أولاً: أسبابها وتاريخها:
أشعل عرب الشام فتيل الصراع بين المسلمين والبيزنطيين، فقد دأبت قبيلة كلب من قضاعة التي كانت تنزل على دومة الجندل على مضايقة المسلمين، وحاولت أن تفرض عليهم نوعًا من الحصار الاقتصادي عن طريق إيذائها للتجار الذين كانوا يحملون السلع الضرورية من الشام إلى المدينة، ولذلك غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبيلة كلب بدومة الجندل سنة (5هـ) لكنه وجدهم قد تفرقوا، كما أن رجالا من جذام ولخم قطعوا الطريق على دحية بن خليفة الكلبي عند مروره بحسمى بعد إنجازه لمهمة أناطها به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستلبوا كل ما معه، فكانت سرية زيد بن حارثة إلى حسمى في سنة 6هـ، ويضاف إلى ذلك أيضا ما قامت به قبيلتا مذحج وقضاعة من اعتداء على زيد بن حارثة وصحبه في العام المذكور (6هـ)، وذلك عندما ذهبوا إلى وادي القرى في بعثة بغرض الدعوة إلى الله، وبعد صلح الحديبية أخذ هذا المسلك العدواني يأخذ منحنى أكثر خطورة(1)، بعد مقتل الحارث بن عمير الأزدي رسول رسول الله إلى حاكم (بصرى) التابع لحاكم الروم، فقد قام شرحبيل بن عمرو الغساني بضرب عنق رسول رسول الله، ولم تجر العادة بقتل الرسل والسفراء، كما أن الحارث بن أبي شمر الغساني حاكم دمشق أساء استقبال مبعوث رسول الله وهدد بإعلان الحرب على المدينة، ثم حدث بعد ذلك بما يزيد قليلا عن العام أن بعث رسول الله سرية بقيادة عمرو بن كعب الغفاري ليدعو إلى الإسلام في مكان يقال له (ذات أطلاح) فلم يستجب أهل المنطقة إلى الإسلام وأحاطوا بالدعاة من كل مكان وقاتلوهم حتى قتلوهم جميعًا إلا أميرهم، كان جريحًا فتحامل على جرحه حتى وصل إلى المدينة فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(2)، وقد قام نصارى الشام بزعامة الإمبراطورية الرومانية بالاعتداءات على من يعتنق الإسلام أو يفكر بذلك، فقد قتلوا والي مَعَانَ حين أسلم، وقتل والي الشام من أسلم من عرب الشام(3).
كانت هذه الأحداث المؤلمة وبخاصة مقتل سفير رسول الله الحارث بن عمير الأزدي، محركة لنفوس المسلمين، وباعثًا ليضعوا حدًّا لهذه التصرفات النصرانية العدوانية، ويثأروا لإخوانهم في العقيدة الذين سُفكت دماؤهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ونبينا محمد رسول الله(4). كما أن تأديب عرب الشام التابعين للدولة الرومانية والذين دأبوا على استفزاز المسلمين وتحديهم وارتكاب الجرائم ضد دعاتهم أصبح هدفًا مهمًّا، لأن تحقيق هذا الهدف معناه فرض هيبة الدولة الإسلامية في تلك المناطق بحيث لا تتكرر مثل هذه الجرائم في المستقبل، وبحيث يأمن الدعاة المسلمون على أنفسهم ويأمن التجار المترددون بين الشام والمدينة من كل أذى يحول دون وصول السلع الضرورية إلى المدينة(5).
وفي سنة 8هـ أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين بالتجهز للقتال، فاستجابوا للأمر النبوي وحشدوا حشودًا لم يحشدوها من قبل، إذ بلغ عدد المقاتلين في هذه السرية ثلاثة آلاف مقاتل، واختار النبي - صلى الله عليه وسلم - للقيادة ثلاثة أمراء على التوالي: زيد بن حارثة، ثم جعفر بن أبي طالب، ثم عبد الله بن رواحة(6)، فقد روى البخاري في صحيحه بإسناده إلى عبد الله ابن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - قال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة مؤتة زيد بن حارثة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن قُتل زيد فجعفر، وإن قُتل جعفر فعبد الله بن رواحة (7).
وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجيش الإسلامي أن يأتوا المكان الذي قتل فيه الحارث بن عمير الأزدي - رضي الله عنه - وأن يدعوا من كان هناك إلى الإسلام فإن أجابوا فبها ونعمت، وإن أبوا استعينوا بالله عليهم وقاتلوهم(8).
وقد زود الرسول - صلى الله عليه وسلم - الجيش في هذه السرية وغيرها من السرايا بوصايا تتضمن آداب القتال في الإسلام(9)، فقد أوصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بقوله: «أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين خيرًا، اغزوا باسم الله، في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا ولا تقتلوا وليدًا، ولا امرأة ولا كبيرًا فانيًا، ولا منعزلاً بصومعة، ولا تقربوا نخلا، ولا تقطعوا شجرًا، ولا تهدموا بناء، وإذا لقيتم عدوكم من المشركين فادعوهم إلى إحدى ثلاث: فإما الإسلام، وإما الجزية، وإما الحرب...»(10).
ثانيًا: وداع الجيش الإسلامي:
لما تجهز الجيش الإسلامي وأتم استعداده، توجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون يودعون الجيش، ويرفعون أكف الضراعة لله - عز وجل - أن ينصر إخوانهم المجاهدين، لقد سلموا عليهم وودعوهم بهذا الدعاء: دفع الله عنكم وردكم صالحين غانمين(11).
ولما ودع الناس عبد الله بن رواحة وسلموا عليه بكى وانهمرت الدموع من عينيه ساخنة غزيرة، فتعجب الناس من ذلك، وقالوا: ما يبكيك يا ابن رواحة؟ فقال: والله ما بي حب الدنيا وصبابة، ولكن سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار (وَإِن مِنكُم إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتمًا مَّقضِيًّا) [مريم: 71]، فلست أدري كيف بي بالصدر بعهد الورود، فقال لهم المسلمون: صحبكم الله ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين، فقال عبد الله بن رواحة:
لكني أسأل الرحمن مغفرة *** وضربة ذات فراغ تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة *** بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقولوا إذا مروا على جدثي *** أرشده الله من غاز وقد رشدا(12)
وودع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن رواحة، فقال ابن رواحة يخاطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
يثبت الله ما آتاك من حسن *** تثبيت موسى ونصرًا كالذي نصروا
إني تفرست فيك الخير نافلة *** فراسة خالفتهم في الذي نظروا
أنت الرسول فمن يحرم نوافله *** والوجه منه فقد أزرى به القدر(13)
ثالثًا: الجيش يصل إلى معان واستشهاد الأمراء الثلاثة:
لما وصل الجيش الإسلامي إلى معان من أرض الشام -وهي الآن محافظة من محافظات الأردن- بلغه أن النصارى الصليبيين من عرب وعجم قد حشدوا حشودًا ضخمة لقتالهم، إذ حشدت القبائل العربية مائة ألف صليبي من لخم وجذام وبهراء وبلى، وعينت لهم قائدًا هو مالك بن رافلة، وحشد هرقل مائة ألف نصراني صليبي من الروم فبلغ الجيش مائتي ألف مقاتل، مزو
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد