جلست بجانب النافذة أستنشق الهواء العليل وأراقب القمر كعادتي كلما أحسست بالضيق..
تذكرت ما حدث اليوم..لم يكن يوماً عادياً.. قابلتُ صديقةً لي كانت في رحلةٍ, إلى وطني الذي حرمت رؤيته أو السفر إليه.
- أجمل ما عندكم الطيبة الساحرة.. حتى إنني قلت لأمي لكأنها قطعة من الجنة.
أجبتها بابتسامةٍ, غلّفها حزنٌ دفين: قالوا قديماً عن عاصمتنا أنها جنة الله في الأرض
- هيَ كذلك بالفعل... فالجوّ لطيف و الهواء نقي و الخضرةُ تكسو المكان كلّه، بمنظرٍ, و لا أروع، حتى صحراؤكم أجمل من صحرائنا!
ضَحِكتُ قائلةً: مـاذا أعجبكِ أيضاً؟
- كل شي لم أزر مكاناً لم يعجبني.. وأيضاً الساحل كان غاية في الروعة.. زرته من قبل أليس كذلك؟
فاجأتني بسؤالها، فأجبتها بتلعثم: بالتأكيد... في كل زيارةٍ, لنا، لا بُدّ أن يأخذنا أبي لقضاء أسبوع على الساحل.
استمر الحوار مدة لا بأس بها كانت خلالها تسألني عن المناطق والآثار وكنت أجيبها كالذي يعيش بوطنه ثم أخرجت لي مجموعة من الصور لتريني إياها وقعت عيني على صورة لمدينتي لم أتمالك دمعي عندها، معللةً ذلك بشوقي إلى أرض الوطن.
انطلقتُ بعدها إلى المنزل و الدمُ يغلي في عروقي، لتستقبلني أمي بابتسامتها المعهودة.
أهلاً ببنيتي...
- غصّت الحروف بداخلي و اغرورقت عيناي بالدموع...
أسرعت أمّي إليّ بلهفةٍ, تحتضني
مـا بكِ يا صغيرتي؟! ما الذي جرى؟! أخبريني!
فانفجرت باكيةً: هل زرت الساحل؟ نعم هل ذهبت للقلعة؟ نعم هل زرت المنطقة الفلانية؟ نعم نعم نعم كل شيء نعم إلى متى سنظل ننطق بنعم دون أن نتجرأ على قول الحقيقة
أنا لم أزر بلدي.. أنا لا أعرف بلدي.. طُرِدتِ و أبي من أرضنا، ليُحكم عليَّ أن أرى النور في أرضٍ, غريبةٍ, عنّي.. لم أعرف معناً للوطن.. لا أعرف وطني إلا من خلال قصص وصور ومقالات ألهث ورائها هنا وهناك.. لم أعرف سوى التشريد و الإبعاد و الظلم و الاضطهاد... كل سنة في دولة... شبح الطردِ يُلاحقنا... ترحالٌ و سفر دائمين... لم أعرف لذة الأمنِ يوماً... الغرباء يزورون وطني!!! و أنا ابنته!... أُحرم منه!... أُطرد منه!
عبثاً حاولت أمي أن تهدّأ ثورتي... لكن دَفقَ الأشجان التي تراكمت على مرّ السنين أبى أن يتوقف
حتى أكثر الشعوب اضطهاداً في حالة أحسن من التي نعيشها نحن.. على الأقل هم يُعلنون قضيتهم يجهرون بها يدافعون عنها.. كل العالم يعرف وجعهم.. وستنتهي قضاياهم ويعودون لأوطانهم أما نحن فنبقى على حالنا........ ولا يعرف أحد مأساتنا.. مشردون من مكان لآخر.. لا وطن يؤوي ولا مكان نستقر فيه.. نموت ونعيش في غربة لا يعلم بها إلا الله.. ماذا جنينا حتى نطرد؟! ماذا فعلنا حتى نشرد؟! ألأننا دافعنا عن ديننا؟! ألأننا نصرنا قرأننا؟! نُحاربُ هكذا! إلى منى سنبقى عاجزين حتى عن البوح بما فعلنا.. لم استطع الإكمال انخرطت بموجة بكاء عارمة.. كانت أمي تذرف دموعها بصمت..
و أسرعتُ إلى نافذتي، لألقي وجعي بين أحضان النجوم و شفاه القمر، مبحرةً في ليل انتظارٍ, طويل... علّ فجراً سعيداً يَبزُغُ من بعيد...
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد