تمهيد:
مر الحديث عن هذه المدرسة التي تسمى مدرسة القافية، أو نظام القافية.
والحديث عنها ههنا سيكون فيما يلي:
أولاً: التعريف: هو جعل الحرفِ الأخير باباً، والأولِ فصلاً على حسب حروف الهجاء.
ثانياً: عدد الأبواب: أبوابها ثمانية وعشرون، وكل باب ثمانية وعشرون فصلاً.
ثالثاً: سبب التسمية: هو نظر الواضعين لها إلى الحرف الأخير في ترتيب الفصول من كل باب.
رابعاً: سبب التأليف على هذا النحو: صعوبة البحث في المعاجم التي اتبعت نظام التقليبات بنوعيها الصوتية والأبجديةº فأراد أصحاب مدرسة القافية تيسير البحث عن الكلمات.
خامساً: ما سبب نظرهم إلى الحرف الأخير؟: هو أن رأوا أن لام الكلمة - وهو الحرف الأخير - أقل تعرضاً للتغييرات من فاء الكلمة وعينها.
وربما يكون هذا هو التفسير الصحيح لاتباع هذا النظام.
سادساً: أول من أنشأ هذه الطريقة: لعل أول من فكر في وضع معجم شامل بهذه الطريقة هو الجوهري - رحمه الله - في معجمه الصحاح.
وإذا كان بعض الباحثين يذهب إلى أنه قد سُبِق في هذا النظام بعالمين من علماء اللغة هما أبو بشر البندنيجي ت284هـ في كتابه اللغوي (التقفية) وأبو إبراهيم إسحاق الفارابي خال الجوهري ت350هـ في كتابه (ديوان الأدب) وذلك حين اتبعا نظام القافية فنظرا إلى الحرف الأخير في ترتيب المواد اللغويةº فإن البندنيجي قد أهمل جزءاً هاماً من أسس هذه المدرسة وهو النظر إلى الحرفين: الأول والثاني، ونظر فقط إلى الحرف الأخير، كما أن كتاب التفيقه هذا وكتاب ديوان الأدب لا يعدان من المعاجم اللغوية الشاملة بالمعنى الدقيقº فقد اقتصرا على مواد قليلة جداً بالنظر إلى المعاجم اللغوية الأخرى.
ولذلك يمكننا القول بأن معجم الصحاح للجوهري يعد أول معجم شامل اتبع نظام القافية هذا، وإن لم يكن من المستبعد أن الجوهري قد تأثرا بهما في ترتيب المواد.
سابعاً: أشهر المعاجم التي اتبعت نظام القافية: اتبع الجوهريَّ في هذا النظام كثيرٌ من أصحاب المعاجم، من أهمهم الصَّغاني ت650هـ في معجمه (العباب) وابن منظور ت711 في معجمه (لسان العرب) والفيروزأبادي ت816هـ في معجمه (القاموس)، والزبيدي ت1205هـ في معجمه (تاج العروس).
وفيما يلي دراسة لبعض تلك المعاجم.
المعجم الأول: تاج اللغة وصحاح العربية وهو المعروف بـ: (الصحاح)
أولاً: صاحبه: هو أبو نصر إسماعيل بن نصر بن حماد الجوهري الفارابي المعروف بـ: الجوهري.
وأصله من فاراب إحدى بلاد الترك.
ولد سنة 332هـ وتوفي سنة 398هـ على الأشهر.
وكان الجوهري إماماً في اللغة والأدب في عصره، وكلام الرواة عنه يدل على ما كان يتمتع به هذا العالم اللغوي من علم وذكاء وفطنة.
يقول عنه ياقوت: \"إنه من أعاجيب الزمان ذكاءً وفطنة وعلم\".
وقد تلقى الجوهري علومه على كثير من علماء اللغة، ومنهم خاله إبراهيم الفارابي ت350هـ، وأبو سعيد السيرافي ت368هـ، وأبو علي الفارسي ت377هـ.
وقد رحل إلى الحجازº رغبة في التزود من العلم، وشافَهَ خُلَّص العرب، وطوَّف ببعض القبائل العربية كـ: ربيعة ومضر.
وعاد بعد ذلك إلى خراسان، ويقال: إنه عاد إلى نيسابور، وعكف فيها على التدريس والتأليف.
وقد تتلمذ على يديه كثير من أعلام اللغة كأبي الحسين بن علي، وأبي إسحاق إبراهيم بن صالح الوراق وغيرهما.
ويذكر الرواة أنه كان شاعراً يميل في شعره إلى الحكمة، ويذكرون من ذلك قوله:
لو كان لي بدُّ من الناس *** قطعت حبل الناس بالياس
العزٌّ بالعزلة لكنه *** لا بد للناس من الناس
وقوله:
زعم المدامةَ شاربوها أنها *** تنفي الهموم وتذهب الغما
صدقوا سرت بعقولهم فتوهموا *** أن السرور بها لهم تمَّا
وللجوهري مؤلفات كتب غير الصحاح، ومنها (عروض الورقة) في علم العروض، وكتاب (المقدمة) في النحو.
أما كتاب الصحاح فقد نال شهرة عظيمة ومكانة سامية بين علماء اللغة، وفيه يقول أبو محمد إسماعيل بن عبدوس النيسابوري:
هذا كتاب الصحاح سيد ما *** صنف قبل الصحاح في الأدب
تشمل أبوابه وتجمع ما *** فُرِّق في غيره من الكتب
ثانياً: اسم المعجم: الاسم الموضوع لمعجم الجوهري هو (تاج اللغة وصحاح العربية).
ولكنه اشتهر بعد ذلك - اختصاراً - بالصحاح.
ولكلمة الصحاح ضبطان أحدهما بكسر الصاد، والآخر بفتحها: صَِحاح، وكل منهما صحيح، والكسر أشهر.
\"قال أبو زكريا الخطيب التبريزي اللغوي: يقال كتاب الصِّحاح بالكسر وهو المشهور، وهو جمع صحيح كظريف وظراف، ويقال: الصَّحاح بالفتح، وهو مفرد نعت كصحيح.
وقد جاء فَعال بفتح الفاء لغةً في فعيل كصحيح وصَحاح، وشحيح وشَحاح، وبريء وبَراء\".
وقد طبع هذا الكتاب عدة طبعات، منها طبعة الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار، وآخرها الطبعة التي حققها د. إميل يعقوب، ود. محمد نبيل طريفي، من منشورات محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية بيروت، وهي طبعة جيدة، وتقع في سبع مجلدات.
ثالثاً: هدف الجوهري: ألف الجوهري معجمه الصحاح قاصداً أمرين أساسين:
أحدهما: تيسير البحث عن ألفاظ اللغة ومعانيها.
الآخر: التزام الصحيح منها.
رابعاً: منهجه: يمكن توضيح منهجه في الأمور التالية:
1- اتبع نظام القافيةº فجعل الحرف الأخير باباً، والأول فصلاً، كما ترك نظام التقليبات، واتبع نظام الأبجدية العادية: (أ ب ت ث ج ح...إلخ)
2- قسم كل باب إلى فصول حسب أوائل الكلمات، فمثلاً باب الهمزة يبدؤه بفصل الهمزة ثم بما يليه من حروف حتى ينتهي إلى الياء، ثم ينتقل إلى باب الباء فيبدؤه بفصل الهمزة ثم بما يليه وهكذا...
وليس ضرورياً أن يكون لكل باب ثمانية وعشرون فصلاً، ولكن ذلك مرتبط بوجود الألفاظ المستعملة أو عدم وجودهاº ولذلك فإن بعض الأبواب اكتمل فيها هذا العدد من الفصول، كما أن بعضها لم يكتمل.
وقد رتب كل فصل بحسب ما يليه من الحروف، أي أنه راعى الحروف المتوسطة بين الحرف الأخير الذي جعله باباً، وبين الأول الذي جعله فصلاً، فنظر إلى الثاني إذا كانت الكلمة الثلاثية، وإلى الثاني والثالث إذا كانت رباعية، وإلى الثاني والثالث والرابع إذا كانت خماسية.
3- اقتصر على جمع الألفاظ الصحيحة.
4- عني بالضبط عناية دقيقةº خوفاً من التحريف والتصحيف.
5- وضع قواعد خاصة في ضبط الأسماء والأفعال.
6- أكثر من القواعد النحوية والصرفية مشيراً إلى الشاذ منها.
7- أشار إلى اللغات المختلفة في اللفظ الواحد.
8-اعتنى بالتنبيه على المعرَّب من الألفاظ.
9-أرجع المواد إلى أصولها، وذلك بتجريدها من الزوائد، وردِّ المقلوب إلى أصله، وإذا كانت جمعاً أرجع إلى المفرد، وهكذا - كما هو صنيع جميع المعاجم -.
فمثلاً كلمة (كتب) يبحث عنها في باب الباء فصل الكاف وهي متأخرة في الترتيب عن كأب، وكب، متقدمة على كثب، وكذب، وكرب، وبقيةِ مواد الفصل، وهكذا مع ملاحظة أن الجوهري قدم الواو على الهاء في ترتيبه.
أما الكلمات الزائدة على ثلاثة أحرف فيبحث عنها في نفس أبواب الثلاثي بملاحظة الحرف الثاني وما يليه، فالكلمة (كعثب) يبحث عنها في (كعب) وهكذا...
خامساً: مميزات الصحاح: لعل بعض تلك المميزات تبين من خلال الحديث عن منهجه، ويمكن إجمالها بما يلي:
1- اتباع طريقة القافية، وهي جديدة مبتكرة يسيرة.
2- أن طريقته في شرح الألفاظ تفيد الباحث في بعض النظريات المتصلة بفقه اللغة مثل نظرية دوران المادة حول معنى معينº حيث يبيِّن في كثير من الأحيان سبب دلالة اللفظ على معنى معين يرجع إليه الكثير من الألفاظ.
وكذلك المشترك، والمتضاد وغيرهما يمكن استخراجه بيسر من معجم الصحاح، بسبب طريقته في شرح الألفاظ، وتنبيهه على ذلك أحياناً.
3- اعتماده على المصادر الموثوق بها، إما مشافهة، أو من طريق المؤلفات.
4- استشهاده بالقرآن، والحديث، وما روي من فصيح كلام العرب شعراً ونثراً.
5- نسبة الأقوال إلى أصحابها في كثير من الأحيان.
6- احتواؤه على كثير من القواعد النحوية والصرفية.
7- اهتمامه بأسماء القبائل، والأعلام العربية.
والأمثلة على ما ذكر من المميزات كثيرة، ومن ذلك ما بينه في مادة (صحب) و(غلب) وغيرهما.
سادساً: المآخذ على الصحاح: ذكر بعض الباحثين كثيراً من المآخذ على الصحاح، ولكنها - في الوقع - تعد هنات صغيرة بالنظر إلى ما في هذا المعجم من ميزات كثيرة.
ثم إن تلك المآخذ لم تؤيد إلا بأمثلة قليلة ونادرةº بل ربما لا نجد إلا مثالاً واحداً ذكروه أحياناً لبعض المآخذ.
ومما ذكروه من ذلك ما يلي:
1- نسبة الأقوال إلى غير أصحابها.
2-غلطه في ترتيب المواد.
3-اشتماله على أخطاء نحوية وصرفية.
4-قلة الدقة في نقل أقوال العلماء.
5-اضطرابه في نسبة الأحاديث النبوية إلى رواتها.
6-خلطه بين أجزاء الأبيات من الشعر.
7-خطؤه في شرح معاني المفردات.
وهذه مآخذ قليلة وليست بمطردة، وإنما المآخذ التي ينبغي الوقوف عندها مأخذان:
1- الاقتصار على الصحيح من الألفاظ مما سبب إهمال بعض المواد الصحيحة.
وقد نبه إلى ذلك الفيروزأبادي في مقدمة معجمه القاموس.
2- التصحيف الذي رواه عن كثير من العلماء.
وقد أفرد السيوطي في المزهرباباً سماه (ذكر ما أخذ على صاحب الصحاح من التصحيف).
وذكر ممن أخذ على الجوهري ذلك: الأزهريٌّ، والتبريزيٌّ، وأبو سهل الهروي، وابن بري، والفيروزأبادي، وذكر أمثلة على ذلك.
ومع ذلك فلا يسلَّم لكل واحد من هؤلاء في مآخذهº لأن الغلط قد يكون منهم لا من الجوهري.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد