بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
أما بعد:
إن الجود والكرم وكثرة العطاءº من صفات المؤمنين الصادقين، وهي قبل ذلك صفة من صفات الله تعالى فهو الكريم سبحانه والجود صفة من صفاته.
جود الله:
فعَن أَبِي ذَرٍّ, عَن النَّبِيِّ فِيمَا رَوَى عَن اللَّهِ- تبارك وتعالى -أَنَّهُ قَالَ ((...يَا عِبَادِي لَو أَنَّ أَوَّلَكُم وَآخِرَكُم وَإِنسَكُم وَجِنَّكُم قَامُوا فِي صَعِيدٍ, وَاحِدٍ, فَسَأَلُونِي فَأَعطَيتُ كُلَّ إِنسَانٍ, مَسأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِندِي إِلَّا كَمَا يَنقُصُ المِخيَطُ إِذَا أُدخِلَ البَحرَ... )) مسلم.
ويقول: ((إنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يُحِبٌّ الكَرِيمَ وَمَعَالِيَ الأَخلَاقِ وَيَكرَهُ سَفسَافَهَا)).
فالله سبحانه هو أجود الأجودين، وجوده يتضاعف في أوقات خاصة كشهر رمضان، وفيه أنزل: ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) [البقرة: 186].
ومن سابغ جود الله وعظيم كرمه تفضله في هذا الشهر بعتق عباده من النيران. وعند الترمذي: ((... وَيُنَادِي مُنَادٍ,: يَا بَاغِيَ الخَيرِ أَقبِل، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقصِر، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِن النَّارِ، وَذَلكَ كُلٌّ لَيلَةٍ,)) [حسنه الألباني (759)].
جود النبي:
وقد جبل الله تعالى نبيه على أكمل الأخلاق وأشرفها، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ, قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ أَجوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَجوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ، حِينَ يَلقَاهُ جِبرِيلُ، وَكَانَ يَلقَاهُ فِي كُلِّ لَيلَةٍ, مِن رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ أَجوَدُ بِالخَيرِ مِن الرِّيحِ المُرسَلَةِ) البخاري. وعند أحمد في آخر الحديث: ((لَا يُسأَلُ عَن شَيءٍ, إِلَّا أَعطَاهُ)).
ووجه التشبيه بين أجوديته بالخير وبين أجودية الريح المرسلة أن المراد بالريح ريح الرحمة التي يرسلها الله تعالى لإنزال الغيث العام.. فيعم خيره وبره كل الناس، الفقير منهم والغني.
عَن أَنَسٍ, قَالَ: (كَانَ النَّبِيٌّ أَحسَنَ النَّاسِ وَأَشجَعَ النَّاسِ وَأَجوَدَ النَّاسِ) البخاري.
وكان جوده بجميع أنواع الجود من بذل العلم والمال، وبذل نفسه لله تعالى في إظهار دينه، وهداية عباده، وإيصال النفع إليهم بكل طريق، من إطعام جائعهم ووعظ جاهلهم وقضاء حوائجهم، ولم يزل النبي على هذه الخصال الحميدة من نشأ، ولهذا قالت له خديجة في أول مبعثه: ((كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحمِلُ الكَلَّ وَتَكسِبُ المَعدُومَ وَتَقرِي الضَّيفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ)) البخاري.
ثم تزايدت هذه الخصال فيه بعد البعثة وتضاعفت أضعافاً كثيرة.
تعود بسط الكف حتى لو أنـه *** ثناها لقبض لم تجبه أنامــله
تراه إذا مـا جئتـه مــتهللا *** كأنك تعطيه الـذي أنت سائله
هو البحر من أي النواحي أتيته *** فلجته المعروف والجود ساحله
ولو لم يكن في كفه غير روحه *** لجاد بها فليتق الله ســـائله
وفي تضاعف جوده في شهر رمضان فوائد كثيرة:
1 - شرف الزمان ومضاعفة الأجر فيه.
2 - إعانة الصائمين والقائمين والذاكرين على طاعتهم لله تعالى، فيستوجب المعين لهم مثل أجرهم: عَن زَيدِ بنِ خَالِدٍ, الجُهَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: ((مَن فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثلُ أَجرِهِ غَيرَ أَنَّهُ لَا يَنقُصُ مِن أَجرِ الصَّائِمِ شَيئًا)) الترمذي.
3 - الجمع بين الصيام والصدقة من موجبات الجنة، كما جاء بالحديث، عَن أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: ((مَن أَصبَحَ مِنكُم اليَومَ صَائِمًا؟ قَالَ أَبُو بَكرٍ,: أَنَا. قَالَ: فَمَن تَبِعَ مِنكُم اليَومَ جَنَازَةً؟ قَالَ أَبُو بَكرٍ,: أَنَا، قَالَ: فَمَن أَطعَمَ مِنكُم اليَومَ مِسكِينًا؟ قَالَ أَبُو بَكرٍ,: أَنَا. قَالَ: فَمَن عَادَ مِنكُم اليَومَ مَرِيضًا؟ قَالَ أَبُو بَكرٍ,: أَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا اجتَمَعنَ فِي امرِئٍ, إِلَّا دَخَلَ الجَنَّةَ)) مسلم.
كما أن الجمع بين الصيام والصدقة أبلغ في تكفير الخطايا، كما في حديث معاذ قال النبي: ((أَلَا أَدُلٌّكَ عَلَى أَبوَابِ الخَيرِ، الصَّومُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطفِئُ الخَطِيئَةَ كَمَا يُطفِئُ المَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ مِن جَوفِ اللَّيلِ. قَالَ: ثُمَّ تَلَا تَتَجَافَى جُنُوبُهُم عَن المَضَاجِعِ)) الترمذي.
4 - الصدقة تجبر ما في الصيام من الخلل، والصيام لا بد أن يقع فيه من خلل ونقص، وتكفير الصيام للذنوب مشروط بالتحفظ مما ينبغي التحفظ منه، وعام صيام الناس لا يجتمع في صومهم التحفظ كما ينبغي، والصدقة تجبر ما فيه من نقص، ولهذا وجب في آخر رمضان زكاة الفطر، عَن ابنِ عَبَّاسٍ, قَالَ: (فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ زَكَاةَ الفِطرِ طُهرَةً لِلصَّائِمِ مِن اللَّغوِ وَالرَّفَثِ وَطُعمَةً لِلمَسَاكِينِ، مَن أَدَّاهَا قَبلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقبُولَةٌ، وَمَن أَدَّاهَا بَعدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِن الصَّدَقَاتِ) أبو داود.
الصدقة والإطعام باب لرفعة الدرجات:
عَن أَبِي هُرَيرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ: ((قَالَ مَا مِن يَومٍ, يُصبِحُ العِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعطِ مُنفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعطِ مُمسِكًا تَلَفًا)) البخاري.
وعن أَبِي بُردَةَ عَن أَبِيهِ عَن النَّبِيِّ قَالَ: ((عَلَى كُلِّ مُسلِمٍ, صَدَقَةٌ فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَمَن لَم يَجِد؟ قَالَ: يَعمَلُ بِيَدِهِ فَيَنفَعُ نَفسَهُ وَيَتَصَدَّقُ. قَالُوا: فَإِن لَم يَجِد؟ قَالَ: يُعِينُ ذَا الحَاجَةِ المَلهُوفَ. قَالُوا: فَإِن لَم يَجِد؟ قَالَ: فَليَعمَل بِالمَعرُوفِ وَليُمسِك عَن الشَّرِّ فَإِنَّهَا لَهُ صَدَقَةٌ)) البخاري.
قال النَّبِيٌّ: ((وَلَيَلقَيَنَّ اللَّهَ أَحَدُكُم يَومَ يَلقَاهُ وَلَيسَ بَينَهُ وَبَينَهُ تَرجُمَانٌ يُتَرجِمُ لَهُ، فَلَيَقُولَنَّ لَهُ: أَلَم أَبعَث إِلَيكَ رَسُولًا فَيُبَلِّغَكَ؟ فَيَقُولُ: بَلَى. فَيَقُولُ: أَلَم أُعطِكَ مَالًا وَأُفضِل عَلَيكَ؟ فَيَقُولُ: بَلَى. فَيَنظُرُ عَن يَمِينِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا جَهَنَّمَ، وَيَنظُرُ عَن يَسَارِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا جَهَنَّم))َ.
قَالَ عَدِيُّ بن حاتم سَمِعتُ النَّبِيَّ يَقُولُ: ((اتَّقُوا النَّارَ وَلَو بِشِقَّةِ تَمرَةٍ,، فَمَن لَم يَجِد شِقَّةَ تَمرَةٍ, فَبِكَلِمَةٍ, طَيِّبَةٍ,)) البخاري.
عَن أَبِي هُرَيرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ((قَالَ اللَّهُ: أَنفِق يَا ابنَ آدَمَ أُنفِق عَلَيكَ)) البخاري.
وعنه عَن النَّبِيِّ قَالَ: ((لَو كَانَ عِندِي أُحُدٌ ذَهَبًا لَأَحبَبتُ أَن لَا يَأتِيَ عَلَيَّ ثَلَاثٌ وَعِندِي مِنهُ دِينَارٌ لَيسَ شَيءٌ أَرصُدُهُ فِي دَينٍ, عَلَيَّ أَجِدُ مَن يَقبَلُهُ)) البخاري.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد