الزمان/ 21 ربيع الآخر ـ 1324هـ
المكان/ قرية دانشوي ـ المنوفية ـ مصر
الموضوع/ الاحتلال الإنجليزي يرتكب مذبحة مروعة بقرية مصرية انتقامًا منهم.
الأحداث/ مقدمة:
دائمًا يشعر الغزاة القادمون من الشمال بأنهم الجنس الأبيض المتفوق حضاريًا وسلوكيًا ودينيًا عن غيره، وأنه يحمل الحياة الأفضل والحضارة الأرقى عن هؤلاء البرابرة الجهلة الذين يعيشون في ظلمات وتخلف وجهل مطبق، هذه العقيدة كانت تتجلى قديمًا أثناء الحروب الصليبية على العالم الإسلامي في القرنين السادس والسابع الهجريين، حيث كان يشعر الإنجليز والفرنسيون بأنهم حماة العالم الحديث والمدافعون عن الحق، الواقفون أمام الزحف الإسلامي الهمجي القادم من جزيرة العرب، وما زالت هذه العقيدة تحكم قلوب وعقول الغزاة خاصة عند الأمريكيين وحلفائهم الإنجليز وهي عقيدة \'الدم الأنجلوسكسوني\' النقي الطاهر! الذي يجري في عروقهم، والذي يجب أن يراق أمام نقطة دم منه الأنهار من دماء الآخرين، فلقد رأينا كيف أباد الأمريكان الملايين من قبائل الهنود الحمر في القرن الماضي، وكيف أبادوا عشرات الآلاف من شعب أفغانستان نظير ثلاثة آلاف راحوا ضحية أحداث سبتمبر، وكيف دمروا مدينة الفلوجة العراقية وقتلوا بها المئات نظير أربعة من المرتزقة قتلوا بها.
وهكذا نرى تلك العقيدة الموروثة في قلوب وعقول الغزاة تنتقل من جيل لآخر، وهذه الصفحة واحدة من صور هذه العقيدة ـ أو العقدة ـ المتأصلة عند الغزاة على مر التاريخ.
مصر تحت الاحتلال:
كانت معركة التل الكبير في 14/9/1882م إيذانًا بسقوط \'مصر\' تحت نير الاحتلال الإنجليزي، هذا رغم سلسلة التصريحات الخادعة التي أطلقها الإنجليز وعلى رأسهم رئيس الوزراء \'جادستون\' بأنهم لا ينوون احتلال مصر، وأن إنجلترا ما أرسلت جنودها إلا لإعادة الأمن فيها وإعادة الخديوي توفيق لمنصبه بعد الثورة العرابية، ووصفت احتلالها لمصر بأنه مؤقت.
ولكن الأحداث التالية كشفت عن الوجه القبيح للاحتلال حيث صدر قرار بحل الجيش المصري في نفس اليوم الذي دخل فيه الإنجليز القاهرة 15/9/1882م \'، وهو نفس القرار الذي اتخذه الأمريكان عندما دخلوا بغداد، وهو يوضح مدى تطابق السياسة الاحتلالية لأعداء الإسلام على مر العصور\'، وقاموا بعدها بنفي قادة الجيش المصري مثل أحمد عرابي ومحمود البارودي وغيرهم.
قام الإنجليز بحرمان البلاد من كل مقومات الحياةº فأفسدوا كل ما غرس الآباء والأجداد في المسلمين من أخلاق وفضائل وتدين وحياة نظيفة، دمروا البنية الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية، وحولوا البلاد إلى سجن كبير، وجلبوا قسيسًا إنجليزيًا متخرجًا من كلية اللاهوت بلندن اسمه \'دانلوب\' ليضع السياسة التعليمية للبلاد والتي كانت تهدف في المقام الأول لتجميد الدين وتحجيم دوره في الحياة لتمهيد الساحة لقبول العلمانية كأسلوب حكم وحياة بالبلاد، وعمدت هذه السياسة التعليمية على قتل روح الابتكار والتجديد عند المسلمين لضمان التبعية المطلقة لهم.
روح الثورة الجديدة:
قتل الإنجليز روح المقاومة عند المصريين طيلة عشر سنوات بسياسة الحديد والنار والقمع الشديد لأبطال المقاومة، خاصة رجال \'جمعية الانتقام\' السرية التي كانت تقاوم الإنجليز وتغتالهم، وظل الوضع هكذا حتى جاء الخديوي \'عباس حلمي\' وكان رجلاً قويًا يكره الإنجليز والأجانب فعمل على تنمية روح المقاومة وعزل رجال الإنجليز في الحكومة المصرية، واصطدم مع اللورد \'كرومر\' الإنجليزي صاحب النفوذ والسلطة الحقيقية بالبلاد، ووثق علاقته مع السلطان عبد الحميد الثاني العثماني، وعمل على التقرب من الشعب فأفرج عن المعتقلين وأعادهم لوظائفهم واحتضن زعماء الثورة المصرية وعلى رأسهم \'مصطفى كامل\' - رحمه الله - وكان من أشد الناس على الإنجليز والاستعمار، ومن أهم دعاة الجامعة الإسلامية.
وقعت حادثة فاشودة بأعالي نهر النيل عندما احتلت فرنسا بلدة فاشودة واحتجت إنجلترا، وظن المصريون والخديوي عباس أن الحرب ستنشب بين الفريقين، ولكن كان هذا الظن وهمًا كبيرًاº إذ كيف يتحارب الصليبيون بعضهم مع بعض لصالح المسلمين وقد قال المولى - جل وعلا - {بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ,} [المائدة: 51] فانسحب الفرنسيون من فاشودة وسمحوا للإنجليز بدخولها، وأدخلت هذه الحادثة اليأس والقنوط في قلب الخديوي \'عباس حلمي\' وخفف من معارضته للإنجليز شيئًا فشيئًا حتى أصبح لهم تابعًا بالكلية.
الخلافة الإسلامية وديارها:
في هذه الفترة كانت دولة الخلافة الإسلامية \'تركيا\' قد دخلت طور النزع الأخير وقد أطلق عليها الأعداء \'الرجل المريض\' بعد أن تضافروا عليها من كل اتجاه وكسروا شوكتها وانتزعوا الكثير من أجزائها، وعملوا على ترويج الرذائل والمفاسد بداخلها، فانحلت الأخلاق، وخربت الذمم، ورغم كفاءة السلطان عبد الحميد ومجهوداته الكبيرة إلا أن الخلل والفساد كان أكبر من إصلاحاته، وانعكست هذه الحالة المتردية على الوضع بمصر الدولة التابعة للخلافة ولو إسميًا فقط، حيث تصرف الإنجليز فيها كأنها كلأ مباح وملكية خاصة، فالثروات مباحة والدماء والأعراض مستباحة، والخليفة لا يقوى على أن يعترض أو يفعل شيئًا لإنقاذ درة الممالك الإسلامية.
حدثة دانشوي:
لم تكن روح المقاومة التي بدأت في الظهور بقوة أيام الخديوي \'عباس حلمي\' لتخفت أو تقل بعد انقلاب الخديوي عليها ومهادنته للإنجليز، وهذا الأمر حدا بالإنجليز لأن يستعملوا الشدة والقسوة المفرطة في مواجهة أي بادرة للمقاومة والجهاد.
في تلك الأثناء وبالتحديد يوم 21 ربيع الآخر سنة 1324هـ الموافق 13/6/1906م وقعت مأساة دانشوي الرهيبة، حيث تقع هذه القرية بمحافظة المنوفية في وسط الدلتا المصرية، ففي ذلك اليوم خرج خمسة من الضباط الإنجليز لصيد الحمام ببنادقهم ولكن باستهتار تام ولا مبالاة بأرواح المسلمين، فأصابوا امرأة وأشعلوا النار في أجران القمح من رصاص بنادقهم، وأسرع الأهالي لإطفاء النيران وإنقاذ المرأة المسلمة المصابة، فدب الفزع في قلوب أعداء الإسلام الخمسة وفروا هاربين، وكان الوقت صيفًا شديد الحرارة فأصيب أحدهم واسمه \'بول\' بضربة شمس مات على أثرها.
لم تكن تلك الوفاة بفعل مقاومة أو جهاد أو ضربة سلاح، ولكن استغل الإنجليز هذه الحادثة ليصبوا جم حقدهم وكفرهم في أقسى صوره، فقبضوا على أهالي القرية المنكوبة وشكلوا محكمة صورية برئاسة صليبي مثلهم وهو \'بطرس غالي باشا\' وعضوية فتحي زغلول الأخ الشقيق لسعد زغلول وإبراهيم الهلباوي صنيعة الإنجليز، واستمرت المحكمة عدة أيام وجاءت الأحكام كالآتي:
ـ الحكم بالإعدام على كل من حسن محفوظ ويوسف حسن، والسيد عيسى، ومحمد زهران.
ـ الحكم بخمسة وعشرين سنة على كل من علي محمد، وأحمد عبد العال.
ـ الحكم بخمسة عشر سنة على أحمد السيسي.
ـ الحكم بسبع سنوات على محمد علي أبو سمك وعبد البقلي، وعلي شعلان، ومصطفى محفوظ، ورسلان السيد، والعيسوي محفوظ.
ـ الحكم بسنة مع 50 جلدة على أكثر من عشرين رجلاً من أهل القرية.
هذا غير الفلاح سيد أحمد سعيد الذي وجدوه يسعف الضابط بول بشربة ماء وهو ملقى على الأرض عند بلدة سرسنا فجازوه جزاء سنمار فأخذوا في طعنه بخناجر بنادقهم وهشموا رأسه حتى مات بين أيديهم.
وأظهر الإنجليز مدى التعصب والحقد الأعمى الذي ينبعث عن عقيدة الدم النقي والجنس الراقي الذي لابد أن يسود ويحكم العالم بأسره.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد