الحياة بعد الموت!


بسم الله الرحمن الرحيم

 

يقال أحياناً عن أديب ما (إنه مات حين مات) بينما يقال عن أديب آخر: (أنه عاش حين مات) والفرق كما نري شاسع وكبير بين الاثنين.

والمسألة لا تقف عند الأدباء وحدهم، بل تمتد إلي المطرب والملحن والشاعر والنحات والموسيقار والمخرج والممثل وحتى عازف العود أو الكمان، وغيرهم من المبدعين في السينما والمسرح والصحافة والرياضة أيضاً.

وبرغم وضوح المعني، دعونا نسأل: كم شاعر (خبص) الدنيا بإعلاناته عن نفسه، كم اشتري وكم باع من لغط ومساومات وقصائد وحوارات وشتائم ابان حياته، لكنه ما إن مضي إلي القبر حتي أغفله الناس وضاع فوراً من ذاكرة الصحافة ومن ذكريات أقرب المقربين إليه؟ وكم من مطرب هاج وماج علي شاشات الدنيا، كم ارتدي من ثياب مبهرجة ومزركشة، وكم استخدم من دهونات الماكياج وكم (قَلب) نفسه وانقلب عليها فوق المسارح والحانات والملاهي، لكنه ما إن حلّت ساعة موته حتى راح غير مأسوف عليه وانزوي في جزء مهمل من أشرطة الإذاعة والتلفزيون وما عاد من أحد يذكره أو يطلبه ولا مرة واحدة في (ما يطلبه المستمعون!).

صحراء غبراء، أو غابة مثمرة، عقارب مسموعة، أو نبع ماء تلك هي النفوس، يابسة لا حياة فيها، أو شلال عسل يأتي من السماء، والحياة واحدة لن تتكرر، وما عليك غير أن تختار ما بين الخير أو الشر، سعة الروح وخيرات الضمير أو ضيق النفس وسيئات اليدين.

أعرف كاتباً لم يعثر علي شيء يتباهي به، فاستأجر حياة أقرانه ونام فيها، سرق أثاث أفكارهم وخزائن تجاربهم وعاث فيها لهواً وفساداً وراح ينشرها علي أنها حياته وأفكاره وتجاربه.

ولقتربت يوماً من حياة شاعر عاش أجمل سنوات عمره فيما يسميه بالغربة التي فرضوها عليه، كان يسرح ويمرح بين البارات والنساء والسرقات الشعرية من دون أن يحاسبه النقد أو يقتر ب من أكذوبته النقاد، فقد استفاد من مطاحنات الأحزاب وعاش في بحبوحة من النقد المغفل، لكنه بعد موته لم يذكر إلا سهواً!

وعندما نقول عن شاعر (أنه مات يوم موته) فهذا يعني انه انتهي من ذاكرة القراء ولم يعد من أحد يأتي علي ذكراه وأن ما فعله طوال حياته مع الشعر لم يكن بمستوي هذا الفن الرفيع لكن العلاقات العامة (البروبغندا) هي التي أعطته شيئاً من الحضور واللمعان أيام كان حياً، فهناك شاعر موظف لدي السلطة وهناك شاعر موظف لدي الحزب، وهناك شاعر لا يشعر إلا بمصالحه الشخصية، وهناك شاعر مختص بالمنابر والمهرجانات وثمة شاعر مستأجر من حاكمه وأسياده، وهناك شاعر يلعب الثلاث ورقات وله دور فاعل في السمسرة وإشعال الليالي الحمراء، لكن هؤلاء جميعاً لا خلود لهم أبداً، إنما تنتهي ذكراهم يوم وفاتهم، بينما يبقي الشاعر الحقيقي مئات السنين في وجدان القراء وفي وجدان الأرض معاً.

النماذج كثيرة، بعضها ينعش الذاكرة وبعضها يتدفق من تحت المجاري مثل البكتريا، والأديب الذي يعمل في خدمة الأخطاء مخطئ في حق نفسه وحقوق مواطنيه، انه نفسه الملاكم الذي يضرب قرينه في المرآة، ولن يكون له من مجد في حياته غير كسر الزجاج، ومن أغرب الغرائب وأعجبها أن يستمر الشاعر في مدح الظالم وقد اكتشف ظلمه وما عاد من شيء يحجب الحقيقة أمام عينيه!

الحال نفسه مع المطرب الذي راح يغنّي عن مجد مزوّر ورجولة خرقاء ويرقص علي شاشة التلفزيون بينما يموت العشرات في أقبية السجون، وكذلك مع النحات الذي جاء بإرادته إلي كسب الأموال متبرعاً بموهبته أمام جداريات يعلم جيداً بأنها لن تدوم وان اسمه وسمعته وإبداعه سيلقي المصير الذي ينتظر المنحوت، لكن إغراء المال ــ علي ما يبدو ــ أعمي البصيرة والبصر.

لم يعد البعض من كتابنا يفكر بما يشتهي وبما يريد ويحتاج إليه، صار يفكر بما يشتهون (هم) وما يفكرون فيه، مع أن ذلك يعني نهاية العقل وفناء الحواس.. أرغموهم علي بيع بضاعتهم بسعر التراب، وصارت الرواية والقصيدة والقصة القصيرة محض مزاد علني في النهار وذرف دموع في الليل علي بضاعة كانت هي أول الحضارات قبل الحجر!

هل يحدث في (باريس) مثلاً ما يحدث عندنا؟ هل سمعتم بشاعر يقرأ مدحاً في حضرة (جاك شيراك) وهل من روائي كتب عملاً عن الجنرال ديغول وجاء علي وصفه بالطريقة التي توصف بها الآلهة والأنبياء؟ هل ثمة فيلم سينمائي خاص عن بطولات الرئيس النمساوي، وهل من أغنية عن (كورت فالدهايم) مثلاً؟

لماذا أصبح (سفح ماء الوجه) عملة عربية؟

منذ متي كان العربي يُساق هكذا إلي مجزرة البيع والشراء وتحطيم الذات؟

ربما يقول البعض إن (المتنبي) فعلها من قبل، وكذلك (الجواهري) وشلّة من الشعراء في أزمنة ولّت.. لكن هل كتب المتنبي أو الجواهري تسعاً وتسعين صفة ربانية مقدسة عن شخص واحد؟ وهل جاء بها أيّ شاعر في العصر العباسي أو الفترة العثمانية أو في أيّ زمان غابر؟!

لا نريد أن تختفي الشمس عن حضارتنا، وينبغي دائماً أن نتذكر ضمائرنا التي نحتكم إليها ونحكم بها، وإذا كانت أجسادنا ستمضي آجلاً أو عاجلاً إلي التراب، يجب علينا الحرص علي أقوالنا وكتاباتنا وإبداعنا، فهي وحدها من يبقي بعدنا.

ليس من رجل سيبقي أبد الدهر، لكن القصائد الشريفة يمكنها أن تبقي، وكذلك القصة والرواية والرسم والموسيقي وكلمة الحق..

نريد لكم أيها المبدعون البقاء بعد موتكم، ومن المؤسف والله أن تموتوا يوم موتكم، والمسألة ببساطة لا تحتاج إلي تفسير آخر.

 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply