قبل أن تتعلم السحر


بسم الله الرحمن الرحيم

 

حينَ أضغط على لوحة مفاتيح الكمبيوتر، تظهر على الشاشة كلِمات مقروءة تستطيع أنت - أيها القارئ - من خلالِها فهم ما أُريد قوله. و حينَ أريد الدخول إلى بريدي الإلكتروني، أقوم بالضغط على مجموعة مفاتيحٍ, خاصّة كي أتمكّن من العبور إلى داخِله و الاطلاع على الجديد من أسرارِه. النفس البشرية كذلِك، لها مفاتيح إذا ما أحسنّا الضغط عليها تمكّنا من التعبير عن النفس بوضوح أو العبورِ إلى نفس من نتحاور معه كي نلتقي في نقطةِ اتفاق أو إقناع.

فكم مِنا يا تُرى من يُجيد الضغط على المفاتيح الصحيحة...كِم مِنّا يجيد مهارات الحِوار؟!

الحقيقة أن الكثير مِنا لا يتسم بنفس الوضوح و الدقّة عند التحاور مع والِديه، أبنائه، زوجِه أو حتى زُملائه و مرؤوسيه في العمل! و الكثير مِنا تُعييه الحيلة في إيصال وجهة نظره بصورة بيِّنة يستطيع من حولِه أن يراها بوضوح و يفهمها، فلِماذ يا تُرى؟!

أعتقِد - واللهُ أعلم - أن هذا يعود لتركيز الكثير مِنا على الإقناع قبل الاتِفاق، و أعنِي بِذلك أننا أحياناً نبدأ من النتيجة النِهائية بدلاً من أن نقود من نُحدِّث حتى يصِل إليها.فتراني أنا - مثلاً - أتحدّثُ عن الأفعى التي أرى لأصِف الشجرة أو الجدار الذي تراه أنت، و بالتأكيد فإنني لن أستطيع أن أُريكَ ما أرى مادام لك عقل و عينان.

 

اصبهر لاوهجييمن!! عفواً هل قمتُ بالضغط على المفاتيح الخاطئة؟!

حسناً سأعودُ أدراجي كي أقودكم إلى النتيجة التي أُريد إيصالها، و أحكي لكم قِصة الفيل مع كفيفي البصر. يُحكى أن ستة من كفيفي البصر أرادوا \"رؤية\" فيل، فأقترب الأول مِنه و تحسّس خرطومه، وقال: ليس الفيل إلا أفعًى، و وقعت يد الكفيف الثاني على رجل الفيل فقال: بل هُو شجرة، و الآخر لمس جنب الفيل فقال: بل هو جِدار، و الرابع تحسّس ناب الفيل، و قال: بل هو حربة، و الخامس لمسَ ذيله، و قال: بل هو حبل، والسادس تحسس أذنه و قال: بل هو كالمِروحة!

طبعاً الكُل وصف ما رأى من واقِع تجربته، و لو شدّ صاحب \"الأفعى\" صاحِب \"الحربة\" لجعلهُ يرى الحربة أيضاً و لو تبادل هؤلاء الستة أماكِنهم لرأى كل منهم الجزء الآخر من الحقيقة و لاتفقوا بدلاً من أن يختلِفوا و يتمسّك كل منهم برأيِه! الشاهِد أن المرء يصبح كفيفاً عن باقي الحقائق لحظة يعتقِد أنه الوحيد القادِر على الرؤية الصحيحة، و أن الواحِد منا غالِباً ما يغفل عن أخذ تجارب الآخرين بالاعتِبار فيحاوِل أن يُريهم الأمور مِن واقِع تجاربه و قناعاته الشخصية فيفرِضها عليهمº فلا هُم يرون ما يرى، ولا هو يرى ما يرونº فيفشل الحوار و يخرج الجميع بلا نتيجة!

إنّ اعتبار التجارب الشخصية للآخرين يعني أن نفهم خلفياتهم الدينية، قِيمهم التُراثية، معتقداتهم الشخصية، و أنماطهم الفكرية التي تشكّلت في بيئتهم التربوية، و بالطبع لن نستطيع تفهَّم أي من ذلك ما لم نُتقِن دور المُستمِع الجيِّد، و نتقمَّص بعضاً من الفضول المُهذّب حتى تتّضح لنا رؤيتهم فنضغط حينها على كلمات المرور السحرية بِمهارة تجعلنا نتحكم بِهم فنقودُهم لرؤية ما نرى. و لا أجِد هُنا مِثالاً أحسن من حوار سيّدنا إبراهيم مع قومه: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيهِ اللَّيلُ رَأَى كَوكَبًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبٌّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى القَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّم يَهدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ القَومِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَآ أَكبَرُ فَلَمَّا أَفَلَت قَالَ يَا قَومِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهتُ وَجهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ المُشرِكِينَ) [سورة الأنعام: 76-79]

لاحِظ التساؤل أعلاه، و تقمّص الفضول المُهذّب قبل أن يقودهم إلى النتيجة، ثم لاحِظ هُنا النِقاش الذي دار بعد الوصول إلى النتيجة: (وَحَآجَّهُ قَومُهُ قَالَ أَتُحَاجٌّونِّي فِي اللّهِ وَقَد هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيءٍ, عِلمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيفَ أَخَافُ مَا أَشرَكتُم وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُم أَشرَكتُم بِاللّهِ مَا لَم يُنَزِّل بِهِ عَلَيكُم سُلطَانًا فَأَيٌّ الفَرِيقَينِ أَحَقٌّ بِالأَمنِ إِن كُنتُم تَعلَمُونٌ) سُبحان الله! [سورة الأنعام: 6-8]

و لاحِظ كيف وجّه سيّدنا إبراهيم الضربة القاصِمة هنا بناءً على مُعتقداتِ القوم لا على مُعتقداته هو: (قَالَ بَل فَعَلَهُ كَبِيرُهُم هَذَا فَاسأَلُوهُم إِن كَانُوا يَنطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِم فَقَالُوا إِنَّكُم أَنتُمُ الظَّالِمُونَ) [سورة الأنبياء: 63-64]

الدرسُ المُستفاد من قِصة إبراهيم - عليه السلام - هو أن فرض القناعات الشخصية قد يكون قاصِراً عن إحداث النتيجة المنشودة، و أن نِقاش القوم في قناعتهم قد يكون أكثر فاعِلية، و أننا كي نُناقِش شخصاً ما في قناعاته علينا أن نتعلّم الإنصات أولاً!

تذكّر هذا حين تُجهِّز لحوارٍ, ما، و أعلم أنك كي تتمكن من القيادة إلى النتيجة عليك أولاً أن تضع نفسك في موقع الآخر لِتواجه من هُناك المردة الثلاثة الذين يتحكمّون فيه لتهزِمهم: الخلفيّات الدينيّة... القيم التُراثيّة والمعتقدات الشخصيّة... و أنماط الفِكر. و تذكّر أيضاً و أنت تواجِههم أنّ عليك الحِفاظ على ثلاثة أُخرى و كسبهم إلى جانبك: الحقائق، ماء وجه، و أحاسيس مُحدِّثك!

 

\"إن من البيان لسِحراً\" (صحيح مسلم)

و للكلِمات طاقة قادِرة على احتلال القلب و سلب اللب للوصول إلى الهدف، فإذا أردتَ أن تتمكّن مِنها عليك أولاً تجميع الطلاسم (المفاتيح الصحيحة).

و لن يكون لك ذلك قبل أن تُتقِن فن الإنصات، فاستمع، تعاطف، تفهّم و تجرّد كي تستطيع الاستعانة بما أنصتّ إليه في البحثِ عن المفاتيح الصحيحة...

و قبل ذلِك عليك \"الإعداد\" للمعركة الفِكرية، فحاول قدر المُستطاع ألاّ ترتجِل الحوار، و أن تجعل لهُ موعِداً، تدارس قبله جميع الحقائق و المُعطيات قبل أن تُحاوِر والديك، ابنك، زوجك، رُفقاء عملِك، أو حتى في مجال الدعوة.. و في مجال الدعوة بالذات فكِّر في تطوير أسلوب حِوارك كي تصرِف أبصارهم إلى الحق و تلقف عصاك ما يأفكون!

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply