بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله، إن لشهر رمضان طعماً خاصاً وحديثاً يجلي القلوب ومحبة خاصة، وشعوراً غريباً لا يشعر به إلا المحبون الراغبون في هذا الشهر، وما فيه من الخير العظيم العميم، وكأني بأولئك المؤمنين يطلقون العبرات والزفرات والدعوات لعلهم أن يكونوا من عتقاء هذا الشهر، وممن يمتن الله عليهم بصيامه وقيامه، ((مَن صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ)). إن قلوب المتقين إلى هذا الشهر تحن ومن ألم فراقه تئن.
وما ضاع من أيامنا هل يقوَّم *** فهيهاتَ والأزمانُ كيف تقـومِ
ويـوم بأرواح يباع ويشترى *** وأيـام وقت لا تسـام بدرهمِ
ومع كل هذا الشوق والحنين، وكل هذا الخير، فهناك من يفرط في رمضان، ويخسر فضله وأجره، وما عرف من رمضان إلا الجوع والعطش، قال رَسُولُ اللَّهِ: ((رُبَّ صَائِمٍ, حَظٌّهُ مِن صِيَامِهِ الجُوعُ وَالعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ, حَظٌّهُ مِن قِيَامِهِ السَّهَرُ)) أحمد، فأي حرمان بعد هذا؟ نعوذ بالله من الخسران، لماذا نخسر رمضان؟ كلنا بحاجة إلى أن يسأل نفسه، لماذا نخسر رمضان؟ ألم نعلم فضائله ومزاياه؟ ألم نعلم أنه شهر عظيم شهر التوبة والمغفرة ومحو السيئات، وشهر العتق من النيران، موسم الخيرات، وفرصة لا تعوض، وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم، فما بالهم. أحقاً من خسر رمضان يجهل هذه الفضائل أم يتجاهل.
إن الخسارة في هذا الشهر تتفاوت من إنسان لآخر، فهناك من كسب أرباحاً طائلة لا تعد ولا تحصى في هذا الشهر، و والله إنه لهو السعيد، فليشكر الله فإنه فضل من الله ومنة \" فَلَولاَ فَضلُ اللَّهِ عَلَيكُم وَرَحمَتُهُ لَكُنتُم مّنَ الخَـاسِرِينَ \" [البقرة\"64]، وهناك من خسر خسراناً مبيناً \"وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيطَـانَ وَلِيّاً مّن دُونِ اللَّهِ فَقَد خَسِرَ خُسرَاناً مٌّبِيناً\" [النساء:119]، وهناك من كان بَينَ بَين، فتارة يخسر وتارة يربح: \"وَءاخَرُونَ اعتَرَفُوا بِذُنُوبِهِم خَلَطُوا عَمَلاً صَـالِحاً وَءاخَرَ سَيّئاً عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيهِم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ\" [التوبة:102].
عباد الله، ((رَغِمَ أَنفُ رَجُلٍ, دَخَلَ عَلَيهِ رَمَضَانُ فَانسَلَخ َ قَبلَ أَن يُغفَرَ لَهُ)) الترمذي وصحح الألباني، فماذا عملنا في رمضان وكيف نقضي أيامه ولياليه.
من فاته الزرع في وقت البذار *** فما تراه يحصد إلا الهم والنـدما
طوبا لمن كانت التقـوى بضاعته *** في شهره وبحبل الله معتصما
ـ كيف يُخسر رمضان؟ وما هي أسباب خسرانه؟
أولاً: الغفلة عن النية وعدم احتساب الأجر، فاعلم أنك ما تركت الطعام والشراب وابتعدت عن المعاصي والشهوات إلا لله وحده طلبا لرضاه واستجابة لأمره لا يهمنّك أحد من الناس علم أم لم يعلم، فصومك لله وخوفك لله، ولهذه المعاني الجميل قال الله في الحديث القدسي ((إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجزِي بِهِ، يَدَعُ شَهوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِن أَجلِي))، إذا فالصيام عبادة خفية بينك وبين الله لا يعلم بها إلا الله، فقد تشرب وتأكل لا يعلم بك أحد من الناس، ولكن وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ, عَمَّا تَعمَلُونَ، فمن صام بهذه المعاني وجد حلاوة الصيام وشعر بلذة رمضان فأقدم على الأعمال الصالحة أيما إقدام.
ثانياً: إهمال الصلوات الخمس، وتأخيرها عن وقتها وأداؤها بكسل وخمول، وهذا من أعظم أسباب خسارة رمضان، فمن لم يحرص على الفرائض ولم يقم بالواجبات، فكيف يرجى منه النوافل، بل كيف يرجى منه استغلال رمضان، ربما صلى الرجل في آخر الوقت الصلاة ينقرها نقر الغراب، فكيف لمن كان هذا حاله أن يستغل رمضان في طاعة الله والفوز فيه، بل هذا يخشى على صيامه ألا يقبل والعياذ بالله.
ثالثاً: السهر: وهو من أعظم خسارة رمضان، وكيف يرجى لمن سهر طوال الليل أن يفوز برمضان، والسهر عباد الله مكروه إن كان على مباح فكيف بمن سهر على حرام، أكثر الناس يجلسون طوال الليل مع الأقارب أو مع الأصحاب وتذهب الساعات بالقيل والقال ولعب الورق وتتبع القنوات الفضائية، وربما جلسوا حتى وقت السحر لم يقرؤوا حرفاً من كتاب الله، أليست خسارة أن تضيع هذه الساعات الطوال من رمضان في كل ليلة بمثل هذا؟.
رابعاً: كثرة الأكل في رمضان، وهذا فيه من الخسارة ما الله به عليم، قال النبي: ((مَا مَلَأَ آدَمِيُّ وِعَاءً شَرًّا مِن بَطنٍ, بِحَسبِ ابنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمنَ صُلبَهُ، فَإِن كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ)) الترمذي، صححه الألباني. وقال النووي: \"إن أردت أن يصح جسمك ويقل نومك فأقلل من الأكل\". وقيل للإمام أحمد - رحمه الله -: هل يجد الرجل من قلبه رقة وهو شبع؟ فأجاب: \"ما أرى\". وقال محمد بن واسع: \"من قل طعامه فهم وأفهم وصفا ورقّ، وإن كثرة الطعام لتقل صاحبها عن كثير مما يريد\".
خامساً: كثرة النوم والخمول والكسل، وهو حصيلة أكيدة لكثرة الأكل والسهر، ولو نام العبد في الليل ساعات لجلس بعد صلاة الفجر يذكر الله ويقرأ القرآن وأصبح طوال نهاره طيب النفس نشيط.
سادساً: سماع الغناء، فالأذن تصوم وصيامها عن سماع الفواحش والحرام، وإني لأعجب والله كيف ينتشر الغناء في كثير من بيوت المسلمين، خاصة خلال هذا الشهر شهر القرآن، ثم هل يعقل أن يجتمع في بيت واحد صوت الرحمن وصوت الشيطان، وإن اجتمعا كيف حال القلب وهل سيتأثر بهذا أم بذاك، ولكم أن تتصوروا الهموم والقلق كيف يمزق القلب ويفتته، فتارة يستجيب لنداء الرحمن وحلاوته، وتارة يطرب ويسكر بالأوتار ومزامير الشيطان ومنبت النفاق في القلب ورقية الزنا، فأي ضياع وأي خسران بعد هذا!
أسماؤه دلت على أوصافه *** تباً لذي الأسماء والأوصاف
وصدق القائل:
برئنا إلى الله مـن معشر *** بهم مرض من سماع الغنا
وكم قلت يا قوم أنتم على *** شـفا جرف ما به من بنا
شفا جرف تحته هــوةٌ *** إلى درك كـم به من عنا
وتكرار ذا النصح منا لهم *** لنعــذر فيهم إلى ربـنا
فلما استهانـوا بتنـبيهنا *** رجعنا إلى الله في أمـرنا
فعشنا على سنة المصطفى *** ومـاتوا على تنتنا تنـتنا
نعم، عبادُ الله المخلصين وأهل الله وخاصته في منأى من ذلك، تطيب نفوسهم لسماع كلام محبوبهم، يتنعمون بين رياضه النضرة، فبارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
سابعاً: التسويف: وقد قطع هذا المرض أعمارنا حتى في أفضل الأيام والشهور، حتى ونحن نعلم أننا قد لا ندرك رمضان آخر، حتى ونحن نعلم أن رمضان شهر المغفرة والتوبة، حتى ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وهي ثلاث وثمانون سنة وزيادة، لم تسلم من التسويف، فلا حول ولا قوة إلا بالله، ومثال التسويف في رمضان قراءة القرآن يريد الرجل أن يقرأ بعد صلاة الفجر ولكنه متعب من السهر، ثم بعد الظهر ولكنه مرهق من العمل، ثم بعد العصر، ولكنه يشترى حاجيات المطبخ، وربما في الليل لكنه مع الأقارب أو مع الرفاق، وهكذا فينسلخ رمضان لم يستطع أن يختم ولو مرة واحدة، فمسكين هذا العبد، لذلك كان التسويف من أعظم أسباب خسارة رمضان، إنه لمن الخسارة والحرمان أن تمر هذه الليالي المباركة على الإنسان وهو يسرح ومرح.
قل للذي ألِف الذنوب وأجرما *** وغـدا على زلاتـه متنـدما
لا تيأسن واطلب كريما دائما *** يولي الجميل تفضلا وتكـرما
يا معشر العاصين جودٌ واسعٌ *** من إلـه لمن يتـوب ويـندما
يا أيها العبد المسيء إلى متى *** تفني زمـانك في عسى ولربما
بادر إلى مولاك يا من عمره *** قد ضاع في عصيانه وتصرما
فاللهم أرنا الحق حقا ورزقنا اتباعه....
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد