بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
الله أكبر كلما صام صائم وأفطر، الله أكبر كلما لاح صباح عيد وأسفر، الله أكبر كلما سطع برق وأنور، وكلما أرعد سحاب وأمطر، والحمد لله الذي سهل لعباده عبادته ويسر، ووفاهم أجورهم من خزائن جوده فأوفر، ومنَّ عليهم بأعياد تعود عليهم بالخيرات والبركات وتتكرر، والحمد لله الذي تابع بين مواسم العبادة لتشييد الأوقات بالطاعة وتعمر، فما انقضى شهر الصيام حتى أعقبه بشهور حج بيت الله المطهر، نحمده على نعمه التي لا تحصى ولا تحصر، ونشكره على فضله وإحسانه، وحق له أن يشكر.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله انفرد بالخلق والتدبير، وكل شيء عنده بأجل مقدر، أشهد أن محمداً عبده ورسوله ذو الوجه النور والجبين الأزهر، أفضل من تعبد لله وصلى وزكى وحج واعتمر، صلى الله عليه وعلى آله الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهر، وعلى أصحابه السبّاقين إلى الخيرات فنعم الصحب والمعشر، وعلى التابعين لهم بإحسان في كل زمان ما بدا فجر وأنور، وسلم تسليم كثيراً.
أما بعد:
عباد الله، اتقوا الله - تعالى - وأنيبوا إليه، فإن الله لا يقبل الحسنات ولا يقيل العثرات إلا من المتقين إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ?للَّهُ مِنَ ?لمُتَّقِينَ [المائدة: 27].
عباد الله، كنتم بالأمس في شهر رمضان شهر البركات والخيرات، شهر مضاعفة الأعمال والحسنات، تصومون نهاره، وتقومون ما تيسر لكم من ليله، وتتقربون إلى ربكم - سبحانه - بفعل الطاعات، وهجر المباح من الشهوات، وترك السيئات الموبقات، ثم مضت تلك الأيام وقطعتم مرحلة من مراحل العمر، والعمل بالختام، فمن أحسن فليحمد الله وليواصل الإحسان بالإحسان، ومن أساء فليتب إلى الله وليصلح العمل ما دام في وقت الإمكان.
تمـر بنـا الأيام تترى وإنــما *** نساق إلى الآجال والعين تنظر
فلا عائد ذاك الشباب الذي مضى *** ولا زائـل ذاك الشيب المكدر
إن هذه الليالي والأيام، والشهور والأعوام، كلها مقادير الآجال، ومواقيت الأعمال، ثم تنقضي سريعاً وتمضي جميعاً، والذي أوجدها وابتدعها باق لا يزول ودائم لا يحول، هو في جميع الأوقات إله واحد، ولأعمال عباده رقيب مشاهد. قيل لبشر الحافي: إن قوماً يتعبدون الله في رمضان فإذا انسلخ تركوا، قال: بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان. وسئلت عائشة - رضي الله عنها - هل كان يخص يوماً من الأيام؟ فقالت: لا، كان عمله ديمة.
عباد الله، إن نهج الهدى لا يتحدد بزمان، وعبادة الرب وطاعته ليست مقصورة على رمضان، بل لا ينقطع مؤمن من صالح العمل إلا بحلول الأجل، فإن في استدامة الطاعة وامتداد زمانها نعيما للصالحين، وقرة أعين الفالحين، يعمرون بها الزمان ويملأون لحظاته بما تسر لهم من خصال الإيمان، التي يثقل بها الميزان، ويتجمل بها الديوان، وفي الحديث قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((خَيرُ النَّاسِ مَن طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ)).
واعلموا رحمكم الله أن لقبول العمل علامات، وللكذب في التوبة والإنابة أمارات، فمن علامة قبول الحسنة فعل الحسنة بعدها، ومن علامة السيئة السيئة بعدها، فأتبِعوا الحسنات بالحسنات تكن علامة على قبولها، وتكميلاً لها، وتوطيناً للنفس عليها، حتى تصبح من سجاياها وكرم خصالها، وأتبعوا السيئات بالحسنات تكن كفارة لها، ووقاية من خطرها وضررها \"إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذهِبنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكرَى لِلذَّاكِرِينَ\" [هود: 114].
وفي الحديث الصحيح عن النبي قال: ((اتَّقِ اللَّهِ حَيثُمَا كُنتَ وَأَتبِع السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ, حَسن)).
فاتقوا الله عباد الله في سائر أيامكم، وراقبوه في جميع لحظاتكم، وتقربوا إليه بصالح أعمالكم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
أيها المسلمون، كيف ندوام على العمل الصالح؟ وما أسباب العمل الصالح؟
إذا أردنا المحافظة على العمل الصالح والمداومة عليه، فإنه يلزمنا أمور:
(العزيمة الصادقة) على لزوم العمل والمداومة عليه أيا كانت الظروف والأحوال وهذا يتطلب منا ترك العجز والكسل، ولذا كان نبينا يتعوذ بالله من العجز والكسل لعظيم الضرر المترتب عليهما فاستعن بالله - تعالى - ولا تعجز.
(القصد القصد في الأعمال)، ولا تحمل نفسك مالا تطيق، ولذا يقول النبي: \"خُذُوا مِن العَمَلِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلٌّ حَتَّى تَمَلٌّوا)) \"وَأَحَبٌّ الصَّلَاةِ إِلَى النَّبِيِّ مَا دُووِمَ عَلَيهِ وَإِن قَلَّ، وَكَانَ إِذَا صَلَّى صَلَاةً دَاوَمَ عَلَيهَا\"، رواه البخاري ومسلم.
ولنعلم أن البركة في المداومة، فمن حافظ على قراءة جزء من القرآن كل يوم ختمه في شهر، ومن صام ثلاثة أيام في كل شهر فكأنه صام الدهر كله، ومن حافظ على اثنتي عشرة ركعة في كل يوم وليلة بنى الله له بيتاً في الجنة.. وهكذا بقية الأعمال.
(لا يُحسَنُ تَركُ العملِ الصالحِ) عليك أن تتذكر أنه لا يحسن بمن داوم على عمل صالح أن يتركه.. فعن عَبدُ اللَّهِ بنُ عَمرِو بنِ العَاصِ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ: ((يَا عَبدَ اللَّهِ لَا تَكُن مِثلَ فُلَانٍ, كَانَ يَقُومُ اللَّيلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيلِ)) رواه البخاري ومسلم.
(استحضارُ عملِ الصالحين) استحضار ما كان عليه أسلافنا الأوائل: فهذا الحبيب محمد خير الناس وأتقى الناس وأشجعهم تخبرنا أم المؤمنين عائشة أنه كان إذا نام من الليل أو مرض صلى في النهار اثنتي عشرة ركعة. رواه مسلم.
وسيد المؤذنين وخازن الرسول الأمين بلال بن رباح قال له النبي ذات يوم ((يَا بِلَالُ حَدِّثنِي بِأَرجَى عَمَلٍ, عَمِلتَهُ فِي الإِسلَامِ، فَإِنِّي سَمِعتُ دَفَّ نَعلَيكَ بَينَ يَدَيَّ فِي الجَنَّةِ ـ يَعنِي تَحرِيكَ نعليك ـ قَالَ: مَا عَمِلتُ عَمَلًا أَرجَى عِندِي أَنِّي لَم أَتَطَهَّر طَهُورًا فِي سَاعَةِ لَيلٍ, أَو نَهَارٍ, إِلَّا صَلَّيتُ بِذَلِكَ الطٌّهُورِ مَا كُتِبَ لِي أَن أُصَلِّيَ)) أين نحن من هؤلاء؟
إن معرفة مثل هذه الأخبار تدفع العبد إلى المداومة على العمل الصالح ومحاولة الاقتداء بنهج السلف والسير على منوالهم.
(اجتناب المعاصي والآثام) فهي من أعظم ما يصد عن ذكر الله فضلاً عن المداومة على العمل الصالح، يقول الله - تعالى -: \"كَلاَّ بَل رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكسِبُونَ\" [المطففين: 14]. ويقول النبي: ((تُعرَضُ الفِتَنُ عَلَى القُلُوبِ كَالحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيٌّ قَلبٍ, أُشرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكتَةٌ سَودَاءُ، وَأَيٌّ قَلبٍ, أَنكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكتَةٌ بَيضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلبَينِ: عَلَى أَبيَضَ مِثلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرٌّهُ فِتنَةٌ مَا دَامَت السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ، وَالآخَرُ أَسوَدُ مُربَادًّا كَالكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعرِفُ مَعرُوفًا وَلَا يُنكِرُ مُنكَرًا إِلَّا مَا أُشرِبَ مِن هَوَاهُ..)) مسلم. ولكي تقي السيئات عليك باجتناب أربع أمور، فضول النظر والاستماع والِِِِِِكلام والمخالطة.
أسأل الله - تعالى - أن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام وسائر الطاعات، وأعاد علينا وعلى أمة الإسلام هذا الشهر بالقبول والغفران، والصحة والسلام، والأمن والأمان، وعز الإسلام وارتفاع راية الدين ودحر أعداء الملة الكافرين منهم والمنافقين، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد