المستشرقون والإعراب
أولاً: المستشرقون الذين لا يرون الإعراب
مر بنا أن من المستشرقين من كان يرى الإعراب، وأن منهم فريقاً لا يرونه، بل جعلوا من رأي قطرب ذريعةً للنيل من العربيةº إذ الإعراب أهم خصائصها.
ومن هؤلاء المستشرقين:
1- كارل فوللرز: وذلك في كتابه: (اللغة الشعبية واللغة الأدبية في الجزيرة العربية القديمة).
وهذا الرجل من أكثر الحاقدين على العربية.
وخلاصة رأيه يتمثل فيما يلي:
أ- يرى أن فكرة النحو كانت مصنوعة، وأنه ليس موجوداً في العربية الجاهلية، وإنما صيغت بعد ذلك.
ب- يرى أن النص الأصلي القرآني قد كتب بإحدى اللهجات الشعبية السائدة في الحجاز.
ج- يرى أنه لا يوجد في اللهجات السائدة ما يسمى بالإعراب.
د- ينكر على الإطلاق أن تكون هذه اللغة حية في مكة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -.
هـ- يشك في أن يكون الذين خرج من بينهم الشعراء كانوا يتكلمون هذه اللغة.
2- كوهين: وهو مستشرق فرنسي، وهو صاحب كتاب (لغات العالم).
هذا الرجل لما درس العربية وجد أن الشعر العربي لا يمكن أن يقوم إلا على قواعد إعرابية، فخرج من ذلك بنتيجة يقول فيها:
\"إن قواعد الشعر تقوم على الإعراب، ولابد من ذلك.
أما النثر فمن الصعوبة بمكان تطبيق القواعد فيه\".
فهو يتصور بأن النحو صعب، ويشبهه بحالنا الآنº فعندما يلقي أحدنا كلمة أو خطاباً يحرص على تطبيق القواعد فيه.
وعندما يعود إلى البيت، أو يغشى المجالس العامة فإنه يعود إلى العامية.
3- باول كاله: حيث عقد في كتابه (الذخائر القاهرية) فصلاً عنوانه: (نص القرآن العربي).
يقول فيه: \"جمع نص القرآن بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بمدة وجيزة في عام 632م، وأخذ شكله النهائي في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان 644-655، وهنا قامت مشكلة كيف يقرأ هذا النص ويرتل؟
فقد ولد محمد - صلى الله عليه وسلم - بمكة، وانحدر - كمعظم مواطنيه - من القبيلة العربية (قريش).
وكانت اللغة العربية التي يتكلمها هي لغة المواطن المثقف في مكة.
والنص القرآني الخالي من الضبط بالشكل يعكس بوضوح اللغة العربية التي كانت تُتكلم في مكة، غير أن العرب كانوا قد تعودوا أن يعدوا اللغة البدوية نموذجاً للنطق الصحيح، فبهذه اللغة نظم الشعر العربي الجاهلي، وكان كل عربي مزهواً بذلك.
وإذا كانت كلمة الله لا يصح أن ترتل بلغة أقل مستوى من أية لغة أخرى - فقد بدأت العواصم الإسلامية في ذلك العصر المبكر - في الكوفة، والبصرة، والمدينة، ومكة - دراسة نشيطة للشعر البدوي، فكان الرجال المهتمون بهذا النمط في اللغة العربية يذهبون إلى جيرانهم من البدو، ويجمعون ما أمكنهم من أشعارهم، وما يتصل بها من الحكايات، وهي في الغالب أخبار عن الحروب الصغيرة التي جمعت تحت عنوان: (أيام العرب).
وقد اتٌّخذت المادة التي جُمعت بهذه الطريقة أساساً للعربية النموذجية التي ابتدعها النحويون، ثم حذيت لغة القرآن على نمطها، ومع ذلك لم تتغير كتابة المصحف، بل ابتدعت طريقة تضاف فيها علامات مختلفة إلى النصº لضمان صحة القراءة\".
ثم يقول باول كاله: \"ولم تذكر كتب القراءات بوجه عام شيئاً عن النشاط المبكر للقراء، فقد ضاعت أو أهملت تلك الكتب التي ذكرت شيئاً عن هذا النشاط فيما عدا خبراً عثرت عليه مؤخراً، ويمكن أن نرى من خلاله ذلك التطور\".
يقول د. رمضان عبد التواب معلقاً على ذلك: \"ويظن باول كاله أنه عثر على بغيته في اقتباس عن الفراء وَجَدَهُ في مجموعة مخطوطة بمكتبة (تشستربتي) chester Beatty رقم 705 وفيه: \"قال الفراء: وقد رأينا أهل القراءة الذين يعرفون الكتاب والسنة من أهل الفصاحة اجتمعوا على أنه نزل بأفصح اللغات، فاعترض في ذلك أقوام ممن ينظر في الأشعار وأيام العرب، فقالوا: إنما فضل القرآن من فضلهº لما أوجب الله من تعظيم القرآن، فإذا صرنا إلى الفصاحة وجدناها في أهل البوادي.
واختلفوا في ذلكº فقال أهل الكوفة: الفصاحة في أسدº لقربهم جوارهم منهم.
وقال أهل البصرة: الفصاحة في عَليا تميم وسُفلى قيس من عكل وعقيل.
وقال أهل المدينة: الفصاحة في غطفانº لأنهم جيرانهم.
وقال أهل مكة: الفصاحة في كنانة بن سعد بن بكر وثقيف.
فأحببنا أن نردهم بالآثار والقياس والاعتبار إلى تفضيل لغة قريش على سائر اللغات...
قال: وسمع عمر بن الخطاب رجلاً يقرأ: عتى حين، يريد: حتى حين، فقال: من أقرأك هذا؟ قال: عبد الله بن مسعود.
قال: فكتب إلى عبد الله: إن القرآن نزل بلغة قريش، ولم ينزل بلغة هذيل فأقرئه الناس بلغة قريش، ولاتقرئنهم بلغة هذيل.
وقال أبو بكر الصديق – رضي الله عنه- : إن إعراب القرآن لأحب إلي من حفظ بعض حروفه.
وقال ابن مسعود: جودوا القرآن وزينوه بأحسن الأصوات، وأعربوهº فإنه عربي، والله يحب أن يُعرَب\".
وقد علق (كاله) على كلمة: (إعراب) في نص أبي بكر الصديق، بقوله: \"الإعراب يعني الحركات في أواخر الكلمات العربية طبقاً لقواعد العربية الفصحى\".
وقد استنتج (كاله) من ذلك أن \"الإلحاح على طلب قراءة القرآن بالإعراب لا يبدو معقولاً إلا إذا كان يقرأ في الواقع بدن إعراب، وأريد له أن يقرأ بالإعراب الذي عُدَّ في وقت متأخر من مظاهر القُحَّة اللغوية).
وهو مخطئ في استنتاجه ذلكº لأن الإعراب بمعناه الاصطلاحي لم يكن معروفاً في أيام أبي بكر وابن مسعود.
ومعنى كلمة (إعراب القرآن) في هذه الأحاديث - إن لم تكن مزيفة - هو الوضوح والبيان في قراءة القران الكريم\".
ثانياً: المستشرقون الذين يرون الإعراب
إذا كان المستشرقون: كاله، وفوللرز، وكوهين يرون هذا الرأي الغريب في العربية الفصحى والإعراب - فإن كثيراً من المستشرقين قد دافعوا عن أصالة الإعراب في العربية، وفندوا الأقاويل التي ترى خلاف ذلك.
ومن أبرز هؤلاء اثنان هما:
1- المستشرق نولدكه: وهو من المستشرقين الذين درسوا اللغات السامية، وفيه جانب من الإنصاف، وله مقالة بعنوان: (ملاحظات على لغة العرب القدامى).
يقول د. رمضان عبدالتواب بعد أن ساق رأيي فوللرز، وكاله: \"وإذا كان هذان المستشرقان: فوللرز و كاله يريان هذا الرأي الغريب في العربية الفصحى والإعراب - فإن كثيراً من المستشرقين قد دافعوا عن أصالة الإعراب في العربية، مثل نولدكه الذي يرى في مقالة له بعنوان: (ملاحظات على لغة العرب القدامى): \"أنه من غير المعقول أن يكون محمد - صلى الله عليه وسلم - قد استخدم في القرآن لغة تخالف كل المخالفة تلك اللغة التي كانت شائعة في مكة آنذاك، وأن يكون قد اعتنى بالإعراب هذه العناية وقومه لا يستخدمون هذا الإعراب في كلامهم\".
كما يرى نولدكه: \"أن شعر ذلك العصر كان يمثل لغة البدو التي كانوا يتحدثون بها في ذلك الوقت، والتي ظلوا يتحدثون بها زمناً طويلاً بعد ذلك.
ولا يغير من هذه القضية سيئاً أن لغة الشعر بها بعض الاختلاف عن لغة الحياة العامة، وأن الشاعر ما كان يضطره وزن الشعر وأسلوبه إلى الإتيان بتعبيرات خارجة عن المألوف، وغير ذلك من الأمور التي لاحظها كذلك قدامى اللغويين العرب، وسجلوها بدقة\".
ويستطرد نولدكه في مقاله هذا إلى أن \"فنسشتاين كان يرى هو الآخر أن لغة الشعر مصنوعة تماماً فقد درس العربية الحديثة، وتأثر بها إلى درجة أنه أصبح يرى أن القواعد التي نطالب بها من يريد التحدث بالعربية الفصحى عديمة الجدوى.
ولم يذهب فوللرز إلى هذا الحد من التفكير بالنسبة للعربية، ولكنه كان يرى أن اللغويين العرب قد جمعوا عناصر الإعراب بمهارة فائقة وأكملوه\".
ويرى نولدكه كذلك أنه \"من الخطأ الشنيع الاعتقاد بأن اللغة الحية في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن فيها إعرابº فإن العلماء في عصر هارون الرشيد قد وجدوا الإعراب بكل دقائقه لدى البدو.
ولكن ظاهرة الوقف الشائعة كثيراً في الحديث اليومي قد عودت الأذن على سماع الصيغة الخالية من الإعرابº فاستطاع أحد الشعراء استخدمها عند اتصال الكلام كذلك، وعلى الأخص في صيغة المضارع التي لا تتلاءم كثيراً من وزن الشعر\".
كما يرى نولدكه في الفصل الذي كتبه عن (لغة القرآن) في كتابه: (مقالات جديدة في علم اللغات السامية) أنه \"لو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أحد معاصريه من المؤمنين قد نطق بالقرآن دون إعراب لكان من غير الممكن أن تضيع الروايات الخاصة بذلك، دون أن يبقى لنا آثار منه\".
وأخيراً يرى نولدكه كذلك أن \"لهجةً شديدة الانحراف عن عربية النحاة، لا يناسبها مطلقاً بحور الشعر المعروفة\".
2- المستشرق يوهان فك: حيث قال في كتاب له اسمه (العربية) ونقله عنه د. رمضان عبد التواب: \"لقد احتفظت العربية الفصحى في ظاهرة التصرف الإعرابي بِسِمَةٍ, من أقدم السمات اللغوية التي فقدتها جميع اللغات السامية - باستثناء البابلية القديمة - قبل عصر نموها وازدهارها الأدبي.
وقد احتدم النزاع حول غاية بقاء هذا التصرف الإعرابي في لغة التخاطب الحي، فأشعار عرب البادية - من قبل العهد الإسلامي ومن بعده - ترينا علامات الإعراب مطردة كاملة السطان كما أن الحقيقة الثابتة من أن النحويين واللغويين الإسلاميين كانوا - حتى القرن الرابع الهجري والعاشر الميلادي على الأقل - يختلفون إلى عرب الباديةº ليدرسوا لغتهم - تدل على أن التصرف الإعرابي كان بالغاً أشده لذلك العهد، بل لا نزال حتى اليوم نجد في بعض البقايا الجامدة من لهجات العرب البداة ظواهر الإعراب\".
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد