بسم الله الرحمن الرحيم
نعترف أننا ارتكبنا خطيئة كبرى عندما نعينا في افتتاحية سابقة الرأي العام العربي، ووصفناه بالموات.
فالمظاهرات والمهرجانات التي جرت وتجري حاليا في الأردن ولبنان وسورية في إطار حمى اسمها \"سوبر ستار\" تؤكد أن الشارع العربي يتحرك فعلاً، ولكن في الاتجاه الأمريكي الصحيح!
محطة المستقبل الفضائية اللبنانية التي نقلت إلينا هذه التقليعة الجديدة، في حال بث مستمر لتشجيع الناس علي التصويت للاختيار بين الأردنية\"ديانا كرازون\"والسورية\"رويدا عطية\".
التلفزيون الرسمي السوري ألغى معظم برامجه الخفيف منها والثقيل، وأقام مهرجانات في الحدائق العامة، وفي مختلف المدن والمحافظات، ونصب شاشات عملاقة لحشد التأييد والمساندة لرمز سورية الوطني رويدا عطية، التي ستحرر الجولان وفلسطين وربما العراق بعد فوزها!
في الأردن نسي الناس أزمات المياه وانقطاع الكهرباء، والبطالة المتفاقمة، والفقر المدقع، وباتوا في حال استنفار لدعم القضية الوطنية الأولى أي التصويت لاختيار الآنسة ديانا، حتى ترفع رأس الأردن والأمة العربية في المعركة المصيرية ضد السورية رويدا، وربما تقود الأردنيين لتحرير القدس والأقصى مستقبلاً!
لبنان وضع مزارع شبعا جانباً، فالوقت ليس وقت مقاومة وتحرير، هناك ما هو أهم فالصحف منشغلة بالمرشح اللبناني\"ملحم زين\" الذي خرج من المسابقة ضحية مؤامرة إمبريالية كبرى تستهدف لبنان وأرضه وأرزه وتاريخه الحضاري، حتى إن الخبر الرئيس في نشرة أخبار تلفزيون المستقبل ذلك اليوم كان استقبال الرئيس اللبناني إميل لحود للمرشح المهزوم ملحم زين، وعلى قدم المساواة مع الوزير الفلسطيني نبيل شعث.
نأسف أن نقول، وبألم شديد: إننا نعيش علامات الساعة، وأن أمتنا التي طالما ننشد لها، ونسطر القصائد في التغني بأمجادها وعظمتهاº هي أمة وصلت إلى أدنى درجات التفاهة، ولهذا تنهال عليها الهزائم والنكبات من كل حدب وصوب.
بغداد تحت الاحتلال، وقوات الاحتلال الأمريكي تعربد وتقتل وتنتهك حرمات وطن وشعب، وانتفاضة في الأرض المحتلة تذبح، وأغلى المقدسات يتعرض للتدنيس في القدس المحتلة، ولا أحد يتحرك أو يحرك ساكناً، ولكن قضية ديانا وملحم ورويدا تحرك الملايين، وتدفعهم إلي الشوارع متظاهرين لأبطال العرب الجدد ومصدر فخرهم وعزتهم.
التلفزيونات الرسمية العربية لم تهتم الاهتمام نفسه بغزو العراق، ولم تحرض الجماهير للتظاهر ضـد العدوان، ولم تنصب الشاشات الضخمة والعملاقة في الساحات العامة لحشد التأييد للانتفاضة والتضامن مع شهدائها، ولكنها تفعل ذلك من أجل صوت ديانا الذهبي، وأحبال رويدا الصوتية البلاتينية.
قوات الأمن في الأردن وسورية ولبنان لم تطلق كلابها البوليسية لنهش لحوم المتظاهرين، ولم تستخدم الهراوات الغليظة لشج رؤوسهم، فهذه هي المظاهرات النموذجية التي تتمناها في هذه المرحلة وكل المراحل القادمة، وهذه هي القضايا المصيرية التي يجب أن ينشغل بها الرأي العام.
فالتنافس بين الأردن وسورية ولبنان أو أي من البلدان الأخرى، لا يجب أن يكون في قضايا متخلفة مثل تحرير العراق أو فلسطـين، أو في كيفية إطلاق الحريات العامة وحماية حقوق الإنسان، وتكريس القضاء المستقل، التنافس يجب أن يكون في الغناء والطرب والرقص، والتصويت يجب أن لا يكون لانتخاب برلمان حر للشورى، فهذا مضيعة وقت، وإهدار للمال والجهد، التصويت الصحيح والحضاري هو لاختيار من يحرك وسط الجماهير رقصاً، ورؤوسها طرباً، بصوته العذب، وحنجرته الأصيلة!
الحناجر القوية التي تهتف بسقوط الاستعمار، وتطالب بالتحرير، وتتبني المطالب الشعبية في الاستقلال الحقيقي، هذه حناجر أصواتها نشاز، وأحبالها الصوتية مزعجة يجب أن تقطع من جذورها فمن العار أصلاً أن تكون موجودة في زمن ديانا ورويدا وملحم السعيد.
إنه نجاح كبير ومذهل لكل جهود التسخيف والتسطيح التي مارستها الأنظمة العربية وإعلامها للمواطن العربي، والذوق العام، ولا بد أن الإدارة الأمريكية مسرورة بهذا الإنجاز، وتعكف حالياً على إعداد برقيات التهنئة للمسؤولين عنه.
أمريكا لم تعد بحاجة إلي إقامة إذاعات أو محطات تلفزيونية لغسل دماغ المواطن العربي، من خلال الموسيقي الشعبية والمسلسلات المكسيكية، والأفلام الخليعة، فقد كفتها التلفزيونات العربية هذه المهمة الصعبة التي خصصت لها عشرات الملايين من الدولارات، وجيوشاً من الخبراء في علم الاجتماع والنفس والإعلام، وهاهي تحقق لها أهدافها مجاناً ودون مقابل.
إن ما يجري هو أحد أبرز عناوين الانحدار والتفاهة، والتخدير الفكري والاجتماعي والسياسي والوطني.
نعترف مرة أخرى أننا ننتمي إلى فكر منقرض، وإلى أمة غير الأمة التي نعرفها، فمن كان يصدق أن نشاهد رجال دين يتدخلون لمنع التظاهر ضد الاحتلال في العراق، وحكومات عربية تعترف بمجلس حكم نصبه الأجنبي الغازي، ورئيس وزراء فلسطيني ينفي وجود أي عداء بين العرب واليهود، وزعماء عرب يطالبون شعوبهم بالتصويت لمطرب أو مطربة في برنامج تلفزيوني غرائزي، ثم يتصلون للتهنئة بالفائز!
إنها فعلاً علامات الساعة، والبقاء لله.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد