصلاح) مع أصله أو ألحق به أو على شرط قطعه إن نفع واضطر \" أي احتيج كما في التوضيح عن اللخمي لا بلوغ الحد الذي ينتفي مع الاختيار\". (الزرقاني: 5/187)

ومن استعمال الضرورة ويُراد بها الحاجة قول المازري في شروط اغتفار الغرر اليسير: قال ابن عرفة: \" زاد المازري كون متعلق اليسير غير مقصود وضرورة ارتكابه، وقرره بقوله منه بيع الأجنة وجواز بيع الجبة المجهول قدر حشوها الممنوع بيعه وحده وجواز الكراء لشهر مع احتمال نقصه وتمامه وجواز دخول الحمام مع قدر ماء الناس ولبثهم فيه والشرب من الساقي إجماعاً، في الجميع دليل على إلغاء ما هو يسير دعت الضرورة للغوه \".

وممن استعملـها بمعنى الحاجة من الشافعية صاحب نهاية المحتاج قائلاً: \" نعم الأولى بيعه ما زاد عليها ما فضل عن كفايته ومؤنة سنة \" ويجبر من عنده زائد على ذلك في زمن الضرورة.

3- المعنى الأصولي للضرورة:

للضرورة معنى ثالث هو المعنى الأصولي ونبَّه عليه إمام الحرمين في البرهان في القسم الثالث، وقد ذكرناه. وقد زاد الأمر وضوحاً عندما قال: \"وهو يعتبر البيع من الضروري ويلتحق به (الضروري) تصحيح البيع فإن الناس لو لم يتبادلوا ما بأيديهم لجرّ ذلك ضرورة ظاهرة فمستند البيع إذا آل إلى الضرورة الراجعة إلى النوع والجملة ثم قد تمهد في الشريعة أن الأصول إذا ثبتت قواعدها فلا نظر إلى طلب تحقيقها في آحاد النوع. (ص 923 وما بعدها)

وقد أوضح الشاطبي بأنها إحدى الكليات الثلاث التي ترجع إليها مقاصد الشريعة حيث يقول: \" فأما الضرورية فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت حياة وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين \" وتكلم الشاطبي عن مراعاة الضرورة من جانب الوجود ومراعاتها من جانب العدم ومثَّل لذلك بأصول العبادات والمعاملات. (فليراجع: 2/8-9)

وهذا هو الكلي المعبّر عنه بالضروري لأنه من ضرورات سياسة العالم وبقائه وانتظام أحواله حسب عبارة الطوفي. (3/209)

ومثله قول الشوكاني: \" أنها إن كانت تلك المصلحة ضرورية قطعية كلية كانت معتبرة فإن فقد أحد هذه الثلاثة لم تعتبر، والمراد بالضرورية أن تكون من الضروريات الخمس وبالكلية أن تعم جميع المسلمين، لا لو كانت لبعض الناس دون بعض أو في حالة مخصوصة دون حالة \". (الشوكاني: إرشاد الفحول: ص242)

وقال الشاطبي: \" مجموع الضروريات خمس وهي حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل. \"(الموافقات: 3/10).

وأما لماذا سُميت بالضرورة؟ إما لأنها ضرورة لانتظام حياة الناس كما تقدم أو لأن اعتبارها (التفات إلى مصلحة علم بالضرورة كونها مقصودة للشرع لا بدليل واحد بل بأدلة خارجة عن الحصر. (إرشاد الفحول: ص242).

وبعد التعريف بالضرورة لغة وبالضرورة في اصطلاح الفقهاء والأصوليين نلاحظ أن الضرورة أمر يورث ضيقاً ومشقة إلاّ أن هذا الضيق يتفاوت في شدته فالضرورة من باب الكلي المشكك عند المناطقة وهو كما قال الأخضري في شرحه لنظمه (السلم) في المنطق: \"وإن اختلف فيها بالشدة والضعف سمي كلياً مشككاً كالبياض فإنَّ معناه في الورق أقوى من معناه في القميص مثلاً. وهذا بخلاف المتواطيء وهو الذي اتحد معناه في أفراده كالإنسان\". (يُراجع شرح السلم عند قوله):

ونِسبَةُ الأَلفَـاظِ للمَعَانِي *** خَمسَةُ أَقسَامِ بِلا نُقصَـانِ

تَوَاطُؤ تَشَاكُكُ تَخَالُـفُ *** والاشتِراكُ عَكسُه التَرَادُفُ

وأرى أن التنبيه على الضرورة والمشقة والحاجة ثلاثتهن من باب الكلي المشكك قد يكون مفتاحاً لفهم اختلاف عبارات اللغويين والفقهاء فالضرورة يمكن أن تُطلق في حال الشدة القصوى كما يمكن أن تُطلق في حالات دون ذلك وبالتالي تترتب أحكام مختلفة على ذلك كما رأيت.

أصل مشروعية حكم الضرورة:

في قول الله - تعالى -: \"وَقَد فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيكُم إِلاَّ مَا اضطُرِرتُم إِلَيهِ\"] الأنعام: 119 [

قال الجصاص: ذكر الله - تعالى -الضرورة في هذه الآيات وأطلق الإباحة في بعضها لوجود الضرورة من غير شرط ولا صفة وهو قوله - تعالى -: \"وَقَد فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيكُم إِلاَّ مَا اضطُرِرتُم إِلَيهِ\" فاقتضى ذلك وجود الإباحة بوجود الضرورة في كل حال وُجدت فيها. (أحكام القرآن للجصاص: 1/147).

وقال - تعالى -: \"فَمَنِ اضطُرَّ غَيرَ بَاغٍ, وَلاَ عَادٍ, فَلاَ إِثمَ عَلَيهِ\"]البقرة: 173[قال ابن عطية: \" ومعنى اضطر عدم \" وغرث، هذا هو الصحيح الذي عليه جمهور العلماء والفقهاء.

وقيل: معناه أكره وغلب على أكل هذه المحرمات. (المحرر الوجيز لابن عطية: 2/71).

والنصوص كثيرة بهذا المعنى.

وبالوقوف عند قوله - تعالى -: \"وَقَد فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيكُم إِلاَّ مَا اضطُرِرتُم إِلَيهِ\"، يفهم المرء معنيين: المعنى الذي ذكره الجصاص وهو وجود الإباحة حيثما وجدت الضرورة. ومعنى آخر وهو إنما فصّل من المحرمات لا تبيحه إلاّ الضرورة. وهذا ما يشير إليه الحصر في استثناء عموم من عموم يمكن أن يفهم منه بسهولة أن الحاجة إنما تدخل المجملات ولا تدخل في المفصلات والله أعلم.

تعريف الحاجة:

الحاجة لغة: قال الفيروز أبادي ممزوجاً بشارحه:

(والحاجة) المأربة (م) أي معروفة وقوله - تعالى -: \"وَلِتَـبلُغُوا عَلَيهَا حَاجَةً فِى صُدُورِكُم\"]غافر: 80[. قال ثعلب: يعني الأسفار. وعن شيخنا: وقيل أن الحاجة تُطلق على نفس الافتقار وعلى الشيء الذي يفتقر إليه، وفي اللسان تحوج إلى الشيء احتاج إليه وأراده (ج حاج) تقول: لا يمنعه قضاء الحاجة الأولى عن قضاء الحاجة الأخرى، كما قال الشاعر:

وأُرضِعُ حَاجَةً بِلبَانِ أُخرَى*** كَذَاكَ الحَاجُ تُرضَعُ باللِّبَانِ

أما الحاجة في الاصطلاح فعلى ضربين: حاجة عامة قد تنزل منزلة الضرورة وهذه هي الحاجة الأصولية وقد سمّاها بعضهم بالضرورة العامة كما أسلفنا، وحاجة فقهية خاصة حكمها مؤقت تعتبر توسيعاً لمعنى الضرورة.

أولاً: الحاجة العامة (الأصولية)

قال إمام الحرمين في المعنى الأول: \" والضرب الثاني ما يتعلق بالحاجة العامة ولا ينتهي إلى حد الضرورة ومثل هذا تصحيح الإجارة فإنها مبنية على الحاجة إلى المساكن مع القصور عن تملكها وضنة ملاكها بها على سبيل العارية فهذه حاجة ظاهرة غير بالغة مبلغ الضرورة المفروضة في البيع وغيره ولكن حاجة الجنس قد تبلغ مبلغ الضرورة للشخص الواحد من حيث إن الكافة لو منعوا عما تظهر الحاجة فيه الجنس، لنال آحاد الجنس أضرار لا محالة تبلغ مبلغ الضرورة في حق الواحد، وقد يزيد أثر ذلك في الضرر الراجع إلى الجنس على ما ينال الآحاد بالنسبة إلى الجنس، وهذا ما يتعلق بأحكام الإيالة والذي ذكرناه مقدار غرضنا الآن\". (البرهان: 924)

وسلك تلميذه أبو حامد الغزالي مسلكه في كتابه \"شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل\" حيث قال في معرض كلامه عن الضرورة الذي سنعود إليه في محله: \"والحاجة العامة في حق كافة الخلق تنزل منزلة الضرورة الخاصة في حق الشخص الواحد. (ص 246)

وإلى جانب هذا الكلام نرى الغزالي نفسه عندما يتحدث عن المصلحة يقول \" إنها وإن وقعت في موضوع الحاجة أو التتمة لم تعتبر وإن وقعت في موضع الضرورة جاز أن يؤدي إليها اجتهاد مجتهد بشرط أن تكون قطعية كلية كما أسلفنا\".

وقفى على أثره تلميذه أبو بكر بن العربي المالكي حيث قال في كتابه القبس (القاعدة السابعة): \"اعتبار الحاجة في تجويز الممنوع كاعتبار الضرورة في تحليل المحرّم \" وبعد أن ضرب مثلاً لذلك باستثناء القرض الذي يضرب له أجل عند مالك من بيع الذهب بالذهب إلى أجل. أضاف: \" ومن ذلك حديث العرايا وبيع التمر فيها على رؤوس النخيل بالتمر الموضوع على الأرض وفيه من الربا ثلاثة أوجه: بيع الرطب باليابس والعمل بالخرص والتخمين في تقدير المالين الربويين وتأخير التقابض إن قلنا أنه يعطيها له إذا حضر جذاذ النخل. (القبس: 2/790-791).

إلاّ أن بعض الفقهاء كابن نجيم والسيوطي نقلوا الحاجة من مفهومها الأصولي إلى القواعد الفقهية دون تقديم ضوابط مما أوهم بعض الباحثين المعاصرين أنه كلما لاحت لوائح مشقة أو عرضت حاجة يعلن الإباحة وكأنه يستند إلى قاعدة قطعية تدل على الحكم بلا واسطة شأن الضرورة الفقهية بمعناها الأخص لا فرق بينهما.

 

مناقشة تنزيل الحاجة منزلة الضرورة:

قلت: إن الحاجة لا يمكن اعتبارها قائمة مقام الضرورة بصفة مطلقة في إباحة المحرّم، بل إن الأصل أن الضرورة وحدها تبيح المحرّم وأن هذا الحكم لا ينسحب على الحاجة كما قال الشافعي: \"وليس يحل بالحاجة محرّم إلاّ في الضرورات\". (الأم: 3/28)

وقال الشافعي: \"الحاجة لا تحق لأحد أن يأخذ مال غيره \". (نفس المرجع: ص77)

والسيوطي نفسه صرّح بذلك: \"أكل الميتة في حالة الضرورة يقدم على أخذ مال الغير\". (الأشباه والنظائر: ص62)

ذلك أن أكل الميتة فيه حق الله - تعالى -فقط وأخذ مال الغير ومنه الربا فيه حق الله - تعالى -وحق الآدمي. قال القرافي: \" وقد يوجد حق الله - تعالى -وهو ما ليس للعبد إسقاطه ويكون معه حق العبد كتحريمه - تعالى -لعقود الربا والغرر والجهالات. (الفروق1/140-141)

فهذه العقود محرّمة لحق الله وحق العباد فكيف يمكن تنزيل الحاجة فيها منزلة الضرورة بإطلاق.

وأكثر العلماء رأوا أن المصلحة الحاجية لا يترتب عليها حكم.

قال الطوفي في شرحه لمختصر الروضة: \" لا يجوز للمجتهد أنه كلما له مصلحة تحسينية أو حاجية اعتبرها ورتّب عليه الأحكام حتى يجد لاعتبارها شاهداً من جنسها. (الطوفي: 3/207)

وقال ابن قدامة في الروضة في سياق حديثه عن المصالح المرسلة التي لم يشر لها الشرع بإبطال ولا باعتبار معين، وهذا على ثلاثة ضروب: أحدها ما يقع في مرتبة الحاجات (وضرب له أمثلة). الضرب الثاني ما يقع في موقع التحسين (وذكر له أمثلة) ثم قال: \" فهذان الضربان لا نعلم خلافاً في أنه لا يجوز التمسك بهما من غير أصل فإنه لو جاز ذلك كان وضعاً للشرع بالرأي ولما احتجنا إلى بعثة الرسل. (روضة الناظر: 1/413 وما بعدها).

ومن قال بتأثير المصلحة في محل الحاجي شرط أن تكون جارية على أصول الشرع وقواعده متفقة مع مبادئه ومقاصده بحيث لا تنافي أصلاً من أصوله ولا دليلاً من أدلته. (الشاطبي \"الاعتصام\": 2/129).

لأن الحنيفية السمحة إنما أتى فيها بالسماح مقيداً بما هو جار على أصولها، وليس تتبعاً للرخص ولا اختيار الأقوال بالتشهي بثابت من أصولها. (الموافقات للشاطبي: 4/145).

ولإيضاح ما نريده نورد كلمات القرافي الآتية في فروقه: (الفرق الحادي والثلاثون بين الانتقال من الحرمة إلى الإباحة يشترط فيها أعلى الرتب وبين قاعدة من الإباحة إلى الحرمة يكفي لها أيسر الأسباب). (الفروق للقرافي: 3/273)

إلاّ أن المحرم أنواع فمنه المحرم لوصفه كالميتة والدم ولحم الخنزير ومنه الحرام لكسبه: كالمأخوذ غصباً أو عقد فاسد وهذا التقسيم لابن تيمية. (الفتاوى: 29/320)

والمحرم لكسبه متفاوت فمنه محرم تحريم المقاصد ومنه المحرم تحريم الوسائل والذرائع. فالأول أشد من الثاني.

والربا أشد محرمات العقود، وحرم الربا لأنه متضمن للظلم فإنه أخذ فضل بلا مقابل وتحريم الربا أشد من تحريم الميسر (ابن تيمية). وقال أيضاً: \" إن تحريم الربا أشد من تحريم القمار لأنه ظلم محقق \".

والربا متفاوت: فربا الفضل لا يساوي ربا النساء، فإن تحريم هذا من تحريم المقاصد، وتحريم الآخر تحريم الوسائل وسد الذرائع، ولهذا لم يبح شيء من ربا النسيئة. (ابن القيم \"أعلام الموقعين\": 2/107)

ولتوضيح ما ذكره ابن القيم نذكر قول القرافي: \" الأحكام على قسمين: مقاصد وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها ووسائل: وهي الطرق المفضية إليها وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم وتحليل غير أنها أخفض رتبة من المقاصد \" (الفروق: 2/33)

والحاصل أن العزيمة راجعة إلى أصل كلي ابتدائي. والرخصة راجعة إلى جزئي مستعصي عن ذلك الأصل الكلي. (الموافقات للشاطبي: 1/300-303)

وإذا كان كلام إمام الحرمين وتلاميذه يرمي إلى تعليل نصوص شرعية- غير اجتهادية بالحاجة فإن المالكية توسعوا في بناء الفروع الاجتهادية على الحاجي الكلي.

قال المواق بعد أن ذكر أنواعاً من عقود الإجارة التي لا يجيزها مالك-: \"وكان سيدي ابن سراج - رحمه الله - فيما هو جار على هذا لا يفتي بفعله ابتداء ولا يشنع على مرتكبه فقصارى أمر مرتكبه أنه تارك للورع.

وما الخلاف فيه شهير لا حسبة فيه ولا سيما إن دعت لذلك حاجة.

ومن أصول مالك أنه يراعي الحاجيات كما يراعي الضروريات فأجاز الرد على الدرهم، مع كونه يجعل مد عجوة من باب الربا وأجاز تأخير النقد في الكراء المضمون. إلى أن قال: ويُباح الغرر اليسير بخلاف باب الربا.

وسُئل سيدي ابن سراج - رحمه الله -: هل تجوز المشاركة في العلوفة أن يكون الورق على واحد وعلى الآخر الخدمة وتكون الزريعة بينهما على نسبة الحظ المتفق عليه؟ فأجاب: قد أجاز ما ذكر بعض العلماء، فمن عمل بذلك على الوجه المذكور للضرورة وتعذّر الوجه الآخر فيرجى أن يجوز إن شاء الله.

ورأيت له فتيا أخرى قال فيها: \" ويجري ذلك على مقتضى قول مالك في إجازة الأمر الكلي الحاجي\".

وقريب من هذا المنحى ما ذهب إليه بعض الأحناف في مسائل الإجارة حيث قالوا: \" وجاز إجارة القناة والنهر مع الماء، به نفتي لعموم البلوى مضمرات \" (الدر المختار). علّق ابن عابدين بقوله: قوله (مع الماء) أي تبعاً قال في كتاب الشرب من البزارية لم تصح إجارة الشرب لوقوع الإجارة على استهلاك العين مقصود إلاّ إذا أجر أو باع مع الأرض فحينئذٍ, يجوز تبعاً\".

وعنه قال: رأيت ابن الشجـاع يقاطـع نساجاً ينسج له كل سنة. (الحاشية: 5/38). وفي الدر المختار: ويفتي اليوم بصحتها \" الإجارة \" لتعليم القرآن والفقه والإمامة والأذان ويجبر المستأجر على دفع ما قبل\".

علّق ابن عابدين بقوله: \" قال في الهداية: وبعض مشايخنا - رحمهم الله - تعالى -استحسنوا الاستئجار على تعليم القرآن اليوم لظهور التواني في الأمور الدينية ففي الامتناع تضييع حفظ القرآن وعليه الفتوى\".

وذكر مجموع ما أفتى به المتأخرون من مشايخنا وهم البلخيون على خلاف في بعضه مخالفين ما ذهب إليه الإمام وصاحباه. (حاشية ابن عابدين: 5/34-35).

وهكذا نرى المتأخرين من أتباع الإمامين مالك وابن حنيفة يتوسعون في التعامل مع الحاجي أحياناً مع مخالفة منصوص الإمام بناءً على ما فهموه من قواعد الإمامين.

وقد احتج الشيخ تقي الدين بن تيمية لابن عقيل في مسألة إجارة الأرض والشجر بقوله: \" فإن قيل إن ابن عقيل جوز إجارة الأرض والشجر جميعاً لأجل الحاجة وأنه سلك مسلك مالك لكن مالكاً اعتبر القلة في الشجر وابن عقيل عمم فإن الحاجة داعية إلى إجارة الأرض البيضاء التي فيها شجر وإفرادها عنها بالإجارة متعذر أو متعسر لما فيه من الضرر فجوز دخولها في الإجارة كما جوز الشافعي دخول الأرض مع الشجر تبعاً في المساقاة. (الفتاوى: 30/231).

وفي مذهب الشافعي ما حكى صاحب التلخيص عن نص الشافعي - رحمه الله - أن الأرزاق التي يخرجها السلطان للناس يجوز بيعها قبل قبضها.

وبعد ذكره للخلاف في هذه المسألة، قال النووي: \" ودليل ما قاله الأول وهو الأصح أن هذا القدر من المخالفة للقاعدة احتمل للمصلحة والرفق بالجند لمسيس الحاجة \"(المجموع: 9/268).

وقد أصل أبو إسحاق الشاطبي هذا المفهوم الحاجي واضعاً إياه في إطاره الأصولي قائلاً: \" ومما ينبني على هذا الأصل قاعدة الاستحسان\". وهو في مذهب مالك الأخذ بمصلحة جزئية في مقابل دليل كلي. ومقتضاه الرجوع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس، فإن من استحسن لم يرجع إلى مجرد ذوقه وتشهيه، وإنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع في الجملة في أمثال تلك الأشياء المفروضة كالمسائل التي يقتضي القياس فيها أمراً إلاّ أنّ ذلك الأمر يؤدي إلى فوات المصلحة من جهة أخرى أو جلب مفسدة كذلك. وكثيراً ما يتفق هذا في الأصل الضروري مع الحاجي، والحاجي مع التكميلي فيكون إجراء القياس مطلقاً في الضروري يؤدي إلى حرج ومشقة في بعض موارده فيستثنى موضع الحرج وكذلك في الحاجي مع التكميلي أو الضروري مع التكميلي وهو ظاهر.

وله في الشرع أمثلة كثيرة كالقرض مثلاً فإنه ربا في الأصل لأنه الدرهم بالدرهم إلى أجل، ولكنه أبيح لما فيه من الرفق والتوسعة على المحتاجين، بحيث لو بقي على أصل المنع لكان في ذلك ضيق على المكلفين. ومثله بيع العارية بخرصها تمراً فإنه بيع الرطب باليابس، لكنه أبيح لما فيه من الرفق ورفع الحرج بالنسبة إلى المعرِي والمُعَرى ولو امتنع مطلقاً لكن وسيلة لمنع الإعراء، كما أن ربا النسيئة لو امتنع في القرض لامتنع أصل الرفق من هذا الوجه، ومثله الجمع بين المغرب والعشاء للمطر وجمع المسافر، وقصر الصلاة، والفطر في السفر الطويل، وصلاة الخوف، وسائر الترخصات التي على هذا السبيل، فإن حقيقتها ترجع إلى اعتبار المآل في تحصيل المصالح أو درء المفاسد على الخصوص، حيث كان الدليل العام يقتضي منع ذلك لأنا لو بقينا مع أصل هذا الدليل العام لأدى إلى رفع ما اقتضاه ذلك الدليل من المصلحة، فكان من الواجب رعي ذلك المآل إلى أقصاه، ومثله الاطلاع على العورات في التداوي والقرض والمساقاة وإن كان الدليل العام يقتضي المنع وأشياء من هذا القبيل كثيرة.

هذا نمط من الأدلة الدالة على صحة القول بهذه القاعدة وعليها بنى مالك وأصحابه.

وقد قال ابن العربي في تفسير الاستحسان بأنه إيثار ترك مقتضى الدليل على طريق الاستثناء والترخيص، لمعارضة ما يعارض به في بعض مقتضياته.

وقال في أحكام القرآن: الاستحسان عندنا وعند الحنفية هو العمل بأقوى الدليلين فالعموم إذا استمر والقياس إذا أطرد فإن مالكاً وأبا حنيفة يريان تخصيص العموم بأي دليل كان من ظاهر أو معنى.

ويستحسن مالك أن يخص بالمصلحة، ويستحسن أبو حنيفة أن يخص بقول الواحد من الصحابة الوارد بخلاف القياس، ويريان معاً تخصيص القياس ونقص العلة.

ولا يرى الشافعي لعلة الشرع إذا ثبتت تخصيصاً.

وأجاز مالك تلاوة الحائض للقرآن حتى لا تنسى وهو مخصص لعام.

وإذا قلت كيف تخصص الحاجة وهي ليست من المخصصات اللفظية من نصوص وظواهر الكتاب والسنّة وغيرها كالإجماع والمفهوم بنوعيه والقياس؟

قلت: إنما يعزى التخصيص للاستصلاح أو الاستحسان الذي يعتمد على الحاجة وذلك أمر معروف في المذهبين الحنفي والمالكي كما تقدم عن الشاطبي.

وإن الذي ينبغي التنبيه عليه أن هذه المسائل التي أجازها من أجازها للحاجة فإنها وإن كانت تخصيصاً من العموم في النهي عن قراءة الجنب للقرآن والنهي عن قرض يجر نفعاً والنهي عن بيع قبل القبض فإنه عموم ضعيف في المسائل المخصوصة لأن حديث الجنب جاء في معرض جنابة غير الحائض وهو حديث علي، فكان الحيض بمنزلة الصورة النادرة بالنسبة لراوي الحديث.

وكذلك فإن استثناء السفتجة وهي منفعة لا تشتمل على زيادة من الصور النادرة بالنسبة للمتكلم فإنه عندما يتحدث عن جر النفع فإنه يعني بالأصالة الزيادة أو الهدية أو نحو ذلك، وعلى هذا نبّه ابن قدامة من طرف خفي عندما قال إنه لا نص في تحريمها أي بخصوصها.

وقال مثل ذلك في مسألة الأرزاق ومعلوم أن نوادر الصور مختلف في دخولها في العموم كما أسلفنا.

ثانيا الحاجة الفقهية:

الملحقة بالضرورة الفقهية وهي من باب التوسع في معنى الضرورة والاضطرار إذ الضرورة لفظ مشكك وهو كلي يكون معناه أشد في بعض أفراده من بعض، فمن توسع أطلق على الحد الوسيط (الحاجة) ومن لم يتوسع اقتصر على الحد الأعلى: الضرورة. وليس هذا من باب القياس وإنما هو من باب الأدلة اللفظية.

وهذه الحاجة الفقهية لا تحدث أثراً مستمراً ولا حكماً دائماً بل هي كالضرورة تقدّر بقدرها وقد ذكرنا مثالاً لذلك نعيده باختصار هو مسألة بيع الثمرة قبل بدو صلاحها وشروط الاستثناء من المنع، حيث قال خليل (وصح قبله) أي بدو صلاحه مع أصله أو ألحق به أو على قطعه واضطر أي احتيج كما في التوضيح (له) من المتبايعين أو أحدهما كما يعطيه ترك تقيده مع بنائه للمجهول (الزرقاني5/187).

وهذه حاجة فقهية لأنها تثبت حكماً فقط في محل الاحتياج وهي شخصية بمعنى أنها لا تجوز لغير المحتاج ولا تتجاوز محلها.

وهذا ما يفرق الحاجة الفقهية عن الحاجة الأصولية التي تثبت حكماً مستمراً ولا يطلب تحققها في آحاد أفرادها. فالسلم يجوز للمحتاج وغير المحتاج كما قدمنا، وكذلك قول خليل في مسألة تلقي السلع: \" وجاز لمن على ستة أميال أخذ محتاج إليه \". ومعناه أن من كان بعيداً عن المدينة يجوز له اشتراء ما يحتاج إليه من السلع قبل وصوله السوق. قال الحطاب عن ابن رشد: \" وأما إن مرت به السلع على قرية على أميال من الحاضرة فيجوز له أن يشتري ما يحتاج إليه لا لتجارة، لمشقة النهوض عليه إلى الحاضرة. (الحطاب4/380).

هذه هي الحاجة الفقهية وتعتبر توسعاً في معنى الضرورة فتقدّر بقدرها وهي حاجة شخصية.

هذا هو الفرق بين الحاجة الأصولية العامة التي تثبت بها الأحكام بالنص أو الاستحسان والاستصلاح، وبين الحاجة الفقهية الخاصة التي تعتبر توسعاً في الضرورةº مهم جداً في تصنيف الحاجة وترتيب الأحكام عليها.

وبذلك ندرك وجود نوعين من الحاجة أحدهما حاجة عامة والأخرى حاجة خاصة شخصية.

وحيث إن الحاجة الفقهية ملحقة بالضرورة فقد يُختلف في بعض الفروع هل تشترط فيها الضرورة القصوى أو الحاجة؟

في مسألة إيجاب بيع الأقوات على من هي عنده وقت الغلاء يختلف في الضرورة التي توجب ذلك.

فعند القرطبي إنما يجب البيع إن خيف بحبسه إتلاف المهج (أي الضرورة) فإن مست الحاجة ولم يكن الخوف المذكور بل دونه وجب عند ابن رشد. (الزرقاني 5/4).

فابن رشد ألحق الحاجة هنا بالضرورة إلاّ أن الضرورة التي لا تعني الحاجة قد يصرح معها بما ينفي ذلك كما في رواية ابن القاسم في فسخ الدين في منافع يتأخر قبضها من الغريم، قال فيه إلاّ عند الضرورة التي تحل أكل الميتة مثل أن يكون في صحراء بحيث لا يجد كراء ويخشى على نفسه الهلاك إن لم يأخذ منه دابة يبلغ عليها، وأشهب يجيز أن يأخذ منه دابة لما بقي له وإن لم تكن له ضرورة. (الحطاب4/368).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply