تداعيات موقف:
نزلنا من القطار في «سدني»، واجتزنا حواجز عديدة، ثم سرنا في الطريق الطويل المؤدي إلى شاطئ البحر، لتقلنا سفينة إلى الغابة الشاسعة التي تضم في أرجائها أنواعاً شتى من الحيوان، بين الصخور، وفي الكهوف، والطرقات الملتوية في صعود إلى التلال، وهبوط نحو الأودية.
كانت الأشجار تزين جانبي الطريق، والطبيعة تنثر من أزهارها، وأريجها، وجمالها في كل ركن، والناس يتجهون نحو المرفأ في ازدحام شديد، ليزيلوا ما علق بهم من إرهاق العمل، في أحضان الغابات.
كنت في سعادة غامرة مع بعض أفراد أسرتي، وفي نفسي شره للاستمتاع بجمال المناظر الرائعة في «أستراليا» قبل أن أعود إلى وطني، فلفت بصري وسمعي الفرقة الموسيقية تسير ببطء، وتذرف أنغاماً حزينة في الأجواء، فتلقي ظلالاً من الوجوم والكآبة على الوجوه في صمت ثقيل فلا يسمع إلا وقع الخطى، على رغم بواعث البهجة والسرور.
الجرح العميق:
إنه اليوم السابع عشر من سبتمبر، والجرح العميق لم يزل ينزف منذ اليوم الحادي عشر من الشهر نفسه، لاحظت العيون ترمقنا بشذر، والجوانح تنطوي على غيظ يكاد يقفز من الصدور كالأسنة والسهام، وتود لو تلقي بنا في عرض البحر.
والحق أننا لم نحافظ على وصية جاليتنا العربية المسلمة في عدم الظهور في هذه الأيام العصيبة، فقد يسبب لنا ذلك التعرض للأذى من قبل الأستراليين الحاقدين على المسلمين الذين لا يزالون في قفص الاتهام، فخروجنا، والسير بجانبهم يشعرهم بالتحدي لهم، والشماتة بهم، لم نفكر سوى بالتنزه، ولملمة أحلى الذكريات والصور من «سدني» الجميلة.
تغافلنا عما تتعرض له المساجد من حرق وتحطيم، استدعى أهل الغيرة والمروءة من الشباب المسلم كي يبيتوا فيها لصد أي اعتداء عليها، ولا ما يتعرض له طلاب الجالية من رشق بالحجارة، وشتائم وهم في الحافلات التي تقلهم إلى المدارس، حتى الأستراليون الذين اعتنقوا الإسلام هم وأبناؤهم لم يسلموا من الأذى والإهانة بأساليب متنوعة، كما بدا ذلك في إهمالهم، وعدم التعامل معهم في المحلات التجارية، وفي مقر أعمالهم، ورميهم بالألفاظ المشينة الجارحة، والسخرية والاستهزاء بهم، وبخاصة المتحجبات من النساء.
تمثال الحرية:
استرعى انتباهي ونحن نشق الجموع «تمثال الحرية» القابع فوق قاعدة رخامية مرتفعة، يمثل امرأة تحمل في كف يدها الممتدة في الهواء مشعل الحرية، وفي الأسفل منه صندوق لجمع التبرعات. وقفت حياله لحظات أتأمل بإعجاب دقة النحت والتصوير، والفن الرائع البديع الذي يماثل الواقع، ولكن سرعان ما تملكتني الدهشة حين أعرض التمثال بوجهه عني واستدار نصف استدارة، صوبت بصري إلى القاعدة، فلم أجد ما يدل على شيء يحركه، استدرت مع استدارته، وكررت النظر والتدقيق، فوجئت بالعينين ترمشان، وقتئذ تأكدت بأنني أمام امرأة حقيقية، مموهة بلون الرخام من قمة رأسها إلى أخمص قدميها، وتخايل في عينيها شحنة من الكرة ممزوجة بالأسى..قارنت بين تطلعاتها وتطلعات الناس، فوجدتها تنبع من إحساس واحد، هو الألم النفسي المكتوم، والرغبة الملحة في الانتقام منا، مما أصاب البرجين الشاهقين في «نيويورك».
أخطأنا في الخروج:
بالفعل كانت مغامرة منا، إذ أخطأنا في الخروج في هذا الظرف القاهر، كان علينا أن نتريث، ونداري مشاعرهم كي لا يفسروا الأمر بما يحلو لهم ونحن بين ظهرانيهم.
لملمت أشتات نفسي لاستهانتي بالنصح المقدم إلينا من إخواننا، إذ كان علينا الاعتكاف والمداراة ما دمنا في ديارهم «فدارهم مادمت في دارهم».
نظرت إلى وجه المرأة «التمثال» بتأسف واعتذار عما حصل، ثم ألقيت في صندوق التبرعات ما تيسر، وشجعت أفراد أسرتي على مثل ذلك، ولأن نظراتها القاسية كانت أشد وقعاً على نفسي من الصفع، ودعتها بقبلة صامتة فيها لطف ومحبة، فبادلتني الشعور بمثله بصمت، ورأيت شفتيها تهمسان بكلمتين موجزتين لم يسمعها غيري تشكرني بالإنجليزية والعربية معاً.
لم أستطع أن أخفي دمعتين تدحرجتا على رغم مني، لوحت لها مودعة، بادلتني برموشها وصفاء عينيها الوداع، ثم تابعت المسير، وبعد فترة التفت، فإذا بها لم تزل في وقفتها بجمود التمثال الرخامي.
ماجت في صدري تداعيات متناقضة، وتساؤلات محيرة حول علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، فالبشرية من أب واحد وأم واحدة «آدم وحواء»، أليس من الخير التعايش بسلام ووئام؟! أم أن إبليس قد نجح في تكوين حزبه حزب الشيطان ليغوينا بالعداوة والانتقام، ونتوارث الشحناء والبغضاء منذ بدء الخليقة.
قفزت إلى ذهني الآية الكريمة: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم... » الحجرات/13.
فديننا يدعو إلى الالتفاف حول الإله الواحد، وإلى السلام، وتبادل العلوم والمعارف الإنسانية، مع التشديد على عقيدة التوحيد، والتعامل بالقيم والفضائل الإسلامية بالتقوى.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد