المقدمة:
المعاجم اللغوية في العربية وغيرها، هي الملجأ الذي يهرع إليه الدارس والمدرس، والعالم والمتعلم، إذا ما أشكل عليه معنى مما يقرؤه، أو يسمعه من ألفاظ اللغة. وما أكثر ما يشكل عليه منها، وبخاصة إذا كانت لغة كالعربية ظلت حية نامية عبر قرون وقرون، ومن هنا فنحن أحوج ما نكون إلى معرفة معاجم لغتنا والسبل التي انتهجت في تأليفها، وترتيب موادها كيما نستطيع العثور على ما ننشده فيها بسهولة ويسر. ولهذا فقد اقتصر البحث أو كاد على مدارس المعاجم العربية، ومنهج كل منها، وما ينتمي إليها من معاجم وأعرض عن نقدها والوقوف على حياة مؤلفيها وما إلى ذلك مما ليست له صلة مباشرة بتيسير الانتفاع بها. غير أن الحروف هي الأساس الذي قامت عليه المعاجم العربية فكان لابد من الإلمام بها والكشف عن العلاقة بينها وبين المؤلفات التي صارت هذه الحروف عليها، والوقوف على ترتيبها وتصوره، وما أهمل واستخدم من أنواعه.
ومن يلزم نفسه بدراسة المعاجم العربية لا ينبغي له أن يجهل معنى المعجم وما يتصل به من جمعه ومرادفه ومصدر تسميته. وإذا كنا قد أطلنا في الحديث عن مصدر التسمية فما ذلك إلا لكثرة ما قيل فيه وتباينه. ولحرصنا على أن يختار المتدرب لا أن نتولى الاختيار نيابة عنه.
كلمة لابد منها:
المعاجم العربية ميدان واسع لا يفي به بحث كهذا. وقد سبق أن كتب فيه الأستاذ الدكتور حسين نصار رسالته للدكتوراه في مجلدين كبيرين. وكتب فيه بعد ذلك بحثين لمعهد التربية في بيروت (الأنروا)، اختص الثاني منهما بالمعاجم التي راعت الترتيب الالفبائي. وأردف المعهد هذين البحثين بورقة عمل. غير أننا آثرنا أن نتناوله ببحث واحد، رغم تعدد محتوياته، وتفاوتها كيلا نضطر إلى معالجته أكثر من مرة، ومع أننا اقتصرنا على جوانب منه فقد جاء على شيء من الاتساع وكان لابد له من هذا لسعة الموضوع. فالمعاجم العربية كثيرة، منها المخطوط والمطبوع، وما اتبع هذا الترتيب أو ذاك، فالتحق بهذه المدرسة أو تلك، وغير خافٍ, أن هذه المدارس ليست سواء في الصعوبة، والأهمية، ومقدار حاجة المتدرب إليها. غير أن مثل هذه البحوث تتقيد بعناوينها. وهي بعد هذا صورة لما تتناوله من موضوعات. فالموضوعات العسيرة المعقدة لا ينتظر أن تأتي بحوثها سهلة يستطيع كل قارئ أن يفهما بمجرد قراءتها قراءته للصحف والمجلات. ولكن للقارئ من حرية التصرف فيها والاختيار منها ما ليس للباحث. فله أن يأخذ ما يستسهله ويروق له ويحتاج إليه أكثر من غيره. وهذا الذي يأخذه ليس بقصيدة يراد حفظها واستظهارها أو نظرية علمية تكلفه ما تكلفه من جهد التفهّم والتثبّت والتدقيق في كل جزء من أجزائها. فلكل موضوع طبيعته. ونحن هنا لا نطمح إلى أكثر من أن يعرف المتدرب معاجم لغته، كيلا تقتصر معرفته على ما شاع منها. ويدرك ما يقتضيه البحث عن الألفاظ فيها من إرجاع تلك الألفاظ إلى أصولها، ويدرس بإمعان منهج المدرسة التي يرى في نفسه في حاجة إلى معاجمها. فلا تفوته معرفة المعاجم العربية وكيفية الإفادة منها. وما سواها من تفضيلات إنما هي معلومات هامة مفيدة يمكن أن يستفيد منها عاجلاً أو آجلاً فالمتدرب هو المتحكم بها وليس لها أن تتحكم فيه ولا نريد لها ذلك والله الموفق لما فيه الخير.
المعجم
تعريفه:
أطلق لفظ المعجم على الكتاب الذي أورد الألفاظ اللغوية ومعانيها مرتبه بحسب حروفها.
مصدر التسمية:
أخذت هذه من حروف المعجم لإطلاقهم اللفظ (المعجم) على الكتب التي راعت أي نوع من المراعاة الحروف في ترتيبها كمعاجم اللغة، والأدباء، والشعراء، والمؤلفين، والبلدان، وغيرها[1].
تعليل تسمية حروف العربية بحروف المعجم:
تباينت أراء العلماء في تعليل تسمية الحروف العربية بحروف المعجم فذهب الخليل بن أحمد الفراهيدي إلى أنها سميت بهذا الاسم لكونها أعجمية[2] من غير أن يوضح ما أراده بأعجميتها. ولهذا قال ابن فارس (وأظن الخليل أراد بالأعجمية أنها ما دامت مقطعة، غير مؤلفة تأليف الكلام المفهوم، فهي أعجمية، لأنها لا تدل على شيء فإن كان أراد هذا فله وجه، وإلا فما أدرى أي شيء أراد بالأعجمية)[3].
وذهب الفارابي مذهب الخليل في أعجميتها المتأنية من تقطيعها فقال (حروف المعجم: الحروف المقطعة)[4]. وسئل أبو العباس ثعلب عن تسميتها بحروف المعجم فقال ((أما أبو عمرو الشيباني فيقول: أعجمت: أبهمت وقال الفراء: أنها أخذت من أعجمت الحروف، ويقال قفل معجم، وأمر معجم إذا اعتاص. وقال أبو الهيثم: معجم الخط: هو الذي أعجمه كاتبه بالنقط)[5].
وقال الجوهري: \"والمعجم: النقط بالسواد مثل التاء عليه نقطتان، يقال أعجمت الحرف، والتعجيم مثله...ومنه حروف المعجم: وهي الحروف المقطعة التي يختص أكثرها بالنقط من بين سائر حروف الاسم.ومعناه: حروف الخط المعجم كما تقول: مسجد الجامع، وصلاة الأولى: أي مسجد اليوم الجامع وصلاة الساعة الأولى\"[6].
وذهب المبرد إلى أن المعجم بمعنى الإعجام، وأيده فيما ذهب إليه ابن جني (أبو الفتح عثمان بن جني ت342) فقال: \"والصواب في ذلك عندنا ما ذهب إليه أبو العباس محمد بن يزيد (المبرد) - رحمه الله تعالى -من أن المعجم مصدر بمنزلة الإعجام. كما تقول: أدخلته مدخلاً، وأخرجته مخرجاً: أي إدخالاً وإخراجاً.. فكأنّهم قالوا هذه حروف الإعجام. فهذه أسد وأصوب من أن يذهب إلى أن قولهم: حروف المعجم بمنزلة قولهم صلاة الأولى، ومسجد الجامع فالأولى غير الصلاة في المعنى، والجامع غير المسجد في المعنى أيضاً\"[7].
وناقش عبارة حروف المعجم مناقشة نحوية تناول فيها أيما توسع فنفى أن يكون المعجم وصفاً للحروف، إذ لا توصف النكرة بمعرفة. وأكد أن حروف المعجم لا تعني حروف الكلام المعجم، وإنما تعني أن الحروف هي المعجمة[8]، وفاته أن الكلام أو الخط الذي تعجم حروفه: كلام معجم وخط معجم. وليس هناك على الإطلاق ما يمنع من وصفها بالإعجام ما دامت حروفهما معجمة. وأنهما كأعضاء الجسد، وأفراد المجتمع. وسلامة الجسد من سلامة أعضائه، وصلاح المجتمع من صلاح أفراده وبالعكس. وما لنا وهذا ونحن ننعت الأفعال بالصحة والعلة لا لشيء إلا لصحة حروفها واعتلالها وكذلك الشأن في المهموز منها والواوي. فلا أدري بعد هذا ما الذي يمنع أن يوصف الكلام بالإعجام لإعجام حروفه؟؟
أما إضافة الحروف إلى المعجم فهي إضافة صحيحة لا غبار عليها. وإذا تهيأ لابن جني أن الحروف هي الكلام أو الخط، وأن الشيء كما ذهب النحاة لا يضاف إلى نفسه فقد أبعد. لأن الكلام أو الخط غير الحروف وإن كانت الحروف ركناً هاماً فيهما لا قوام لهما بدونه. فهما مكونان من حروف معينة موصولة متحركة (منطوقة) مرتبة على نسق أراده المتكلم أو الكاتب للتعبير عن معنى ما. أما الحروف فهي مقطعة غير موصولة، صامتة غير منطوقة لخلوها من الحركات، وهي بعد هذا لا تؤدي أي معنى من المعاني.
ومهما يكن من شيء فأن ما أنكره ابن جني على غيره من القائلين. بأن حروف المعجم تعني حروف الكلام أو الخط المعجم إنما تعني حروف الكلام أو الخط العربي ما دام الإعجام خاصاً بهما كما أعتقد علماء العربية القدامى. وقد صرح ابن فارس باعتقادهم هذا فقال: \"والذي عندنا في ذلك أنه أريد بحروف المعجم حروف الخط المعجم وهو الخط العربي لأنا لا نعلم خطاً من الخطوط يعجم هذا الإعجام حتى يدل على المعاني الكثيرة\"[9].
ولهذا استغنوا عن حروف الخط العربي بحروف الخط المعجم، ثم استطالوا هذه العبارة فحذفوا الكلام أو الخط منها، إستغناء عنهما بذكر أبرز خصائصهما فكانت حروف المعجم بمعنى حروف الخط المعجم أو حروف العربية. ولهذا رأينا حروف المعجم هذه تدخل في عناوين الكتب التي راعت الحروف العربية كما أسلفنا أي نوع من المراعاة في ترتيب موادها، فقيل (كتاب هذا على حروف المعجم)[10] وهو في الحقيقة على حروف العربية ويبدو أنهم استطالوا هذه العبارة أيضاً فاكتفوا بالقول (كتاب كذا على الحروف)[11] بحذف لفظ المعجم أو (معجم كذا) بحذف لفظ الحروف وإضافة المعجم إلى مضمون الكتاب. وراجت هذه العبارة أكثر من الأولى لاختصارها من غير ما إخلال بالمعنى، وصارت علماً للكتب المتحدث عنها كمعجم الأدباء ومعجم الشعراء، ومعجم البلدان ومعجم ألفاظ القرآن ومعجم ألفاظ الحديث وغيرها.
تاريخ استخدام اللفظ وشيوعه:
ألحق أننا لا ندري على وجه اليقين متى استخدم لفظ المعجم في عناوين الكتب، ومن ذا الذي استخدمه وفي أي مؤلف من مؤلفاته لضياع كثير من مؤلفات علمائنا الأقدمين[12]. ولقد قيل أن الإمام البخاري (أبو عبد الله محمد بن إسماعيل المولولد 194هـ) كان أول من أطلقه على واحد من مؤلفاته المرتبة على الحروف[13].
وعد من أوائل مستخدميه ألبغوي أبو القاسم عبد الله بن محمد المولود 214هـ) في كتابه (معجم الحديث) والمعجم الكبير والصغير والأوسط في قراءات القرآن[14].
وفي القرن الرابع الهجري كثر إطلاقه على كثير من المؤلفات في القراءات والحديث والتراجم. ويبدو أن اللفظ انتقل من هذه الكتب إلى كتب اللغة لما بينها من مشابهة في الجمع والاستقصاء والترتيب وإلا فإن أصحاب المعاجم اللغوية كانوا قد سموا معاجمهم بأسماء مختلفة كالعين، والجيم، والجمهرة، والصحاح، والتهذيب، والمقاييس، واللسان، والتاج، وغيرها.
جمع اللفظ والخلاف فيه:
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد