التجديد في الإسلام ( 3 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

شروط المجدِّد:

نستطيع أن نصف المجدِّد بأنه يعيش في قمة عالية، وأمته تعيش في سفحٍ, هابط وهو يعمل لانتشال هذه الأمة من سفحها لتحاول الصعود إلى القمة.

فهو مثل أعلى في صحة العلم ووفرته واتساعه، وفي صدق العمل وإخلاصه، رجل كهذا أقل ما يوصف فيه أنه (سالمٌ) من علل الأمة وأمراضها، ناج من الآفات والانحرافات التي تنخر فيها، (متحلِّ) بالصفات التي يدعو إليها.

ولقد تحدثنا عن مجالات التجديد، ومنها يمكن معرفة صفة المجدِّد وشرطه.

ولكن بعض الذين كتبوا في تعيين المجددين من المصنفين دأبوا على ذكر أسماء بعض العلماء الذين لا يُسَلَّم لهم كونهم من المجددين.

 بل بلغ الحال أن عد بعضهم أحد الخلفاء من المجددين، في حين عده البعض الآخر من البلايا التي ابتليت بها الأمة على رأس المائتين والتي يبعث المجددون لمحو آثارها ومقاومتها! ودأب آخرون على سرد أسماء علماء مذهبهم عبر القرون من المشتغلين بفروع الفقه وعدهم - هم - المجددون.

 وما ذلك إلا لعدم وجود الضابط الواضح الذي يوزن به الرجال فيطيش أقوام، ويرجح آخرون.

 لذلك فنحن بحاجة إلى وضع بعض الضوابط والاحترازات المفيدة في هذا الباب.

 ونحن بحاجة إليها -أيضاً - من ناحية علمية بحيث نستطيع - في واقعنا - تمييز الأصوات المحقة من الأصوات المبطلة، ولا يلتبس علينا هذا بذاك.

 ولذا فسوف نقتصر على ما نرى أنه ضروري في هذا المجال غير متعرضين للصفات الأخرى التي يسهل عدٌّها والحديث عنها:

أ- فالتجديد مهمة (الفرقة الناجية)، وهم (أهل السنة والجماعة):  والفرقة الناجية هي السائرة على نهج الرسل - عليهم الصلاة والسلام - في الاعتقاد وفي غيره، وهي فرقة من ثلاث وسبعين فرقة، وقد سبق بيان بعض خصائصها وصفاتها قبل صفحات، ومن هذا المنطلق نقول: ليس للفرق التي تشايعت على الباطل، وتآلفت علي الهوى، من التجديد نصيب، وكيف وهي تهدم الدين وتشوِّه حقيقته وتلبسه ثوباً غير ثوبه؟.

 إن التجديد لابدّ أن ينطلق من وضوح في الاعتقاد: في الإيمان، والأسماء والصفات، والولاء والبراء، والعبادة، والتشريع، بحيث يكون مذهب أهل السنة والجماعة في جميع ذلك هو المنطلق الأساسي للتجديد.

 والدين عندنا ليس عاطفة هوجاء غامضة تقول: لا تفرقوا الصف، ولا تكفروا المسلمين! الدين عندنا ليس تصفيقاً لكل من هتف باسم الإسلام، ولو كان يرفع راية الإسلام بيد، ويسعى للإجهاز عليه باليد الأخرى.

 الدين عندنا وحي منزل مضبوط محفوظ يحتكم إليه في تقويم الناس، ومن اضطرب في يده هذا الميزان ضاع في التيه البعيد! ومن الغريب أن أقواماً في زماننا عدّوا الشيعة الرافضة مجددين للإسلام، ولا ندري ما هذا الإسلام الذي جدَّدوا؟ !  وأغرب من ذلك أن يُدخلهم عالم مشهور كابن الأثير في عداد المجددين، فيعدٌّ أصحاب المذاهب الأربعة والإمامية! [1]  وما أجمل ما ردّ عليه صاحب عون المعبود حيث قال:  ولا شبهة في أن عدهما من المجددين خطأ فاحش، وغلط بيّن، لأن علماء الشيعة وإن وصلوا إلى مرتبة الاجتهاد، وبلغوا أقصى المراتب من أنواع العلوم، واشتهروا غاية الاشتهار، لكنهم لا يستأهلون المجددية! كيف وهم يخربون الدين فكيف يجددونه؟ ويميتون السنن فكيف يحيونها؟ ويروجون البدع فكيف يمحونها؟ وليسوا إلا من الضالين المبطلين الجاهلين، وجلّ صناعتهم التحريف والانتحال والتأويل لا تجديد الدين، ولا إحياء ما أندرس من العمل بالكتاب والسنة \" [2] وليست المسألة مقصورة على الرافضة فحسب، فالصوفية الذين اعتنقوا الفلسفات اليونانية، ومارسوا الطقوس الهندية الوثنية، وقتلوا روح الجهاد، لا يقلّون خطراً عنهم.

 وأصحاب المدرسة الكلامية في أبواب الاعتقاد ممن عارضوا نصوص الكتاب والسنة بخيالات وشبهات عقلية فاسدة هم حجر عثرة في طريق التجديد.

 وهذا المجدِّد الأول عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - يقول: (من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التحول \" [3].

 وهذا مجدد آخر وهو الشافعي - رحمه الله - يقول: (لأن يبتلي الله المرء بكل ذنب نهى الله عنه - ماعدا الشرك - خير له من الكلام) [4].

 وأقوال الأئمة المجددين في ذلك مأثورة مشهورة.

 وهكذا يبقى التجديد محصوراً في أفراد الطائفة المنصورة والفرقة الناجية التي سلمت من البدع المحدثة في الدين وخاصة البدع الاعتقادية.

 

ب - ولابدّ من العلم الشرعي الصحيح، بل اشترط بعضهم \" الاجتهاد \" كشرط أساسي للمجدد [5].

قال السيوطي: بأنه في رأس كل مائة يبعث ربنا لهذي الأمة مناً عليها -عالم يجددُ دين الهدى لأنه مجتهدُ وقال ضمن الشروط: يشار بالعلم إلي مقامه وينصر السنة في كلامه وأن يكون جامعاً لكل فن وأن يعم علمهُ أهل الزمن [6] واشتراط الاجتهاد ليس عليه دليل.

 أما كونه طويل الباع في العلوم، واسع الخطو في جميعها فهذا ضرورة للتجديد، لأن من مهمات التجديد إحياء العلم الشرعي، ونشر العمل بالسنة، وتعليم الناس دينهم، والذين يتصدون لذلك لابد أن يكونوا على جانب من العلم متين، إلى جانب معرفة أوضاع الحياة المدنية وما يناسبها.

 

ج - ومن لفظ \" التجديد \" يظهر جلياً أن المجدِّد صاحب إرادة في التغيير فاعلة وثابة، فهو ينطلق بالأمة من واقعها المرفوض المنحرف صُعُداً في طريق الصلاح والنجاح، أما أولئك الذين يرتضون الواقع السيء ويباركونه، ويرون أنه من أزهى عصور الأمة فهيهات أن يكونوا من التجديد في شيء.

 ولذلك سمى الرسول - صلى الله عليه وسلم - الفئة المتمسكة بـ (الطائفة المنصورة)، وفي هذا إشارة إلى أنها تجاهد في سبيل الله، وتناضل عن السنن، وتقارع المبتدعة الضالين فيعينها الله وينصرها، ولذلك فهي (منصورة).

وأشار الرسول، - صلى الله عليه وسلم -، إلى هذا المعنى بقوله (ظاهرين)،  وفي بعض الألفاظ:  \" لعدوهم قاهرين \" فهو ظاهر غلبة بالحجة والبرهان، وظهور قهرٍ, للأعداء ومكابدة لهم.

وفي رواية ثالثة: (لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم إلا ما يصيبهم من اللأواء).

 ومن مجموع هذه الروايات ندرك أن التجديد:

أولاً: إدراك واعٍ, لحال هذه الأمة وما تعانيه.

وثانياً: إرادة مصممة على التغيير.

وثالثاً: إمضاء لهذه الإرادة وتحقيق عملي لها.

إن اللأواء والجهد لا يصيب إلا من جاهد، وطريق التجديد والإحياء ليس مفروشاً بالورود بل هو طريق البذل والمحاولة والتصميم.

(والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنَا وإنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحسِنِينَ) [العنكبوت آية: 69].

 

إلمامة تاريخية بالحركة التجديدية:

حين بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هذه الدنيا كانت الحياة قد أصابها الفساد والانحراف في جميع مجالاتها، وكانت الدعوات السماوية السابقة في حالة احتضار وكرب شديد على أيدي أتباعها الذين لعبوا بها وشوهوها، وأساؤوا إليها أكثر من إساءة أعدائها المعلنين.

 فكانت بعثته - صلى الله عليه وسلم - انتصاراً للرسالات السماوية، وإنقاذاً للجماعة البشرية، وحرباً على جميع ألوان الشرك والجاهلية.

 وبدأ - صلى الله عليه وسلم - بدعوته فرداً واحداً غريباً في عالم مظلم مضطرب يسوده قانون الغاب وتتعاوى فيه الذئاب، ويفترس القوي فيه الضعيف، فكيف يتحرك فردٌ أعزل في مثل هذه الحال؟ كيف يتحرك وهو يقف ضد هذا العالم كله؟ في عقيدته وشريعته ومنهجه؟ والمبعوث برسالة السماء لا يمكن أن يقف مهما كانت العقبات..

ومن هنا بدأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - تلك البداية المحرقة، وليتصور كلٌ منا..

تلك اللحظات التي شعر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيها بأنه النبي المختار من عند الله لإنقاذ البشرية..

أي مشاعر كانت تتحرك في قلبه العظيم - عليه الصلاة والسلام -؟ ! رجل واحد في مكة في وسط هذه الصحراء الملتهبة الممتدة يحمل هم تغيير العالم كله من أقصاه إلى أقصاه! يا للهمم القعساء! وبدأت تلك الرحلة الطويلة المضنية بخطوة واحدة، فأسلم أبو بكر وعلي وخديجة وبلال وزيد بن حارثة فكان الواحد منهم يعد أحياناً ربع الإسلام أو خمس الإسلام! ولم تمض فترة وجيزة حتى أُمر - صلى الله عليه وسلم - بمخاطبة قريش علناً بالدعوة، وخاصة عشيرته الأقربين وهنا تأخذ الدعوة خطاً جديداً لا يصبر عليه إلا أشداء الرجال، فيجهر - صلى الله عليه وسلم - بدعوته أمام الملأ، ومن هذا الموقف بدأت الحرب الضارية تشن ضده وضد أتباعه: حربٌ سلاحها كل سلاح، سلاح الدعاية، سلاح التهديد، سلاح الضرب سلاح التجويع، سلاح المقاطعة، سلاح السخرية اللاذعة، وبدأت هذه القلة تمارس الصبر الجميل أمام حرب شعواء لا يهدأ لها أوار ولا يقرٌّ لها قرار.

 ولكن الحق لابد أن يجد آذاناً صاغية حتى في أحط البيئات وأفسد المجتمعات فها هي دعوة الإسلام المحصورة في بعض بيوتات مكة تستقطب فرداً من هنا وفرداً من هناك ممن لم تصرفهم الدعايات المضللة المغرضة حتى تكاثر الأتباع وتجاوزت الدعوة نطاق مكة بصورةٍ, فردية.

 ومع تكاثر الأتباع كان القرشيون يشعرون بالخطر الحقيقي من وراء هذه الدعوة فيزدادون في عدوانهم وطغيانهم ويصممون على محاولة إيقاف هذا المد وحصره في أضيق نطاق.

 حتى كان إسلام الأنصار وبيعة العقبة الأولى ثم الثانية، فكان هذا أول انطلاق حقيقي خارج مكة، وبه أخذت الدعوة مدى أوسع وانعتقت من سلطة مكة فلم يعد بإمكانها القضاء عليها.

 ولكنها كانت تعمل للحيلولة دون قائد هذه الدعوة - عليه صلوات الله وسلامه أبداً أبداً - وبين أن يلحق بهؤلاء المدنيين بحيث يشكل القوة التي تخافها قريش وتخشاها، إذا انطلق ليمارس دعوته بدون قيود ولا معوقاتٍ, تذكر.

 ولذلك ائتمرت عليه لتمنع هجرته حتى خططت لقتله والخلاص منه، وهذا يدل على حدة شعور القرشيين بالخطر المحدق، وإلا فلم يكن قتله - عليه السلام - بالأمر اليسير، وربما كان يؤدي إلى حرب أهلية طاحنة.

 ولكن الله - تعالى -كان يحفظه - صلى الله عليه وسلم - وقد كتب له أن يؤدي دوره في المدينة المنورة الزهراء، فيسبق - عليه الصلاة والسلام - تخطيطهم - ويخرج ومعه بعض أتباعه..

وبهذا يفلت الزمام من قريش وتصبح معركتها معه - صلى الله عليه وسلم - في ميادين القتال فحسب.

 وفي المدينة ينشط المسلمون في نشر الإسلام بين أهلها نشاطاً كبيراً، ويشيع وجوده بينهم - صلى الله عليه وسلم - جواً قوياً من الثقة والاطمئنان والحماس، حتى يدخل في الإسلام عدد كبير من الأوس والخزرج بعضهم من علية القوم وكبرائهم.

 وتبدأ المؤسسات اللازمة تتكون شيئاً فشيئاً: المسجد وهو مدرسة للتوجيه والتربية ثم الجيش..

وهكذا..

خطوات جبارة حقاً..

وكيف لا تكون كذلك وهي نقلة نوعية بل قفزة من مرحلة التضييق والاضطهاد في مكة والتي كان المسلمون غير مأذونين فيها برد العدوان ولا قادرين، إلى مرحلة بناء الدولة بأجهزتها الكبيرة مع الاستعداد للجهاد ومنازلة الأعداء المعتدين.

وظلت الدولة الفتية تنازل أعداءها بجندها العقائديين فتجهز عليهم واحداً بعد الآخر وتختط لنفسها طريقاً سالكة عبر المصاعب والمحن والآلام الجسام.

 ولم يقبض الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - حتى أقر عينه بقيام دولة الإسلام، وإعزاز أهله، فكمل الدين، وتمت النعمة، وتفيأ الناس ظل الإيمان الوريف.

 وحين نزلت هذه الآية: (اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم وأَتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسلامَ دِيناً) [سورة المائدة: 3] بكى عمر بن الخطاب! فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما يبكيك؟ قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذ كمل، فإنه لم يكمل شيءٍ, إلا نقص! فقال: صدقت [7].

 ولقد كان الصحابة يعلمون أن من سنة الله أن هذا الوضع الذي يعيشونه في حياته - صلى الله عليه وسلم - لن يدوم، فكانوا يتطلعون إلى معرفة ما يكون بعد، وإلى الموقف السليم الذي يواجهون به التغيرات المخوفة المرتقبة، حتى قال حذيفة - رضي الله عنه -: كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: نعم... الحديث [8].

 ولا تظن أن ثمت شكاً في أن لوفاة الرسول - عليه الصلاة والسلام - الأثر العظيم في حياة المسلمين فقد كان أول خلاف خطير حصل بين المسلمين في قضية كبرى هو اختلافهم بعد وفاته بقليل على الخليفة من بعده يوم السقيفة.

 هذا - وكان موته - عليه صلوات الله وسلامه بعد نزول آية المائدة بإحدى وثمانين يوماً! وقد كان لوفاة الخليفتين من بعده أثر آخر يدل عليه حديث حذيفة - رضي الله عنه- حين سأله عمر عن الفتنة التي تموج كموج البحر، فقال له: مالك ولها يا أمير المؤمنين؟ إن بينك وبينها باباً مغلقا! قال: فيكسر الباب أو يفتح؟ قال: بل يكسر.

قال: ذلك أحرى ألا يغلق أبداً! قال قائل لحذيفة: هل كان عمر يعلم من الباب؟ قال: نعم، كما يعلم أن دون غدٍ, الليلةº إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط قال: فهبنا أن نسأل حذيفة: من الباب، فقلنا لمسروق: سله، فسأله، فقال: عمر [9].

 ثم كان لانتهاء فترة الراشدين الأربعة أثر ثالث يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم: (الخلافة في أمتي ثلاثون عاماً، ثم يكون بعد ذلك الملك).

  قال سفينة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \" أمسك خلافة أبي بكر -رضي الله - تعالى -عنه- سنتين، وخلافة عمر -رضيَّ الله عنه- عشر سنين، وخلافة عثمان -رضي الله عنه- اثني عشر سنة، وخلافة على -رضي الله- عنه ست سنين) [10].

 وكان لانخرام جيل الصحابة، ثم لانخرام جيل التابعين، ثم لانخرام جيل تابعي التابعين آثاراً أخرى يدل عليها قوله - صلى الله عليه وسلم -: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم... الحديث) [11].

 وإلى هنا تنتهي القرون المفضلة التي شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بخيريتها وفضلها، وصار ما سارت عليه من العقائد والخلائق بل والاحكام هو الهدي الصحيح الذي لا يسع مؤمناً من المؤمنين أن يخالف عنه، وصار لزاماً على كل مؤمن أن يحبهم بحب الله ورسوله ويحب ما كانوا عليه من أمر الدين، ولا يرى الصلاح إلا في الرجوع إلى ما كانوا عليه، فإنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها - كما قال الإمام مالك - رحمه الله -.

 ثم يظل الخط العام للأمة يسير تدريجياً باتجاه الضعف والنقص والبعد عما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قال أنس - رضي الله عنه-: (لا يأتيكم زمان إلا والذي بعده شرٌ منه، حتى تلقوا ربكم، سمعته عن نبيكم - صلى الله عليه وسلم-) [12].

 فلا تزال الأمة كلما بعد عهدها بنبيها في استئخار عن منهجه.

 هذا من حيث الجملة والعموم، ولكنه لا يعني الاطّراد الحتمي في كل عصرٍ, بالنسبة للذي قبله، بل من الثابت شرعاً وواقعاً أن ثمة عصوراً تكون خيراً من التي قبلها وأفضل وأصدق مثلٍ, لذلك زمان المهدي ثم عيسى بن مريم - عليه الصلاة والسلام -، ومثله عهد عمر بن العزيز - رحمه الله -.

 ولذلك لا يزال الله يمن على هذه الأمة بتصديق موعود نبيه - صلى الله عليه وسلم - فيها ببعثة المجددين الذين يحيون ما اندرس من أمر الدين، ويعيدون إلى الأمة حياتها الحقيقية بإعادتها إلى نهج الإسلام الصحيح.

 فحين تمر فرقة على الأمة يصيبها في دينها ما يصيبها فيخرج المجدِّد ليعيدها إلى حالٍ, قريب من الحال الأول، ثم تبدأ آثار المجدِّد في الزوال والتلاشي حتى لا يأتي القرن الآخر إلا والأمة قد بلغت من الضَعة والضعف أشد مما بلغت قبل حركة التجديد الأولى، فيأتي المجدِّد فيعيد الأمة إلى حال قريب من حالها في عهد المجدِّد الأول..

وهكذا يتلاءم خط سير الأمة المنحدر مع خط التجديد والإحياء التصاعدي.

 ولا يكاد المجدِّد التالي يكون خيراً من سابقه إلا في حالات نادرة، كما في ظهور المهدي ونزول عيسى - عليهما السلام -، فإنهما يجددان الدين أي تجديد.

 مع أن الأمة كلما امتد بها الزمن وزاد انحرافها كانت حاجتها إلى المجدِّد الأقوى أشدٌّ وآكد، ولهذا رجحنا فيما مضى أن التجديد مهمة الطائفة الناجية المنصورة، وليس مهمة فرد بعينه، وأنه إن جاز أن يقال في مجدد القرن الأول أنه عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -، فإن ذلك لا يجوز في غيره، مع قناعتنا التامة بظهور آحادٍ, من الناس يختصهم الله بمزيد فضل من عنده، فيكون لهم من التجديد أوفي نصيب.

 وفي الصفحات التالية نعرض لحركات التجديد التاريخية البارزة لتكون أنموذجاً يحتذى للدعاة الصادقين المتطلعين إلى تجديد الدين لهذه الأمة.

أ- الحركة التجديدية الأولى.. [في عهد عمر بن عبد العزيز] 99-101هـ

يشهد المتتبع لكلام عامة العلماء في شأن المجددين أن هناك ما يشبه الإجماع على اعتبار عمر بن عبد العزيز هو مجدد القرن الأول.

 وكان أول من أطلق ذلك الإمام محمد بن شهاب الزهري، ثم تبعه الإمام أحمد حتى لم يكد أحدٌ يخالف في ذلك.

 ونحن نسلم بذلك، ولكننا نقول: ما كان لعمر بن عبد العزيز أن يقوم بهذه الحركة الواسعة المتعددة الجوانب لولا وجود عددٍ, كبير من أجلاء التابعين وساداتهم وهم كانوا ساعده الأيمن في تنفيذ مشاريعه التجديدية العظيمة.

 ولكي ندرك قدر الإصلاح والتجديد الذي أحدثه عمر نرسم الخطوط العريضة للانحراف الذي عانته الأمة، والذي كانت حركة عمر الإصلاحية تغييراً له،  فنقول:  إن قيام الدولة الإسلامية الأموية على يد أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - جاء في وقت كان المسلمون أحوج ما يكونون فيه إلى وحدة الصف وجمع الكلمة، فجمعهم الله على معاوية بعد تنازل الحسن في ( عام  الجماعة ) وكان ذلك سنة 40 هـ.

 وليس يعنينا الآن \" تقويم \" الدولة من حيث الجملة، بل الذي نقصده هو الإشارة إلى أن مجيئها بعد عصر الخلفاء الراشدين له أثر كبير في نظرة المسلمين آنذاك إليها حيث كان الخطأ الذي نراه نحن اليوم عادياً، يعد عندهم شيئاً كبيراً..

وهذا ملحوظ لديهم حتى في تقويمهم للأفراد، وكلامهم فيه مأثور مشهور.

 

عمر بن عبد العزيز يرشح للخلافة:

لما عزم سليمان على كتابة كتاب بولاية العهد من بعده استشار بعض كبار التابعين فأشاروا عليه بعمر بن عبد العزيز، فسماه، ثم سمى بعده يزيد بن عبد الملك.

وكان عمر بن عبد العزيز رجلاً عاقلاً ديناً صيناً ولم يعرف قبل ذلك بمزيد فضل عن نظرائه وأشباهه ولذلك اختاره هؤلاء التابعون ورشحوه، فلما قرىء كتاب سليمان بعد موته كان عمر في آخر الناس فلما سمع اسمه أسف واسترجع - في حين استرجع غيره لفوات الخلافة - وتباطأ في القيام، فقام إليه ناس فأخذوا بعضديه وذهبوا به إلى المنبر، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: \" أيها الناس! إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له، ولا مشورةٍ, من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم! \" فصاح الناس صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين ورضينا بك، فلِ أمرنا باليمن والبركة [13].

 فكان هذا أول عمل تجديدي قام به عمر حيث أعفي الناس من الملك العضوض وأعاد الأمر شورى، وحين اختاره الناس وألزموه بتولي الخلافة ناء به ثقل المسؤولية حتى \" عُقِرَ به \" [14] وضاق بها ذرعاً، وبان الهم على محياه، فقال له أهل مواليه:  يا أمير المؤمنين! كأنك مهتم؟ فقال: لمثل الأمر الذي نزل بي اهتممت، إنه ليس أحدُ من أمة محمد في مشرق ولا مغرب إلا له قِبَلي حقٌ علي أداؤه إليه، غير كاتب إليَّ فيه، ولا طالبه مني [15].

 ثم بدأ عمر في عمل الإصلاحات بجدٍ, يتناسب مع هذا الشعور بالمسؤولية، فتنحى عن المواكب الفخمة التي كانت تعمل للخلفاء من قبل، واسترد الامتيازات التي وصلت إلى أيدي بعض قرابته، وقد بدأ بزوجته فاطمة فخيرها بين نفسه وبين حليّها ومتاعها فاختارته هو، فأخذ الحلي ووضعه في بيت المال.

 ثم بدأ حركة تغيير واسعة في المسؤوليات والولايات فولى الفقهاء والمشهود لهم بالصلاح وأبعد من يٌزَنٌّ بأدنى شبهة، ثم تعاهد هؤلاء الولاة بالنصح والتوجيه والرقابة والمتابعة، ووسع على الناس بإلغاء الضرائب، وتوزيع الثروة بالعدل وتنظيم إيراد الزكاة وصرفها حتى لم يوجد من يأخذ الزكاة، غنىً وورعاً.

 ثم عمل على تزكية نفوس الناس وأخلاقهم وبيئاتهم من الأمراض والنقائص الاجتماعية والخلقية، وإعانتهم على السمّو والارتفاع بشتى الوسائل، فكانت مجالسه عامرة بالعلم والتربية وذكر الموت، ومن ثم - تفشى ذلك في الناس، ولم يأل العلماء جهداً في نشر العلم وإحياء السنة، ودعوة غير المسلمين إلى الإسلام.

 وحارب عمر المفاسد الموروثة عمن قبله، فقضى على العصبية المقيتة، ومنع سبّ أحدٍ, من السالفين أو لعنه كائناً من كان، وحارب البدع المحدثة والآراء الضالة كبدعة القدرية والخوارج والمرجئة والمعتزلة.

 وأنصف أهل الذمة وردّ إليهم حقوقهم، ووضع الجزية عمن أسلم منهم.

 وعمل على تدوين السنة، فكلف بعض العلماء بكتابة حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وآثار الصحابة من بعده، فكانت أول حركة تدوين منظمة ترعاها الدولة..

وكان لهذه الإصلاحات آثار عميقة في المجتمع الإسلامي، بل وفي غيره من المجتمعات، حتى ليصح أن يكون عمر هو رجل الدنيا وسيدها وأعظم مصلحٍ, جاء إليها بعد الخلفاء الراشدين.

 وقد كان عمر يخطط لجعل الخلافة شوريةً من بعده، أو الوصية بها إلى كفئها المستحق لها، ولذلك قال عند موته: \" لو كان لي من الأمر شيءٌ ما عدوت به لقاسم ابن محمد وصاحب الأعوص إسماعيل بن عمرو بن سعيد بن العاص \" (وكان عابداً منقطعأ قد اعتزل فنزل الأعوص! ) فبلغ ذلك القاسم فترحم عليه ثم قال: إن القاسم ليضعف عن أهيله فكيف يقوم بأمة محمد - صلى الله عليه  وسلم -؟ ! [16].

وبمثل هذا الدور الجبار الضخم استحق عمر مجددية القرن الأول، وإن كان بعضهم يضيف إليه آخرين من التابعين كالقاسم من محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، والحسن البصري، والزهري، وغيرهم [17].

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) جامع الأصول 11 /324.

(2) عون المعبود 4/ 180.

(3) شرح أصول الاعتقاد للالكائي 1/128.

(4) شرح أصول الاعتقاد 1/146.

(5) التنبئة 17 ب، 18 أ.

(6) التنبئة 18 ب.

(7) تفسير الطبري، ج 9، ص 519، رقم الأثر 11083، تحقيق: شاكر.

(8) أخرجه البخاري في: 61 كتاب المناقب، 15 باب علامات النبوة في الإسلام، رقم 3606، ج 6 ص 615 وفي 92 كتاب الفقه، 11 باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة؟ رقم 7084 ج 13 ص 35، ومسلم في 33 كتاب الامارة، 13 باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين، رقم 51، 52 (1847) ج 3، ص 75، وأحمد في المسند ج5، ص 404 مع اختلاف يسير،.

(9) رواه البخاري في: 9 كتاب المواقيت، 4 باب الصلاة كفارة، رقم 525، ج 2 ص 8، 24، ورواه مسلم في: 1 كتاب الإيمان، 65 باب إن الإسلام بدأ غريباً، رقم 231، ج 1، ص 28 1، 52 كتاب الفتن، 7 باب الفتنة التي تموج كموج البحر، رقم 26، ج 4، ص2218، رواه الترمذي في: 34 كتاب الفتن، 71 باب رقم 2258، ج4 ص 524، ورواه ابن ماجه في: 36 كتاب الفتن، 9 باب ما يكون من الفتن، رقم 3955، ج2، ص1305 ورواه أحمد 5/386، 401، 405،.

(10) رواه الإمام أحمد في مسنده، ج 5، ص220، 221، وبنحوه أبو داود في: 34 كتاب السنة 9 باب في الخلفاء، رقم 4646، 4647، ج 5، ص 36، والترمذي في: 34 كتاب الفتن 48 باب ما جاء في الخلافة، رقم 2226، ج 4، ص 503،.

(11) رواه البخاري في 81، كتاب الرقاق، 7 باب ما يحذر من زهرة الدنيا رقم 6428، 6429، ج 11، ص 4، ورواه مسلم في: 44 فضائل الصحابة، 52 باب فضل الصحابة ثم الذين يولونهم رقم 210 - 216 (2533) ج 4، ص 1962 ورواه أبو داود في: 34 كتاب السنة، 10 باب في فضائل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رقم 4657 ج5، ص 44، ورواه الترمذي في: 34 كتاب الفتن، 45 باب ما جاء في القرن الثالث، رقم 2221، 2222، ج 4، ص 500، ورواه النسائي في المجتبى، كتاب الأيمان والنذور، باب الوفاء بالنذر، ج 7، ص 17 ورواه ابن ماجه في: 13 كتاب الأحكام، 27 باب كراهية الشهادة لمن لم يستشهد، رقم 2362 ج 2، ص 791، وهو عنده أيضاً برقم 2363، بلفظ: \" احفظوني في أصحابي ثم الذين يلونهم \"، ورواه أحمد في المسند: 378/1، 417، 434، 438، 442 2/228، 410، 479 4/267، 276، 277، 278، 426، 427، 436، 440، 5/350، وجاء في مواضع عن عدد من الصحابة هم: عمران بن حصين، وعبد الله بن مسعود، وعائشة وأبو هريرة، وعمر بن الخطاب، والنعمان بن بشير، وبريدة الأسلمي، - رضي الله عنهم - أجمعين،.

(12) رواه البخاري في: 92 كتاب الفتن، 6 باب لا يأتي زمان إلا الذي بعده شرٌ منه، رقم 7068 ج 13، ص 20.

(13) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص 65، دار الكتب العلمية.

(14) أي عجز عن القيام، وانظر: سيرة عمر لابن الجوزي، ص 64.

(15) سيرة عمر، ص 65.

(16) طبقات ابن سعد، ج 7، ص 344، دار صادر.

(17) جامع الأصول، ج 11، 322، وانظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس (المخطوط) ص.

(18) سبق تخريج الحديث من حيث أصله، وهذه الرواية عند ابن ماجه.

(19) فتح الباري، ج 7، ص 6.

(20) ابن سماعة هذا كان صلى مرة بالإمام أحمد في السجن والدم يسبل من جسده! فقال له: صليت والدم يسيل في ثوبك! فقال أحمد: قد صلى عمر وجرحه يثعب دماً!.

(21) مقدمة المسند، ج1، ص98 (هامش).

(22) حلية الأولياء لأبي نعيم، ج 9، ص 166، دار الكتاب العربي.

(23) الحلية، ج 9، ص 170.

(24) أيضاً، ص 171.

(25) ترجمة الإمام الذهبي في تاريخ الإسلام (مقدمة المسند) ج1، ص65.

(26) تقدمة الجرح والتعديل، ج 1، ص 308، دار الكتب العلمية.

(27) البداية والنهاية، ج 10، ص387، ط مكتبة الأصمعى بالرياض.

(28) انظر ترجمة الإمام أحمد في:تقدمة الجرح والتعديل، ج 1، ص 292 - 314، وحلية الأولياء ج 9، ص 161 - 234، ومقدمة المسند، ج 1، ص 58 - 133، وفي آخره ذكر مصادر أخرى للترجمة، وهي مهمة فلتراجع.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply