يقول الله - سبحانه وتعالى - في محكم التنزيل: {يَا أَيٌّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن نَفسٍ, وَاحِدَةٍ, وَخَلَقَ مِنهَا زَوجَهَا وَبَثَّ مِنهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيكُم رَقِيباً} [النساء: 1]، وبالنظر في هذه الآية نجدها تتضمن أمورًا كثيرة من الأمر بتقوى الله - سبحانه وتعالى - وبيان مظاهر الامتنان بخلق الإنسان وما تبع ذلك من تناسل وتكاثر رجالاً ونساءً، وكل أمر من هذه الأمور بحاجة إلى بحث وتفصيل لا يتسع المقام لذكره ولكن سأقتصر في حديثي هذا على ما ورد في آخر هذه الآية وهو قوله - تعالى -: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرحَامَ}.
الأرحام: جمع الرحم، والرحم في اللغة: القرابة، والرحمة والتعطف والرأفة. وتراحم القوم: رحم بعضهم بعضًا.
وأما الرحم في الاصطلاح: فهو اسم لكافة الأقارب من غير فرق بين المحرم وغيره. ذكر هذا الإمام القرطبي - رحمه الله - في تفسيره.
أما عن موقف الشرع من الرحم وما أعد الله لمن وصل رحمه من الثواب الجزيل وما ورد من الوعيد الشديد لمن قطع رحمه، فنقول: إن الله - سبحانه وتعالى - قد حث المؤمنين على صلة الأرحام ورغبهم فيها، وبالنظر إلى الآية الآنفة الذكر وهي قوله - تعالى -: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرحَامَ} نجد أن الله - سبحانه وتعالى - قد قرن فيها بين تقواه - سبحانه - وبين صلة الأرحام، قال الإمام القرطبي - رحمه الله - عند تفسير هذه الآية: \"اتقوا الله أن تعصوه واتقوا الأرحام أن تقطعوها. والجمع بين تقوى الله والحث على صلة الرحم والتحذير من قطعها دليل على تأكيد الإسلام على صلة الأرحام، وإلا لما جعله الله قرينًا للتقوى فلما جمع معه تأكد الحث عليه والعناية به\".
وفي موضع آخر من القرآن جمع الله بين الإفساد في الأرض وقطيعة الرحم فقال - تعالى -: {فَهَل عَسَيتُم إِن تَوَلَّيتُم أَن تُفسِدُوا فِي الأَرضِ وَتُقَطِّعُوا أَرحَامَكُم} [محمد: 22]، ولا شك أن لهذا الجمع مغزى ألا وهو تبكيت قطيعة الرحم والتحذير منها فمجرد الجمع بين القطيعة والإفساد في الأرض تحذير ووعيد، ثم إنه - سبحانه - قد رتب في هذه الآية اللعن على من هذه حاله وأخبر أنه - سبحانه - قد أصم أذني هذا الشخص عن سماع الحق وأعمى بصره عن رؤية الطريق المستقيم طريق أوليائه الصالحين، فقال - سبحانه -: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُم وَأَعمَى أَبصَارَهُم} [محمد: 23]، ثم إنه - سبحانه وتعالى - قد توعد الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل من الأرحام وغيرها فقال - تعالى -: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهدَ اللَّهِ مِن بَعدِ مِيثَاقِهِ وَيَقطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفسِدُونَ فِي الأَرضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعنَةُ وَلَهُم سُوءُ الدَّارِ} [الرعد: 25]، ومن هذه الآية نستلهم وجوب صلة الأرحام وتحريم قطيعة الرحمº إذ إن الحق - سبحانه - قد توعد من يقطع ما أمره الله بوصله من رحم وغيره، قد توعده باللعن وهو الطرد من رحمة الله، كما توعده بأن له سوء الدار والمراد بذلك جهنم حمانا الله وإياكم منها.
وقد وردت أحاديث كثيرة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تحث على صلة الأرحام وترغب فيها وتبين ما اشتملت عليه من الأجر العميم والثواب الجزيل لمن وصل رحمه وحسنت نيته في ذلك، أي فعل ذلك محتسبًا الأجر من الله فمن ذلك ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: \"من كان يؤمن الله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت\"، فقد حث الرسول - صلى الله عليه وسلم - على صلة الأرحام وجعل ذلك علامة على قوة الإيمان بالله واليوم الآخر وأن ترك ذلك مما يضعف الإيمان وينقصه إذ قطيعة الرحم معصية والإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية كما هو مقرر لدى علماء الإسلام.
ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أن صلة الرحم سبب في بسط الرزق وطول العمر والبركة فيه، فعن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: \"من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه\" متفق عليه. ومعنى ينسأ له في أثر: أي يؤخر له في أجله وعمره، فما أعظمها من خصلة وما أجدر بالمسلمين من الأخذ بها.
وحيث أن مطامع المؤمن لا تقتصر على أمور الدنيا الفانية بل نظره وجل فكره ينصرف إلى الدار الآخرة وما أعد الله له فيها لذا بين - صلى الله عليه وسلم - أن صلة الرحم مما يدخل الجنة ويباعد عن النار، فعن أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري - رضي الله عنه - أن رجلاً قال: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: \"تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم\" متفق عليه. وهذا يدل على فضل صلة الرحم وسمو مكانته حيث جمعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع إخلاص العبادة لله والصلاة والزكاة فوق ما أخبر من أنه يدخل الجنة ويباعد فاعله عن النار.
وصلة الرحم لا تقتصر على وصل من وصلك لأن هذا من باب المكافأة ورد الجميل، ولكن الواصل الحقيقي هو من يصل أرحامه الذين يقطعونه، ومصداق هذا ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: \"ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها\" رواه البخاري. وبذلك يزيد أجر المرء الواصل لأقاربه وذوي رحمه المحسن إليهم الصابر على ذلك إذا كانوا يسيئون إليه رغم إحسانه ويقطعونه رغم صلته، أما أقاربه القاطعون المسيئون لمن أحسن إليهم فعليهم وزر عظيم وذنب كبير. فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلاً قال: يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عليهم ويجهلون عليّ، فقال: \"لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك\" رواه مسلم.
وتسفهم المل: أي كأنما تطعمهم الرماد الحار وهو تشبيه لما يلحقهم من الإثم بما يُلحق الرماد الحار من الألم.
ومن حرص الإسلام على صلة الرحم ومنعه القطيعة أنه لم يستثن أحدًا من الأقارب فيرخص بقطيعته حتى القريب الكافر أمر الإسلام بصلته والإحسان إليه، فعن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - قالت: \"قدمت على أمي وهي مشركة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستفيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت: قدمت علي أمي وهي راغبة أفأصل أمي؟ قال: \"نعم صلي أمك\" متفق عليه.
قولها: راغبة، أي طامعة عندي تسألني شيئًا.
وترغيبًا في صلة الرحم فقد فرق الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين الصدقة على المسكين البعيد وبين الصدقة على المسكين ذي الرحم وجعل الصدقة على ذي الرحم تفضل الصدقة على غيره لأجل القرابة والرحم، فعن سليمان بن عامر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: \"الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة\" رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
وقد حذرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قطيعة الرحم وبين أن وصلها سبب في وصل الإنسان لكل خير وقطعها سبب لقطعه عنه فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"إن الله - تعالى -خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطعية، قال: نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى. قال: فذلك لك\". ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"اقرءوا إن شئتم: {فَهَل عَسَيتُم إِن تَوَلَّيتُم أَن تُفسِدُوا فِي الأَرضِ وَتُقَطِّعُوا أَرحَامَكُم} [محمد: 22]\". وفي رواية للبخاري: \"قال الله - تعالى -: من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته\"، وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله\" متفق عليه.
وأشد من هذا وأعظم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد توعد من قطع رحمه بالحرمان من الجنة، فعن أبي محمد جبير بن مطعم - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: \"لا يدخل الجنة قاطع\" قال سفيان في روايته: يعني (رحم). متفق عليه.
فما أجمل هذا الدين الذي يحث على الترابط والتكاتف والتواصل ويحذر من التقاطع والتدابر، وحري بنا أن نحرص على هدي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وأن نعض على سنته بالنواجذ ونحافظ على صلة الأرحام ونحث إخواننا المسلمين على ذلك ونحذر من القطيعة ففيها ما ذكرنا من الوعيد الشديد. نسأل الله السلامة والعافية.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد