بسم الله الرحمن الرحيم
من الظواهر البارزة في واقع المسلمين اليوم أنّ كثيرين لا يحبّون أن يعترفوا بأخطائهم، أو لا يحبون أن يعرفوا أخطاءهم، ولا يحبّون أن يُنصحوا، بل يحبّون أن يُحمدوا ولو بغير حق. كثيرون أولئك الذين يستكبرون على النصيحة وعلى كل محاولة للتذكير، وعلى كلّ محاولة للعلاج.
من أصعب القضايا التي واجهتُها في ميدان تربية الناشئة وتدريبهم قضية معالجة الخطأ. قلما تجد من يُسرع فيعترف بخطئه ويعتذر ويستغفر الله ويتوب إليه. قلّما تجد من يفعل ذلك. ولكن أكثر الناس يُسرعون في تسويغ أخطائهم وتزيينها، ويتناسون الآيات والأحاديث في حُمَّى الجدال المقيت، الجدال القاتل للجهد والوقت، الجدال الذي يحضره الشيطان فيزيّن ويثير حتى يقع الطرفان أو أحدهما في الإثم. إن التدريب على هذا الموضوع، مثل غيره من الموضوعات، يجب أن يتم في البيت أولاً، ثم المدرسة والمعهد، ثم الدعوة وسائر المؤسسات.
الميزان واضح، والخطأ بموجب الميزان واضح، والنهي عن الجدل ثابت ومقرر في الآيات والأحاديث، ومع ذلك كُلِّه ينفخ الشيطان في النفوس حتى تستكبر، فلا هي تُقِرٌّ بالخطأ، ولا هي تعين على معالجته. وتمتدٌّ الأيام والسنون والأخطاء تتراكم، وتُخفَى عن الأعين، وتطوى وتكمٌّ الأفواه! حتى تأتي لحظة ينفجر فيها أحدهم فيُفلت الزمام من يده، ويدوِّي بالأخطاء، بما صحَّ منها وبما لم يصحّ، وتنلقَّف بعض المصادر والصحف أو المجلات مثل ذلك، فتذيعه بأسلوب قد يُشعِل أُوار الخلاف. وبين هذا وذاك لا ترى دراسات إِيمانية جادّة.
دعوتُ إلى ما أسميتُه \"الوقفة الإيمانيّة\" في كلمة نشرتها مجلة الأمة القطرية قبل أكثر من ثلاثين سنة. وقدمتُ بعض الدراسات عن نواحي الخلل إِلى من يعنيهم الأمر. وانتقلتُ بصمت وهدوء من مكان إلى مكان لأنصح قدر جهدي دون دوىٍّ, إعلامي. بعضهم يُقرّون بصحة ما أُقدّم، ثم يتساءلون: \"ولكن ما العمل؟!\". ثم يُنكرون أيّ مُحاولة للعلاج، أو يقاومونها، وبعضهم يَغيبون في القيل والقال ويطلقُونَ الظنون والجدال دون الوصول إلى أيّ نتيجة إلا زيادة الخلافات.
لا شك أن هنالك أصابع يحرّكها الشيطان اندسَّت بين صفوف المسلمين لتفسد ولا تصلح، في جوّ فيه قليل من العلم، وفيه ضعفٌ في الإيمان وجهل بالواقع، مما يفتح ثغرات للمفسدين ليتسلّلوا.
إنّ من أَهم الوسائل التي قد يتخفّى بها المفسدون ويُستَدرج بها المسلمون دويٌّ الشعارات دويّاً يُعطِّل التفكير، ويثير العواطف، ويُغفِل النهج والتخطيط، والدراسة والبحثَ، وردَّ الأُمور إلى منهاج الله.
لقد كان لدويّ الشعارات أثرٌ خطيرٌ في كثير من قضايانا. تدويّ الشعارات وهي تُعلِن الهدف المرجوَّ، ثم تمضي السنون فإذا المسيرة في اتجاه، والهدف المرجوٌّ في اتجاه آخر، وتظهر هذه الصورة من التناقض جليّة، فيزداد دويٌّ الشعارات حتى تُخفَى الصورةُ الجليّة، ويمضي دويّ الشعارات، شعاراً بعد شعار , وتُخفَى المأساةُ حيناً إلى أن يشاء الله.
إنّ دويَّ الشعارات الخالية من أيِّ نهج هو ملجأُ المفلسين الذين فاجأتهم الهزائم، وانكشفت العورات، حتى وجدوا في الشعارات ودويِّها ستاراً يستر وغطاءً يُخفي الحقيقة عن أعين الناس. ولكنّ الله سبحانه وتعالى يعلم ما يُخفَى وما يُعلن.
والناس بصورة عامة يُسرعون إِلى قبول الشعار وحده، والتصفيق له، والجري وراءه، دون أن يسألوا أين النهج وأَين الدرب الذي يوصل إِلى الهدف المعلن، وما هي الوسائل والأساليب، وأين العدّة والإعداد؟! ودون أن يسألوا أين جوهر الإيمان والتوحيد، وأين ممارسة الآيات والأحاديث؟! حتى تفاجئهم الأحداث!
هذه نفسيّة \" الجماهير \" عبر الزمن، ولكن هذا لا يُعفي الجماهير من الحساب بين يدي الله. ولا يُعفي أحداً من المسؤولية والحِسَاب يوم القيامة، كلّنا مسؤولون ومحاسبون، والحياة الدنيا هي الفرصة الوحيدة للتوبة والأوبة، وللاستغفار والإنابة.
دويٌّ الشِّعارات الخالية من النهج والتخطيط أرهق الأُمة، ودفعها إلى انتكاسات بعد انتكاسات، ومأساة بعد مأساة، وادعاء النصر مع الهزيمة، وخاصة في قضايانا العامة السياسية وغيرها.
ولا أزال أعيد وأؤكد الموعظة التي أُردّدها مع كل مناسبة، تلك هي:
\" أنه إذا التقى فريقان، فريق له نهجه وخطته وإعداده، وفريق لا نهج له ولا خُطّـَة ولا إعداد، فإِنَّ الفريق الأول يستطيع أن يحوّل جهود الفريق الثاني لصالحه، ويبقى الفريق الثاني مع بذله لم يجن شيئاً. \"
والغريب العجيب أننا مع كثرة الأحداث، والمواعظ التي تحملها الأحداث، مازلنا نمضي على نفس الأُسلوب من الارتجال والعفويّة، ومن عدم التبيّن ومن اعتماد الظنّ المنهيّ عنه، ومن عـدم توافر الدراسات العميقة، كأَنَّنا لا نستفيد من الأحداث والتجارب، ولا من آيات الله البيّنات وسننه فيها.
فَليقِف المسلم المؤمن الصادق مع ربّه ومع نفسه، فَليَقف اليوم يستعيد أهم الأحداث والقضايا، وليُحاول أن يتلمَّس أَين الخُطَّة وأَين النَّهج الذي سارت عليه تلك الأحداث والقضايا! فَليَقف المسلمُ اليوم يسترجع الأحداث حدثاً حدثاً ولينظر إلى أيِّ نتيجة آلت إليه الأحداث.
وقد يتساءل بعضهم ما معنى النهج والخُطة؟! ما هو التخطيط؟! أليس الذي يجري هو التخطيط؟! ذلك أن كثيراً من الناس لا يدركون ما هو التخطيط ولا ما هو النهج، في الوقت الذي أصبح فيه النهج والتخطيط علماً، وقبل ذلك هو واضح في الكتاب والسنة وسيرة النبوّة الخاتمة وسيرة الخلفاء الراشدين.
في إحدى تنقّلاتي في أرض الله الواسعة لأبيّن بعض ما أراه من خلل وعيوب، وما أراه من الارتجال والشعارات، وما أعتقده من علاج وإِصلاح، أخذتُ أشرح أهميّة التخطيط وضرورته وخطر غيابه. كنت أشرح ذلك لقائد موجّه داعية! وفي وسط الحديث فاجأني بسؤال فقال: تكثر من ذكر التخطيط والنهج وضرورته، فما المقصود بالتخطيط وكيف يكون ذلك؟! ظننته أول الأمر مازحاً، ولكن وجهه كان يدلٌّ على جدية سؤاله، وعلى حقيقة جهله للتخطيط! فتمالكتُ نفسي وقلت له: التخطيط تجريه أنت في كل أمر يُهمٌّك في دنياك. إنك لو أردت السفر من هذه المدينة إلى تلك، فإنك تُحدِّد أولاً هدف السفر وغايته، ثم تحدّد وسيلة تحقيقه بالطائرة أم القطار أم السيارة. ثم تحدّد الوقت المناسب، ثم تحدّد الحاجات الضرورية للسفر من نفقات وأوراق وكتب، ثم تحدّد المدّة التي تقضيها ولو بصورة مبدئية. وإن كنت مؤمناً صادقاً واعياً لقواعد الإيمان فإنك تخلص نيّتك في سفرك لله، لتتأكد أن سفرك عمل صالح لا فساد فيه، وتردّه إلى منهاج الله لتطمئن أنه لا يخرج عن منهاج الله وأنه ملتزم لقواعده. ثم تحاسب نفسك أثناء السفر وتتفقَّد كل أمورك، ثم تقوِّم عملك عند عودتك.
هذا التصوّر يجب أن يرافق عمل المؤمن كله، وعملك يا أيها المسلم، حتى تكون أوفيت بعهدك مع الله. هذا التصور يجب أن يكون نهج أمة، ونهج دعوة، ونهج داعية. وهذا أمر يحتاج إلى التدريب عليه ودراسته علماً يحتاجه كل من ينزل ميدان الحياة. وهذه مسؤوليّة الدعوة الإِسلامية أن تدرّب أبناءها على النهج والتخطيط، وعلى الإِدارة والتنظيم، وعلى محاسبة النفس والتقويم. ثمّ سألته ألم تدرس ذلك في دعوتك، ألم يدرِّبك أحد على ذلك، ألم تُجرِ تقويمَ عملك وردَّه إلى منهاج الله؟!!
وفي جولة أخرى قصدت داعية يساهم في نشاط كبير رغبت أن أنصح له. فبيّنت له ما أراه من أخطاء في المسيرة، وأنه يغلب عليها الارتجال، فلو دارت الشورى لكان الأمر أفضل. قال نعم! لقد دارت الشورى، ورُفِعت الأَصابع وأخذنا برأي الأكثرّية. قلت له: إن هذا الأمر متعلق بميادين متعددة، فكم من خبير اقتصادي ساهم في الشورى، وكم من خبير سياسي، وخبير في كذا وكذا! قال: لا يوجد أناس مختصون في أيٍّ, من هذه الأمور. قلت: إذن ما فائدة الشورى إذا دارت بين أناس لا خبرة لهم في الموضوع المطروح. ثم ذكرت له أن الواقع يكشف عن مظاهر الارتجال ودويّ الشعارات أكثر من مظاهر العمل المنهجي المستكمل لشروطه وإِعداده، وأن هناك خطراً من حدوث مأساة مع هذا الارتجال! فقال: لا تخف! ربنا كريم. وهو مع المسلمين، وساق من الجمل العامة الشيء الكثير، ثم انجلت الأحداث عن مآسي وفواجع.
وأعجب كيف لا يقف كل مسلم ليتساءل لِمَ كانت الهزائم والفواجع مع أن المسلمين لم يبخلوا بجهد ولا مال ولا دماء؟! كيف ضاعت هذه الجهود وتناثرت ولم نرجع منها بنصر.
وفي أحيان كثيرةٍ, يأخذ الكِبر من النفوس، فيحاولون أن يجعلوا من الهزيمة نصراً، ومن المصائب فخراً، فلا يقبلون نصحاً ولا رأياً. غلب الشعار والأماني والأوهام، ودخل الخدر في الدم والعروق!
شتَّان بين مسيرة تدفعها الشعارات والارتجال، والأماني والأوهام، وبين مسيرة تمضي على نيَّة واعية خالصة لله، تعرف هدفها الحقَّ والدربَ الموصل إِليه، واستكمال العدَّة والعدد، والوسائل والأساليب، يجمع ذلك كله خطّة واضحة ونهج بيّن. شتان بين المسيرتين، وبين العقليّتين! شتان بين الأسلوبين:
• الشعار وحده يدفع إلى الارتجال!
والنهج والتخطيط يدفعان إلى التبصّر والتبيٌّن!
• الشعار وحده يثير العواطف ويعطِّل التفكير!
والنهج يحفز التفكير ويطلقه على توازن بينه وبين العاطفة!
• الشعار وحده قد يُخَدِّر النفوس!
والنهج والتخطيط يثير اليقظة والوعي!
• الشعار وحده قد يُضيع الأمانة ويدفع النفوس إلى الجري اللاهث وراء الدنيا وزينتها!
والنهج والتخطيط يحمل النيّة الواعية الخالصة لله، النيّة التي تؤثر الآخرة على الدنيا!
• في حمى الشعارات قد يتسلَّل الذين يريدون الدنيا والسمعة، فلا حساب ولا محاسَبة!
في النهج والتخطيط تقويم ومحاسبة ودراسات وميزان!
• في حمى الشعارات قد تغيب الإدارة الإيمانية وقواعدها الربّانيّة!
في النهج والتخطيط إدارة إِيمانية ونظام، ومسؤوليات وصلاحيات، وحدود وتنسيق!
• الشعار وحده قد يدفع إلى التفرّق والتمزّق وتنافس الدنيا!
والنهج والتخطيط يجمع القوى الصادقة والعزائم الوفيّة!
عندما نتحدث عن النهج والتخطيط، والإدارة والنظام، فإننا نعني التصوّر الإيماني لذلك، التصور الذي يجعل النيّة الواعية اليقظة الخالصة لله أساس النهج والتخطيط والإدارة والنظام، لينطلق ذلك كله على أسس راسخة من الإيمان والتوحيد، والكتاب والسنّة، ووعي الواقع من خلال الكتاب والسنة.
والنيّة التي نقصدها هي النيّة التي تحدِّد هدفها الربّاني والدرب الموصل إليه، حتى لا يكون الهدف في ناحية والدرب في ناحية أُخرى. وهي النيّة التي تحدّد الوسائل والأساليب. وليكون ذلك كله ربّانياً. ولذلك نقول إِن النيّة هي النيّة الواعية اليقظة الخالصة لله التي تعرف هدفها ودربها الموصل إِليه ووسائل الإعداد والأساليب.
وأيٌّ معنى للنيّة إِذا لم يكن الهدف والدرب محدَّدين. وأي معنى لإخلاص النيّة لله إذا لم يكن الهدف والدرب والوسائل والأساليب كلها ربّانيّة.
في النهج والتخطيط تتمٌّ الموازنة، وتجري الأُمور على توازن دقيق، ويدور التقويم المنهجي، وتحديد الأخطاء ومعالجتها قبل أن تتراكم، وينهض النظام الإداري الإيماني ليحمل الإشراف والمراقبة، والتذكير والتوجيه، والتنسيق والتعاون، والنصح الواعي المستكمل لشروطه الإيمانيّة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد