أمير المرابطين يوسف بن تاشفين بطل موقعة الزّلاقة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

يوسف المغرب الذي لم يُوفَّ حقَّه.. الرجل الذي خُلق للزعامة والفتح.

 

استخلفه ابن عمّه أبو بكر زكريا بن عمر على مراكش، وأمره أن يتمّ تخطيطها وبناءها سنة 454هـ، وعندما عاد أبو بكر سنة 465هـ تلقّاه يوسف بالهدايا الثمينة، فعرف أبو بكر أن الأمور استقرّت ليوسف، فتنازل ليوسف عن الملك، وقال له: \"أنت أخي وابن عمي، ولم أرَ مَن يقوم بأمر المغرب غيرك، ولا أحق به منك، وأنا لا غناء لي عن الصحراء، وما جئت إلا لأسلم الأمر إليك، وأهدنك في بلادك، وأعود إلى الصحراء مقرّ إخواننا، ومحلّ سلطاننا\".(1)

 

وهذه الحادثة الرائعة قلما يُسجَّل لنا التاريخ مثلها، حين يتنازل فيها ملك عن الحُكم للأكفأ والأفضل والأصلح والأمهر.

 

وطَّد يوسف سلطانه في المغرب الأقصى، ووحدّ المغرب كلّه تحت سلطة مركزية، وتجلّت مواهبه، وعزيمته القوية، وعلوّ همته، منذ استلامه زمام السلطة، لقد كانت شهامته وشغفه بالفتح لنشر الإسلام، حيث قاد الحروب بنفسه بفطنةٍ, وحُسن طالع يُسبغان عليه المثالية، وكان صوّاماً قواماً زاهداً مُتقشِّفاً لم يكن يأكل سوى خبز الشعير، ولحم الإبل، وشرابه لبن النوق.

 

كوّن - رحمه الله - جيشاً ضم زهاء مئة ألف مجاهد من قبائل صنهاجة، وزناتة، ومصامدة. وبلغت دولته من حدود غانا عبوراً بموريتانيا حتى البحر المتوسط، ومن الأطلسي غرباً إلى ولاية قرطاجنّة (تونس) شرقاً.

 

ولما توحّدت كلمة ملوك النصارى على سحق دولة الإسلام بعد سقوط طُليطلة، وتحالف ألفونسو السادس ملك\"قشتالة\"- الذي كان يحكم جليقية، وجزءاً من البرتغال، و\"اشتوريس\"، و\"ليون\"، و\"بسكونيه\"أيضاً- وسانشوا الأول ملك أراجون ونافارا، والكونت برنجار ريموند حاكم برشلونة وأورجل، لإخراج المسلمين من الأندلس، وساروا بجيشٍ, ضخم من جليقية وليون، واحتلّوا مدينة\"قوريتر\"من بني الأفطس، ووصلوا إلى ضواحي أشبيلية، فاحرقوا قُراها وحقولها، وحاصروا قلعة سرقسطة التي يضع سقوطها منطقة الأيبر\"إبرة\"في يد النصارى، ويجعل الشواطئ الأسبانية مما يلي البحر المتوسط عُرضةً لغاراتهم، وأثخن النصارى في ولاية سرقسطة كلّها بالنار والسيف، وخشي المسلمون سقوط سرقسطة يوماً بعد يوم، فأرسل أمراء الطوائف رسالةً إلى يوسف بن تاشفين مُوقّعةً من ثلاثة عشر أميراً مستقلاً، يناشدونه الإسراع إليهم قبل وقوع الطامة الكبرى. وأرسل المعتمد بن عبّاد إلى يوسف بن تاشفين: \"إن كنت مُؤثراً للجهاد فهذا أوانه، فقد خرج الأذفونش إلى البلاد، فأسرع في العبور إليه\".(2)

 

وأمّت مدينة مراكش وفودٌ كبيرة من الفقهاء، ووفود شعبية تسأل يوسف إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أرض المسلمين بالأندلس.

 

وبينما كان ابن تاشفين يهيئ العبور إلى الأندلس، دفع الأمراء المسلمون الجزية إلى ألفونسو وهادنوه، وأرسلوا إلى ابن عبّاد يهودياً خبيراً بالنقد، لاستلام الجزية، ومعه قرمط البرهانس، فلما حُمل إليهما المالُ أبى اليهودي أن يتقبّله دون فحص، واقترح البرهانس أن يقدّم ابن عباد بدل المال المطلوب سفناً حربية، وازداد غضب بن عباد وصاح: \"لا أستطيع أن أتحمّل بعد طغيان النصارى الأوغاد\". وقبلها قال المعتمد لابنه – عندما قرّر تسليم حصن الجزيرة للمرابطين -: \"أي بني، والله لا يُسمع عني أبداً أنني أعدتُ الأندلس دار كُفر، ولا تركتها للنصارى، فتقوم عليَّ اللعنة في منابر الإسلام مثل ما قامت على غيري\". ولما خوفه بعض حاشيته من ابن تاشفين وقالوا: الملك عقيم، والسيفان لا يجتمعان في غمد واحد. أجابهم: \"تالله إنني لأوثر أن أرعى الجمال لسلطان مراكش، على أن أغدو تابعاً لملك النصارى، وأن أؤدي له الجزية، إن رعي الجمال خير من رعي الخنازير\". أو كما قال: \"لأن يرعى أولادُنا جِمال الملُثَّمين، أحبٌّ إليهم من أن يرعوا خنازير الفرنج\".(3)

 

وكتب وزير ابن عباد - أبو بكر - كتاباً إلى ابن تاشفين: \"لقد غصّت المساجد المتروكة بالقساوسة من أعداء الدين، ونُشرت الصلبان فوق المنائر التي كان يُتلى فيها الأذان من قبل، وأُخذتِ النواقيس تُقرع من فوقها للقداس، بعد أن كان يُدعى للصلاة\". وختم الوزير كتابه بقوله: \"إن يوسف بن تاشفين قد غدا معقد الآمال، وإنه يُعتقد أن الله قد اصطفاه لإنقاذ الإسلام\".

 

وعبر يوسف بجيشه من سبتة، وصعِد ابن تاشفين إلى مقدمة سفينته، ودعا: \"اللهم إن كنت تعلم أن في جوازي هذا خيراً وصلاحاً للمسلمين، فسهّل عليَّ جواز هذا البحر، وإن كان غير ذلك فصعِّبه حتى لا أجوزه\". فسهّل الله المركب، وقرّب المطلب، وسجد ابن تاشفين لله شكراً لما نزل بأرض الأندلس.

 

ولبث أمير المرابطين بإشبيلية ثمانية أيام فقط يُرتِّب أثناءها قواته،\"وكان في هذه الأيام صائماً بالنهار، قائماً بالليل في تهجدٍ, وتلاوة لآيات كتاب الله الكريم، وأكثر من الصدقات وأعمال البرِّ، فتملك قلوب الناس أكثر، وكسب قلوب جنده بالنصفة وإيثار الحق وإنشاء العدل.(4)

 

تحالف عباد الصليب وملوكهم لحرب المسلمين، ألفونسو السادس ملك قشتالة، وسانشو ملك أراجون، والكونت برنجار، وقوات عظيمة من جليقية وليون وبسكونية وأشتوريس وقشتالة، وسربان من الفرسان من ولايات فرنسا الجنوبية، وعمِل الباباوات دوراً عظيماً في الحثِّ على ذلك، وكتب ألفونسو إلى ملوك النصرانية في أوروبا بأنهم إن لم يتداركوه فسيعبر المسلمون جبال البرانس إلى أوربا، فجاءته الإمدادات من كل صوب. وبلغت عدّة جيش ألفونسو مئة ألف من المشاة، وثمانين ألف من الفرسان، وكان عدد الجيش المسلم ثمانية وأربعين ألفاً، نصفهم من المرابطين، ونصفهم من الأندلسيين.

 

وأرسل ابن تاشفين إلى ألفونسو كتاباً يخيّره بين ثلاث. إما أن يعتنق الإسلام، أو يؤدي الجزية، أو القتال. وكان مما قاله: \"بلغنا يا أذفونش - ألفونسو - أنك دعوت للاجتماع بك، وتمنّيت أن يكون لك فُلك تعبر البحر عليها إلينا، فقد أجزناه إليك، وجمع الله في هذه العرصةَ بيننا وبينك، وسترى عاقبةَ دعائك، \"وما دعاء الكافرين إلا في ضلال\". (غافر: الآية 50).

 

وكانت رسالة ابن تاشفين ردّاً على رسالةٍ, من ألفونسو جاء فيها: \"إن كنتَ لا تستطيع الجواز، فابعث إليَّ عندك من المراكب أجز إليك، وأناظرك في أحبِّ البقاع عندك، فإن غلبتني فتلك غنيمة جُلِبت إليك، ونعمة مثُلت بين يديك، وإن غلبتُك كانت لي اليد واستكملتُ الإمارة\".(5)

 

ولما فهم ألفونسو كتاب ابن تاشفين، ألقاه أرضاً مغضباً، وقال للرسول: اذهب فقل لمولاك: إننا سنلتقي في ساحة الحرب. وردّ بلهجة ملؤها الغضب والغيظ والوعيد، فأمر ابن تاشفين كاتبه - ابن القصيرة - أن يجيبه، فكتب وأجاد، فلما قرأه على ابن تاشفين، قال: هذا كتاب طويل، أحضر كتاب الأذفونش، وأكتُب في ظهره: \"الذي سيكون ستراه\" وأرسله إليه. فلما وقف عليه ألفونسو، ارتاع له، وعلم أنه بُلي برجلٍ, لا طاقة له به.

 

والتقى الجيشان في الزلاّقة – أو \"سكر إلياس\" كما تسميها النصارى - في يوم الجمعة 12 رجب سنة 479هـ. وكانت الخطة تعتمد أن يحتفظ ابن تاشفين بقوة احتياطية، تحتوي على أشجع الجنود تنقضٌّ في الوقت المناسب على الأعداء، بعد أن يكون الإعياء قد بلغ من العدو مبلغه.

 

وثبت الجيش المرابطي بقيادة البطل داود ابن عائشة مع جيش الأندلس أمام قوّات النصارى، وأرسل ابن تاشفين عدّة فرق، لغوث المعتمد، وبادر في الوقت نفسه بالزحف في حرسه الضخم من اللمتونيين والمرابطين، واستطاع بحركة بارعة أن يُباغِت جيش ألفونسو وأن يُحدق به.

 

ووكّل يوسف بعض قوات جيشه بالنفوذ إلى خيام النصارى في الخلف وإحراقها، فتعالت النار في محلّة القشتاليين، وارتدّ ألفونسو لينقذ محلته من الهلاك، وليستردّ معسكره الذي انتزعه يوسف، وانقض يوسف بجموعه المظفّرة على النصارى كالسيل، وهو يهدر من فوق فرسه ويمرّ في ساحات المسلمين: يا معشر المسلمين، واصبروا لجهاد أعداء الله الكافرين، ومن رُزق منكم الشهادة فله الجنة، ومَن سلم فقد فاز بالأجر العظيم والغنيمة. وقاتل ابن تاشفين في مقدمة صفوفه قتالاً شديداً، وقد قُتلت تحته أفراس ثلاث.

 

وثبت المعتمد بن عباد ثباتاً رائعاً، وأصبح ألفونسو وجيشه بين \"مطرقة ابن عباد وسنداد بن تاشفين\" وحقّت عليهم الهزيمة.

 

وهرب ألفونسو عندما حلَّ الظلام، بعد إصابته بطعنة نافذة، ولم ينجُ من جيش القشتاليين مع ملكهم سوى أربعمائة أو خمسمائة فارس، معظمهم جرحى مات فيما بعد قسمٌ كبير منهم.

 

لله درٌّك تاشفين، تقضي في هذه المعركة على ما يقرب من 180 ألف صليبي بين قتيل وأسير!! وأمر ابن تاشفين برؤوس القتلى فصُفَّت في سهل الزّلاقة على شكل هرم، ثم أمر فأُذِّن للصلاة من فوق أحدها.. وانجلت الزلاّقة عن يوم مشهود من أيام الإسلام، وفخر لا يُقدّر بثمن.

 

قال ابن خلكان في \"وفيات الأعيان\"(7/117) عن غنائم هذه المعركة: \"فلما حصلت عفّ عنها يوسف بن تاشفين، وآثر بها ملوك الطوائف، وعرَّفهم أن مقصوده إنما كان الغزو والجهاد، لا الغنائم\". ثم عاد ابن تاشفين إلى المغرب.

 

وجاز تاشفين إلى الأندلس مرة ثانية، لصدِّ غارات النصارى على مرسية، ثم عبر مرة ثالثة إلى الأندلس، بعد أن حاول بعض أمراء الأندلس التحالف سرّاً مع ألفونسو السادس، لطرد المرابطين، فعاد ابن تاشفين إلى الأندلس بطلب من القضاة والفقهاء، وبقي ابن تاشفين في الأندلس بعد الجواز الثالث، بسبب فشل ملوك الطوائف الهزل في حماية الأندلس من الأخطار الخارجية.

 

وضم ابن تاشفين الأندلس إلى ملكه، وأنقذها من انهيار محقّق، وضبطها بعزم وحزم فوضى وضياع.

 

\"إنما أسوارنا سُيوفُنا وعدلنا\":

ونختم بأروع ما قال ابن تاشفين، لما فتح مدينة \"فاس\" خرَّب السور الفاصل بين عُدوتها، وقال: \"إنما أسوارنا سيوفنا وعدلنا\".

 

رحم الله ابن تاشفين، فقد كانت دولته دولة خير وجهاد وعافية، وأكثر الدول جرياً على السُنة.

 

_____________________________________

(1)   النظام السياسي والحزبي في عهد المرابطين، للأستاذ إبراهيم حركات، ص 53.

(2)   وفيات الأعيان 7/ 116.

(3)   وفيات الأعيان، 2/483.

(4)   الزلاقة لشوقي عماد خليل، ص 40-41، دار الفكر.

(5)   نفح الطيب، 2/527، ووفيات الأعيان 2/483.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply