الحزن .. مرتان


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

شعرت برغبة شديدة في أن أخلو بنفسي ربما أصحح بعض أخطاء حياتي.. تماماً مثل الرجل الشهير الذي يجلس يحاسب نفسه على الأخطاء، فوجد أن أهم أخطائه هي: إضاعة الوقت بدون مبرر، إشغال النفس بتوافه غير مجدية، الجدال مع الناس بغير فائدة تُرجي.. هل هي أخطائي وحدي؟. أم أخطـــــــاء حياتي.. أم الظروف.. أم..؟.

 

حينما كنت في العشرين عُُقد قراني على رجل انبهر به والديº لأنه يعمل مهندساً في دولة أوروبية وسيرسل إليّ بعد بضعة شهور كي أسافر وأُزف إليه في الغربة وأعيش حياة رغدة..وأحلام كثيرة، وكان الرجل فارساً لأحلامي منذ رأيته، فالوسامة والثقافة والقدرة على إدارة الحديث وإبهار المستمع.. أناقة متميزة.. لغة أجنبية راقية تصبغ اللغة العربية برقي غير مصطنع.. هل تتحقق الأحلام بمثل هذه السهولة؟ سألت نفسي وقتها.. ثم سافر الرجل وأرسل إلي بعض الرسائل التي كنت أنتظرها بشوق ولهفة وانتظر أن يرسل لي لكي أطير فوراً.. وألحق به.. لكن الرسائل التي ظلت تتوالى.. ومر عام وعامان وبدأت تقل تدريجياً حتى انقطعت تماماً.. وأصابني القلق على زوجي الذي لم أزف إليه بعد، فأخذتُ أرسل إليه رسائل دون جدوى.. لا يأتي الرد.. ذهب أبي إلى أبيه يسأله فقال والده: إنه أيضاً في غاية القلق على ابنه لماذا انقطعت أخباره وهل حدث له مكروه في الغربة أم ماذا؟.

 

ثم كان اتصالنا بالقنصلية في بلاد الغربة فأفادوا بأنهم يجرون بحثاً وسيردون علينا.. ولم نجد جهة إلا ولجأنا إليها.. وتضاعف شوقي لزوجي وخوفي عليه.. وبعد ثلاثة أعوام كاملة أرسل إلينا أحد أصدقائه من الخارج أنه تزوج من امرأة أجنبية.. فكانت صدمة مروعة لي.. لماذا لم يخبرني؟ لماذا لم يخيرني بين قبول هذا الوضع والطلاق؟ لماذا لم يطلقني؟ لماذا خدعني بوسامته وذوقه وسخائه؟ أسئلة باتت كلها بلا جواب.. انهارت كل أحلامي واضطررت للجوء إلى القضاء واستمرت القضية قرابة الخمسة أعوام.. لأكتشف أن ما يقرب من عشرة أعوام ضاعت من عمري هباء.. قضيتها في انتظارهم.. أو حلم.. وأصابني انهيار عصبي ولازلت لا أتخيل لماذا فعل بي هذا الرجل ما فعل؟ هل هناك رجال مرضى نفسيون معقدون من المرأة فينتقمون منها بهذا الشكل؟ ليت كل فتاه لا يبهرها الرجل الوسيم أو الأنيق أو صاحب الكلمات الجذابة.. ولكن فقط الرجل المتميز بالأخلاق أي الطباع الحسنة والدين كما أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم -.

 

المهم أني حصلت على لقب مطلقة دون أن أعرف لماذا؟ وفي مجتمعاتنا يرفض كثير من الرجال هذه المرأة ولو كان طلاقها قبل الزفاف.. ورغم أني جميلة جداً.. إلا أن هذا لم يشفع لي في أن أجد زوجاً مناسباً ينسيني وصف«مطلقة».. وكم آلمني أن يتقدم لي خاطب فما أن يعرف بأني طلقت قبل الدخول.. إلا ويذهب فلا يعود حتى جاء يوم صارحتني فيه إحدى قريباتي أن هناك رجلاً طيباً وذا أخلاق توفيت زوجته تاركة له أربعاً من البنات الجميلات الهادئات.. وهن في حاجة لأم بديلة خاصة أنهن لازلن صغاراً لا تتعدى أكبرهن الخامسة عشرة وأصغرهن الخامسة من عمره،ا وظلت قريبتي تذكر محاسن الرجل وكم هو طيب،كريم وعادل.. وهناك قالت لي أمي: لابد أن تحكمي بنفسك على ارتياحك للرجل هو وبناته وليس هو فقط..

 

وجاء الرجل ومعه وبناته الجميلات ووجدتُ قلبي المُغلق على الأحزان ينفتح بالبهجة والسرور لرؤية هؤلاء البنات، وتخيلت مدى آلمهن لفراق أمهن المبكر.. ثم وجدتُ ارتياحاً لأبيهن فوافقتُ على الزواج وانتقلتُ لبيت زوجي الذي كان يكبرني بأكثر من سبعة عشر عاماً، وفي البداية رأيتُ منه الصفات الطيبة لكني لاحظتُ أنه وضع صوراً لزوجته الراحلة في جميع الغرف والردهات في بيته.. صوراً لها وحدها.. وصوراً لها معه.. وصوراً مع بناتها.. فتضايقتُ قليلاً ثم قلتُ لنفسي معقول؟ أغار من امرأة رحلت عن الدنيا؟ ثم وجدت أمومتي تتفتح وتُغرق هؤلاء البنات في أحضاني وأعماق فؤادي.. أي حب تفجر لهن كأني أمهن الحقيقية؟ إنني أسهر إذا مرضت أحداهن بل أبكي لألمها.. أستذكر لهن وأطهو وأقوم بكل أعمال البيت وأخشى عليهن من «النسيم\"كما يقولون.. آه من كلمة «ماما» وهن ينادينني بها.. أي دور عظيم أقوم به لأعوض هؤلاء الفتيات الرائعات عن أمهن؟

 

كان زوجي سعيداً بحبي لبناته وفي غمرة حبي لهن لم التفت مطلقاً بأنه حب من طرف واحد.. هو أنا.. فبعد فترة بسيطة تكشفت لي الحقيقة.. أن هؤلاء البنات لم يحملن لي أدنى حب أو حتى احترام، فبدأت أعاني من تصرفاتهن المؤذية لمشاعري ومن كلماتهن التي تخلو من أدنى حدود للاحترام.. حاولتُ توجيههن بكل ذوق لكنهن أصررن على أنه ليس من حقي «هذا التوجيه» فلا أنا أمهن ولا يمكن أن أكون في مكانها.. ثم قالت لي أكبرهن: لا تظني أنك بزواجك من أبي سيكون لكِ مقام الأم.. أنت مجرد زوجة أب ليس أكثر ونحن نــرفـض مـن اليـوم فصـاعـداً أن نلقبـك بـ «ماما» فأين أنت من أمنا؟!

 

وكانت صدمة مروعة.. معقول أنا أحمل لهن كل الحب والعطف والحنان. وهن بهذه القسوة؟ لماذا.. والله إني أحبهن حقاً وأتقي الله فيهن.. لماذا لا يكون جزاء الإحسان إحساناً؟

 

بدأت البنات بمضايقتي بطرق ملتوية.. مثل إشاعة الفوضى في كل غرف البيت، فأظل أنظف وأعيد الترتيب للبيت كله حتى خارت قواي وخاصة أنني موظفة أيضاً.. وكان من أخطائي أني كنتُ أعطي زوجي راتبي كاملاً مع أنه ليس بحاجة إليه.. وذات يوم ناقشتني ابنته الكبرى بعدم احترام فشكوت له بل كان هو يرى المشهد بنفسه فما كان منه إلا أن نهرني لأنني أشكو، وطلب مني أن أتحمل كل الأمور وأخذ ابنته في أحضانه وظل يدللها كأنما هو يؤيد طريقتها السيئة في معاملتي.. وشيئاً فشيئاً بدأ زوجي يتغير معي ويتهمني أنني لست حنونة كما ينبغي مع بناته وإنني لم أنجح في اكتساب مودتهن.. طبعاً نجحت بناته في إثارة غضبه وسخطه عليَّ من خلال أسلوبهن معه ضدي.. فأردتُ أن أوضح لزوجي أنني أحببتهن كبناتي ولكنه كان حباً من طرف واحد.. لكنه لم يصدقني وبدأ يصد عني ويعاقبني بالهجر.. فأصبحت له غرفة بمفرده.. وأصبح كثير الوم لي وكثير المقارنة بيني وبين زوجته الراحلة.. ثم أصبح يؤكد ندمه على الزواج مني.. كل هذا وأنا صامته مذهولة.. لماذا يتكرر الحزن في حياتي لماذا لم أرزق برجل يتمسك بي ويرى فيَّ السعادة ويحبني، إن راتبي في جيب زوجي وأنا أقوم بكل واجباتي والله يعلم ويشهد.. لماذا للمرة الثانية.. يخيب رجائي؟

 

كان زوجي ينام في غرفة بمفرده.. كلامه معي قليل وينبئ بأنه يدبّر لي أمراً أقله الطلاق.. ويصد عني في الوقت الذي يزداد اقترابه من بناته وهن دائمات الإساءة لي.. رفعت يدي للسماء يا رب.. أنا وحيدة وضعيفة في هذا البيت.. لا أحد يحبني ولا أحد يعدل معي.. حتى راتبي يحصل عليه زوجي ولا يقول شكراً.. يا رب انصرني ووفقني لما تحبه وترضاه.

 

كنتُ أذهب لعملي فأجد الحب والتقدير والاحترام من الجميع وأعود لبيتي فأجد الهجر والمقاطعة وسوء الأدب.. أخفيت عن أهلي «خيبتي» للمرة الثانية.. ثم شعرتُ بدوار وأنا في عملي.. فذهبت للطبيبة وكان أجمل خبر: أني حامل.. يا الله! أي خبر يفوق هذا النبأ العظيم؟

 

يا الله! استجبت لدعائي فلم تذرني فرداً.. رزقتني بطفل يؤنسني في هذا البيت الغريب.. لا لن أخبر أحداً.. إنه هدية السماء لي.. لي وحدي.. وأشرقت ملامحي بالسعادة وتعجب زوجي من التغير التام لحالتي النفسية.. ولم أخبره حتى بدأت بطني تكبر فعرف الحقيقة.. وتخيلوا لم تظهر عليه أي ملامح للسعادة.. فقد كان يخشى من شعور بناته اللاتي أصابهن الحزن العظيم حين علمن بنبأ حملي.. تخيلوا؟

 

أي حقد يسكن قلوب هؤلاء البنات.. حتى يتحالين الحيلة تلو الحيلة كي يسقط جنيني.. ويحدث إجهاض؟ تخيلوا.. لكن الله أكبر منهن ومن خبث قلوبهن، فجاء طفلي جميلاً صحيحاً معافى.. وقد تخيلتُ أن بمجيء هذا الكائن البريء سيعود لي زوجي محباً.. لكن دون جدوى.. ازداد قسوة عليّ وعلى طفلي فكان يضربه وهو رضيع.. كل هذا حتى يُرضي بناته اليتيمات على حد قوله.. المحرومات من الأم.. وكأني أنا التي حرمتهن منها.. ساءت معاملة زوجي لي ولطفلي حتى ساءت صحتي.. فناديت أمي.. فجاءت إلى بيتنا وفوجئت بها تقول لزوجي: يا أبا أحمد.. الآن أنت تعامل ابنتي أسوأ معاملة كأنها هي سبب في أمور مضت في حياتك.. ألم تفعل الشيء نفسه من سوء معاملة وعشرة مع زوجتك الراحلة مما أدى لإصابتها بنوبة قلبية ورحيلها المفاجئ عن الحياة؟

 

ألا تعلم بناتك بأنك السبب الرئيسي في تعاسة أمهن وجيرانك يعرفون كم كنت تضربها وتطردها أحياناً؟

 

وأضافت أمي: أنني لن انتظر حتى تفعل بابنتي ما فعلته يوماً بزوجتك الراحلة.. من الأفضل أن تعيش مع بناتك فقط حتى لا تتسبب في إيذاء زوجة أخرى.. هي ابنتي!

 

وحملت طفلي، ورحلتُ مع أمي وأنا في حالة من الذهول الشديد، يا ترى هل وفقت أمي في تصرفها هذا ومن الذي خسر منا أنا أم زوجي!

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply