بسم الله الرحمن الرحيم
ليس التاريخ إلا محاولة للبحث عن الذات، للعثور على هويتنا الضائعة في هذا العالم..للتجذّر في الخصائص وتعميق الملامح والخصوصيات ذات البعد الزمني.إنه بشكل من الأشكال محاولة لوضع اليد على نقاط التألّق والمعطيات الإنسانية، والرصيد الحضاري من أجل استعادة الثقة بالذات في لحظات الصراع الحضاري الراهن التي تتطلّب ثقلاً نوعياً للأمم والشعوب وهي تجد نفسها قبالة مدنية الغرب الغالبة.. إزاء حالة من تخلخل الضغط وضياع التوازن الجوّي الذي يسحب إلى المناطق المنخفضة رياح التشريق والتغريب وأعاصيرها المدمّرة.
ورغم هذا كلّه فإننا نجد معظم طلبة التاريخ في جامعاتنا يعانون للأسف الشديد من عقدة الإحساس بالنقص إزاء الفروع والتخصصات الأخرى. بينما نجد هؤلاء الطلبة في جامعات العالم المتقدم يتمتعون بأعلى وتائر الثقة والطموح والاعتقاد بأنهم يمضون للتخصص في واحد من أكثر فروع المعرفة الإنسانية أهمية وفاعلية.
وأنتم تعرفون جيداً كيف أن العديد من قادة الغرب وساسته ومفكريه المهيمنين على مفاصل الحياة الحساسة هم من خريجي التاريخ، كما أن بعضكم لا يزال يتذكر تلك المناظرة التي جرت بين المؤرخ البريطاني المعروف أرنولد توينبي وسفير إسرائيل في كندا، في خمسينيات هذا القرن.
ادّعى السفير المذكور حقاً تاريخياً لليهود في فلسطين وأعرب عن استعداده لتأكيد رأيه لكل من يرغب في مناقشته، فتصدّى له توينبي ودخل معه في حوار استغرق أكثر من ثلاث ساعات انتهى بتفنيد حجج السفير، الواحدة تلو الأخرى.. وفي الحالتين فإن الخبرة التاريخية هي التي دفعت السفير إلى تحدّيه وجعلت توينبي يستجيب له وهو يعرف مسبقاً أنه يملك الأدلة(1).
لقد أطلق أجدادنا على التاريخ اسم \"أبو العلوم\" وهم يدركون جيداً أن المعرفة التاريخية تستلزم إلماماً بمعظم المعارف الإنسانية الأخرى لأن التاريخ إنما هو حركة حياة بكل ما تنطوي عليه الحياة من معارف وخبرات(2).
ومنذ عقود بعيدة في الزمن مارس الآباء في ديارنا خطيئة عدم تنبيه أبنائهم إلى أهمية المعرفة التاريخية، بل إنهم عمقوا في نفوسهم نظرة الازدراء إلى التاريخ، وإلى معظم الفروع الإنسانية الأخرى، من أجل أن يدفعوا بهم صوب الفروع العلمية الصرفة التي كانوا يعتقدون أنها تقدم ضمانات أكثر في المستقبل على المستوى المعيشي ومكانة اجتماعية أعلى.
ونحن لا نتجّه إلى المسلمين عموماً، فإن لهم أن يفعلوا ما يشاءون مع أبنائهم، ولكننا نتوجه بالخطاب إلى الإسلاميين الذين يتحتّم أن يولوا المعرفة الإنسانية والتاريخية خاصة اهتماماً أكبر، ويغروا أبناءهم بالإفادة من الفرصة الجامعية للتحقّق بها من أجل أن يكون هناك عدد كاف من المتخصصين في هذا الفرع، قدير على مجابهة التحديات الثقافية ذات البطانة والخلفيات التاريخية. لقد كتب المؤرخ الفرنسي المعروف هنري كروسيه منذ ما يزيد على نصف القرن كتابه الموسوم \"رصيد التاريخ\"(3) محاولاً فيه أن يمارس قراءة متأنّية للتاريخ الأوروبي (المسيحي) وأن يمضي إلى ما وراء الوقائع والأحداث بحثاً عن الجوهر والمغزى. وكم نحن بحاجة إلى محاولات كهذه تمضي للتعامل مع تاريخنا بحثاً عن رصيده الباقي، القدير على الحضور في قلب العصر، وفي المستقبل، من أجل إعادة صياغته بما يجعله أقرب إلى مطامح الإنسان وهمومه من خلال التصور العالي والمحكم الذي جاء به هذا الدين.
إن التاريخ ليس، كما يخيل للكثيرين، مجرد حروب ومعاهدات، أو سلالات حاكمة تسقط وأخرى تقوم.. إنه قبل هذا وبعده خبرة حضارية، ومشروع للتعامل مع الإنسان، وفرصة لاختبار قدرة العقائد والأديان على التحقّق في الزمن والمكان وعلى تأكيد واقعيتها ومصداقيتها.
وتاريخنا بالذات يتميز بكونه انعكاس أكثر صدقاً لتأثيرات الإسلام، لقدرة هذا الدين على إعادة صياغة العقل والوجدان، وجدولة الظواهر والوقائع والأِشياء بما يضعها جميعاً في حالة الوفاق المنشود الذي هو أحد الأهداف الأساسية لهذا الدين الذي يستهدف جعل الإنسان والعالم يتجهان بنبضهما وحركتهما ومعطياتهما كافة إلى الله وحده.
إن الدراسة التاريخية والحالة هذه تغدو ضرورة من الضرورات، لأن العقيدة لا تتحرك في الفراغ ولابد لها من قضاء تتشكّل فيه وتعبّر عن قدرتها على التحقّق، حيث يصير التاريخ المرآة التي تعكس الحالة الإسلامية، بدرجة أو أخرى، على صفحة العالم.
______________________
الهوامش:
(1) ينظر: أرنولد توينبي: فلسطين جريمة ودفاع، ترجمة عمر الديراوي، دار العلم للملايين، بيروت 1961 المجتمع.
(2) يمكن أن نشير هنا إلى مصنّفات من مثل: \"الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ\" للسخاوي و\"الشماريخ في علم التاريخ\" للسيوطي، فضلاً عن \"المقدمة\" لابن خلدون.
(3) ترجمة محمد خليل الباشا، المنشورات العربية، بيروت بدون تاريخ.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد