بسم الله الرحمن الرحيم
لن يتسع المجال في مقال كهذا للدخول في التفاصيل، ولذا سيتم التركيز على الخصائص الأساسية بالإيجاز المطلوب.
1. المرونة وعدم التأزّم المذهبي: يتميز الموقف الإسلامي من التاريخ بمرونته وبعده
عن التوتر أو التأزم المذهبي الذي يسعى إلى قولبة الوقائع التاريخية، وصبّها في هيكله المسبق، واستبعاد أو تزييف كل ما لا ينسجم وهذا الهيكل، الأمر الذي يوقع التفاسير الوضعية في كثير من الأخطاء والانحرافات. هذا إلى جانب أن الفكر الوضعي لابد وأن يتأثر بطبيعة العصر الذي يعيشه سلباً وإيجاباً، وبدرجة أو أخرى، وهذا (التأثير) المحتوم ينعكس - ولا ريب - على معطياته الفكرية سواء كانت (صيغة) هذا التأثر بشكل (تقبّل) لقيم العصر وأوضاعه ومناهجه ورؤاه، أو (رفض) لها وتمرّد عليها. ففي كلتا الحالتين يلعب الجانب التأثري الانفعالي، والاسقاطات الظاهرة والخفية، في \"الوعي\" و\"اللا وعي\"، دوره في الرؤية التي يمارسها المفكر تجاه الأوضاع والأحداث والأشياء.
فإذا ما حدث وكان المفكر مفسراً للتاريخ، وتفسير التاريخ ـ كما نعلم ـ توسيع للتحليل صوب الماضي والمستقبل اللذين يندّان كثيراً عن الحصر والضبط والتحديد، فإن لنا أن نتصور كم سيجيء هذا التفسير مطبوعاً بطابع العصر الذي يعيشه المفسر، وكيف أن الأشياء والظواهر والأحداث، في الماضي والمستقبل، ستأخذ اللون الذي يجد المفسر نفسه مضطراً إلى النظر من خلال زجاجته التي أسقطت عليها مواضعات العصر الظلال والأضواء. وهذا يؤدي إلى أن تبعد التفاسير الوضعية، بدرجة أو أخرى، عن العلمية والموضوعية والحياد.
أما التفسير الإسلامي، الذي يستمد من رؤية الله التي تعلو على الزمان والمكان، وتتجاوز مواضعات العصر النسبية، فإنه ينظر بانفتاح تام إلى الأحداث ويسلّط الأضواء على مساحاتها جميعاً، دون أن يقتصر على الأحمر أو الأخضر لكي تبدو حمراء أو خضراء..وهكذا فان ثمة فرقاً (منهجياً) حاسماً بين المذاهب الوضعية وبين المذهب الإسلامي في تفسير التاريخ..في الأولى تُصاغ حقائق التاريخ، أو يُعاد عرضها، وفق المذهب (المصنوع) سلفاً فتقسر على الانسجام مع وضعية المذهب، وتُساق للتدليل عليه وتأكيده، وهذا الخطأ يجيء من حقيقة أن وقائع التاريخ سبقت في الزمن تخطيط المذاهب، ومن ثم فان المذاهب جاءت كقضية.
(بعدية) تسعى إلى أن تجبر (القبليات) على التشكل بها. وهذا التأزم المذهبي، هذا التحديد الصارم للنظم التي تتبعها الوقائع التاريخية في مسارها، هذا التوتر في التزام هيكل نظري.
مسبق، تُساق أحداث التاريخ للتدليل عليه بالحق والباطل، والذي بلغ أقصى حدته في المادية التاريخية التي رسمها (ماركس وانغلز)، مما دفع عدداً من المفكرين الأوروبيين إلى اتخاذ موقف معاكس تماماً، يمثل رد فعل إزاء الموقف السالف، بحيث أنهم رفضوا القول بخضوع الحركة التاريخية لأي ناموس أو سنة، ومسيرتها وفق أي نظام مهما كان. وقد بلغ هذا الموقف، غير الموضوعي هو الآخر، أقصى حدته على يد (كارل بوبر) في كتابه المعروف (عقم المذهب التاريخي).
أما في القرآن الكريم فإن التفسير ينبثق عن رؤية الله - سبحانه -، وهي تختلف عن الرؤية الوضعية في أنها تحيط علماً بوقائع التاريخ، بأبعادها الزمنية الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، وببعدها الرابع الذي يغيب كثيراً عن ذهن الإنسان مهما كان على درجة من البصيرة والذكاء، البعد الذي يغور في أعماق النفس البشرية فيلامس فطرة الإنسان وتركيبه الذاتي، والحركة الدائمة في كيانه الباطني، ويتسرب بعيداً صوب اهتزازته العقلية والعاطفية والوجدانية، وإرادته المسبقة، وما تؤول إليه هذه جميعاً من معطيات تمنح حركة التاريخ أبعادها الحقيقية، ويمتد كذلك لكي يشتبك في العلاقات الشاملة للمصير. ذلك أنها رؤية الذات الإلهية التي وسعت كل شيء علماً، والتي صنعت الواقعة التاريخية، ووضعتها في مكانها المرسوم من خارطة التاريخ البشري والكوني على السواء.
الرؤية الوضعية تمتد إلى الماضي لتقتبس منه و (تختار) ما يعزّز وجهات نظرها المسبقة، والرؤية القرآنية تحيط بالماضي لكي تكثفه في قواعد وسنن تُطرح أمام كل باحث في التاريخ يسعى إلى فهمه، وإلى أن يرسم على ضوء هذا الفهم، طرائق حياته الحاضرة والمستقبلة، باعتبار أن الأزمان الثلاثة إنما هي وحدة حيوية تحكمها قوانين واحدة، كتلك التي تحكم الحياة سواء بسواء. وهذا ينقلنا إلى الميزة التالية.
2. الواقعية: إن رؤية التفسير الإسلامي للأحداث رؤية واقعية شاملة في امتداداتها الزمنية الماضية والحاضرة والمستقبلية.. فيما كانت عليه، وما هي عليه، وما سوف تكون عليه.. إنه ـ مثلاً ـ يعترف بالتمايز القومي، ويعطي لهذا العامل (الواقعي) حجمه الحقيقي، على الرغم من نزعة الإسلام العالمية، واستعلائه على الكيانات المحدودة المنغلقة على الإقليم أو اللون أو الجنس.. ويؤكد على ضعف الإنسان وتقلبه وعجلته، على الرغم من أنه جاء بمبدأ الاستخلاف الذي رفع به الإنسان إلى أعلى مصاف، وأمر الملائكة بالسجود له.
إن التفسير الإسلامي تفسير (واقعي)، لا يتأثر بقيمه ومثالياته ممكنة الوقوع أساساً، في تفسيره للواقع ـ كما يفعل هيغل وماركس على سبيل المثال ـ إنما يتكلم عن الواقع كما هو، دون تسويغ أو تعديل أو تحوير، ولكنه من خلال حركته على أرض الواقع هذه ينطلق إلى أهدافه ومثله وآفاقه.. إنه يسمي معركة (حنين) هزيمة وفراراً، ويخاطب مهزومي (أحد) بأنهم هم كانوا السبب وراء تلك الهزيمة، ويعلم المسلمين من خلال واقعيته هذه، ألاّ يسوّغوا أخطاءهم وينحرفوا في تفسير الأشياء والوقائع، ولكنه يعلمهم ـ في الوقت نفسه ـ أن يفيدوا من هذه الرؤية الواقعية للتاريخ لصياغة العالم المرتجى.
3. الناموسية: إن التفسير الإسلامي مذهب ينبثق وفق أسلوب موضوعي (عما حدث فعلاً) وعن طبيعة التصميم التاريخي للبشرية.. من سدى نسيجه ولحمته.. فهو إذن تبلور للخطوط الأساسية لحركة التاريخ يصوغها القرآن الكريم والسنة الشريفة في مبادئ عامة يسميانها (سنناً)، ينبغي أن يعتمدها المفسرون الإسلاميون منطلقاً ـ لا لتزييف التاريخ ـ وانما لتفسيره وفهمه وإدراك عناصر حركته ومصائر وقائعه، ومسالكها المعقدة المتشعبة. وهو ـ إذن ـ تفسير شامل محيط يعطي أصدق صورة للسنن التي تسيّر التاريخ.
4. الشمولية: ينفتح التفسير الإسلامي للتاريخ على كافة (القوى الفاعلة) في الحركة التاريخية: المنظورة وغير المنظورة، العقلية والوجدانية، المادية والروحية، الطبيعية والغيبية.. ويرفض تجزؤ الرؤية وعزل الأرض عن موقعها الصحيح في الكون وارتباطاتها الشاملة بما حولها.
إن معظم مذاهب التفسير التاريخي، وضعية كانت أم دينية (محرفة)، قدّمت معطياتها متخطية الإجابة عن هذا السؤال المهم: ما هي العلاقة بين الله - سبحانه - وبين الطبيعة، بما فيها القوى المادية، والإنسان، بما أنه روح وجسد، في صنع التاريخ وإقامة الحضارات؟ وهل من المحتم أن تتكئ أحداث التاريخ على عامل واحد من بين هذه العوامل الثلاثة، ويُلغى العاملان الآخران، أو على الأقل يغدوان ظلالاً باهتة لفاعلية العامل الرئيس؟ ولماذا هذه الجدران التي أُقيمت بين الله والطبيعة والإنسان؟
إن معظم مذاهب التفسير تخطت الإجابة عن هذا السؤال، تاركة في طريقها ثغرة عميقة، ومنغلقة، في بحثها عن الفرضية التي تمنح صفة الفاعلية لعامل واحد، تلغي العوامل الأخرى إلغاء. ومن ثم برز التفسير السحري للتاريخ، وتطوّر ليعبر عن نفسه بالتفسير (اللاهوتي) الذي ساد تفكير مثقفي العصور الوسطى الأوروبية، كما برز التفسير الفردي (البطولي) للتاريخ، والتفسير العقلي (المثالي)، والتفسيرات الطبيعية التي بلغت أقصى حدّتها في (المادية التاريخية) التي يصفونها (بالعلمية).
إن تفسير التاريخ البشري يجب أن ينبثق عن موقف موضوعي شامل، يربط ويوازن ويدرك العلاقة المتبادلة بين سائر القوى التي تصنع التاريخ: مادية وروحية.. طبيعية وغيبية، ولن يتحقق هذا بطبيعة الحال إلا في نطاق (الموقف الإسلامي) حيث تعمل كافة القوى، بانسجام وتوافق، في الصيرورة التاريخية بدءًا وانتهاء.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد