بسم الله الرحمن الرحيم
جميع الخرائط منذ خارطة \"الدولة العربية\" التي وعد بها الغرب الشريف حسين، ليكون ملكاً على الأجزاء العربية بعد مساعدتهم في القضاء على العثمانيين، ثم غدروا به ولم يحققوا له أمانيه كما يريد بل كما أرادوا هم، وحتى خارطة الطريق الأخيرة، كلها لم توصل إلى عزة المسلمين، ولم يبق للمسلمين من خرائط يهتدون بها إلا خارطة واحدة، توصل إلى العزة الحقيقية، وهي خارطة الإسلام.
لكن، ويا للأسف، لم تتح للمسلمين فرصة بعد للتوجه الحقيقي الجاد للسير على هذه الخريطة، بسبب ما يواجههم من محاولات قوية لصرفهم عن هذا الاتجاه، وتضليلهم عنه بتوجهات لا تصل بهم إلا إلى الهزيمة والهوان، فعلى الرغم من وضوح هذا الطريق الذي يؤدي مباشرة إلى القوة والعزة والكرامة، ومن معرفة بعض أعدائنا بهº فإن كثيراً من المسلمين يغفل عنه أو لا يهتم بالتوجه إليه، لما زار عاهل الألمان الآستانة في أثناء الحرب، ورأى النساء التركيات سافرات متبرجات، وجّه عتاباً شديداً لطلعت باشا الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) على ذلك، وذكر له ما فيه من المفاسد الأدبية والمضار الاقتصادية التي تئن منها أوروبا وتعجز عن تلافيها، وقال: \"إن لكم وقاية من ذلك كله بالدين..أفتزيلونها بأيديكم؟! \"(1).وقال كوندي أحد الكتاب النصارى: \"العرب هووا عندما نسوا فضائلهم التي جاؤوا بها وأصبحوا على قلب متقلب يميل إلى الخفة والمرح والاسترسال بالشهوات\"(2).
لم يبق للمسلمين من خرائط يهتدون بها إلا خريطة واحدة، توصل إلى العزة الحقيقية، وهي خارطة الإسلام، وعلى الرغم من وضوح هذا الطريقº فإن كثيراً من المسلمين يغفل عنه أو لا يهتم بالتوجه إليه..
والتوجه إلى العزة من طريق الإسلام لا بد أن يسبقه إيمان تام بعدم صلاحية كل الطرق الأخرى، وأن اللجوء إلى الله الذي يملك العزة بجميع وجوهها هو الطريق الصحيح، قال تعالى: \"مَن كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَلِلَّهِ العِزَّةُ جَمِيعاً\" [فاطر: 10]º أي من كان يطلب عزة في الدنيا أو الآخرة \"فَلِلَّهِ العِزَّةُ جَمِيعاً\" أي فليطلبها من الله(3)، \"إِلَيهِ يَصعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرفَعُهُ\" (بيان لما يُطلب به العزة وهو التوحيد والعمل الصالح)(4). وقد ذكر الله تعالى لنا في كتابه الكريم على وجه التفصيل كل أسباب العزة والنصر، وحذرنا من كل أسباب الذل والهزيمة، لكنها تحتاج إلى جهود كثيرة من الدعاة لإزالة الغشاوة عن عيون الكثيرين لكي يروا نورها، وحسبنا هنا أن نشير إلى بعض تلك الأسباب في كل منهما:
فمن أسباب العزة والنصر:
- تحقيق الإيمان والتوحيد وما يلزم ذلك من تحقيق القيام بشريعة الله تعالى وحدها: \"وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم فِي الأَرضِ كَمَا استَخلَفَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُم دِينَهُمُ الَّذِي ارتَضَى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعدِ خَوفِهِم أَمناً يَعبُدُونَنِي لَا يُشرِكُونَ بِي شَيئاً وَمَن كَفَرَ بَعدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ\" [النور: 55]، \"وليمكنن لهم دينهم\"، وهو الإسلام بأن يظهره على جميع الأديان ويوسع لهم في البلاد فيملكوها، \"يعبدونني لا يشركون بي شيئاً\" هو مستأنف في حكم التعليل(5).
- تحقيق الوحدة القائمة على الانتماء لدين الإسلام وحده: \"وَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا... \" [آل عمران: 103].
- الأخذ بالأسباب المادية الموصلة إلى كل ما فيه قوة للمسلمين، والإنفاق على ذلك: \"وَأَعِدٌّوا لَهُم مَّا استَطَعتُم مِّن قُوَّةٍ, وَمِن رِّبَاطِ الخَيلِ تُرهِبُونَ بِهِ عَدوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُم وَآخَرِينَ مِن دُونِهِم لاَ تَعلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعلَمُهُم وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيءٍ, فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيكُم وَأَنتُم لاَ تُظلَمُونَ\" [الأنفال: 60]، (ما استطعتم من قوة): قال - صلى الله عليه وسلم -: \"ألا إن القوة الرمي\" رواه مسلم.
- نصرة دين الله والدفاع عنه: \"يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُركُم وَيُثَبِّت أَقدَامَكُم\" [محمد: 7].
ومن أسـباب الذل والهزيمة التي حذرنا الله تعالى منها:
- التفريط في العمل بما أنزل الله تعالى: قال - سبحانه - يبيّن ما عاقب به النصارى على تركهم العمل ببعض ما أنزل إليهم: \"وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذنَا مِيثَاقَهُم فَنَسُوا حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغرَينَا بَينَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغضَاء إِلَى يَومِ القِيَامَةِ وَسَوفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُوا يَصنَعُونَ\" [المائدة: 14]، جاء في التفسير الميسر: \"وأخذنا على الذين ادَّعوا أنهم أتباع المسيح عيسى -وليسوا كذلك- العهد المؤكد الذي أخذناه على بني إسرائيل: بأن يُتابعوا رسولهم وينصروه ويؤازروه، فبدَّلوا دينهم، وتركوا نصيبًا مما ذكروا به، فلم يعملوا به، كما صنع اليهود، فألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة\".
- التنازع والخلاف والركون إلى الدنيا: فنصر الله تعالى بعيد عن المتنازعين المنكبّين على شهوات الدنيا، قال تعالى: \"وَلَقَد صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعدَهُ إِذ تَحُسٌّونَهُم بِإِذنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلتُم وَتَنَازَعتُم فِي الأَمرِ وَعَصَيتُم مِّن بَعدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبٌّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدٌّنيَا... \" [آل عمران: 152].
- معاداة المسلمين وموالاة الكافرين: \"وَالَّذينَ كَفَرُوا بَعضُهُم أَولِيَاء بَعضٍ, إِلاَّ تَفعَلُوهُ تَكُن فِتنَةٌ فِي الأَرضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ\" [الأنفال: 73]، (إلا تفعلوه) أي إذا لم تقوموا بتولي المسلمين وقمع الكفار (تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) بقوة الكفر وضعف الإسلام(6).
- علو المنافقين واليهود والنصارى في المجتمع المسلم: \"يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُم لاَ يَألُونَكُم خَبَالاً وَدٌّوا مَا عَنِتٌّم قَد بَدَتِ البَغضَاء مِن أَفوَاهِهِم وَمَا تُخفِي صُدُورُهُم أَكبَرُ قَد بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُم تَعقِلُونَ\" [آل عمران: 118]، (بِطانة) أصفياء تطلعونهم على سركم (من دونكم) أي غيركم من اليهود والنصارى والمنافقين (لا يألونكم خبالا) أي لا يقصرون لكم في الفساد (ما عنتٌّم) أي عنتكم وهو شدة الضرر(7).
وما من عز ونصر حققه المسلمون في التاريخ إلا وكان تحقيقه نتيجة لجوئهم إلى الله - تعالى -واعتصامهم بالدين، وهذا هو الذي تخافه الأعداء، وذكره يزلزل قلوبهم، ولذا يسعون بجد لصرف المسلمين عن الوصول إليه، بمحاربة الصحوة الإسلامية، وإفساد المجتمعات، وقديماً قال ريتشارد نيكسون: \"إن على روسيا أن تساعد أمريكا لمواجهة الخطر الإسلامي الذي سيظهر... وإن على الدولتين أن تواجها القوى الإسلامية بدلاً من بيع السلاح لدول العالم الثالث\"(8).
_______________
(1) الخلافة لمحمد رشيد رضا، ص 155.
(2) مجلة البيان، ص 122، العدد 48.
(3) التفسير الميسر.
(4) تفسير البيضاوي.
(5) تفسير الجلالين.
(6) تفسير الجلالين.
(7) المرجع السابق.
(8) جريدة المسلمون 7 ديسمبر / 1990، ص 7.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد