بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
قد تجد من طلبة العلم في الدروس من ينتظر من الشيخ دائماً الترجيح بل ولا يكفيه إلا التصريح بالترجيح وعلى هؤلاء أن يعلموا حقيقتين:
الأولى: أن من يرجح في كل مسألة على الإطلاق ليس على سمت أهل العلم الذين لا تجد لأحدهم مسائل وفتاوى إلا وتجده متوقفاً في بعضها، وقصة الإمام مالك - رحمه الله - مشهورة حين سُئل عن أربعين مسألة فقال في ست وثلاثين منها: لا أدري.
وقال خالد بن خراش: قدمت من العراق على مالك بأربعين مسألة فما أجابني إلا في خمس ولعل هذه هي تلك.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: كنا عند مالك فجاء رجل فقال: يا أبا عبد الله جئتك من مسيرة شهر.. حمّلني أهل بلادي مسألة أسألك عنها. فقال: سل. فسأله فقال: لا أحسن. فقُطع بالرجل وكأنه قد جاء إلى من يعلم كل شيء قال وأي شيء أقول لأهل بلادي إذا رجعت إليهم؟ قال: تقول لهم: قال مالك: لا أحسن.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد كما في مسائله مسألة رقم 1822: كنت أسمع أبي كثيراً يُسأل عن المسائل فيقول: لا أدري، وذلك إذا كانت مسألة فيها اختلاف، وكثيراً ما يقول: سل غيري. فإن قيل له من نسأل؟ يقول: سلوا العلماء، ولا يكاد يسمي رجلاً بعينه. ا.هـ.
وقال الإمام أحمد - رحمه الله - ربما مكثت في المسألة ثلاث سنين قبل أن أعتقد فيها شيئاً.
وانظر مقدمة مسائل الإمام أحمد لابنه عبد الله ففيها طرف من هذا. وانظر أيضاً إعلام الموقعين 1-33 وما بعدها، 4-105 وما بعدها.
فهذا هدي مالك وأحمد وهدي العلماء والأئمة مثله وهم على هدي السلف قبلهم من الصحابة والتابعين - رحمهم الله تعالى - أجمعين. فعن نافع أن رجلاً سأل ابن عمر عن مسألة فطأطأ رأسه ولم يجبه حتى ظن الناس أنه لم يسمع مسألته فقال له: يرحمك الله أما سمعت مسألتي؟ قال: بلى ولكنكم كأنكم ترون أن الله - تعالى - ليس بسائلنا عما تسألونا عنه، اتركنا رحمك الله حتى نتفهم مسألتك فإن كان لها جواب عندنا وإلا أعلمناك أنه لا علم لنا به.
{ذكره في صفة الصفوة}:
وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: \"أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسأل أحدهم عن المسألة فَيَرُدها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول\" أخرجه الدارمي وابن سعد وغيرهم.
وعن سحنون بن سعيد قال: أجسر الناس على الفتيا أقلهم علماً يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم فيظن أن الحق كله فيه. قال سحنون: إني لأحفظ مسائل منها ما فيه ثمانية أقوال من ثمانية أئمة من العلماء فكيف ينبغي أن أعجل بالجواب حتى أتخير فلم آُلام على حبسي الجواب.
{انظر جامع بيان العلم 2-165}
ولذا فلا تثريب على الشيخ حين يتوقف في الترجيح في بعض المسائل بل هذا من تحريه وفقهه.
ورع السلف عن التصريح بالترجيح فيما هو مختلف فيه:
الحقيقة الثانية: أن الترجيح لا يلزم أن يكون بصريح عبارة الترجيح كأن يقول الراجح كذا أو وهذا هو القول الراجح... بل قد لا يستطيع القطع بذلك فيكون الأقرب له كذا أو يميل إلى القول به لأن الأدلة أحياناً تكون قوية لكلا القولين، ولذا فقد يقول الأقرب كذا أو الأظهر كذا أو الذي يظهر رجحانه كذا، ولذا نجد أن عبارات الأئمة أحياناً لا تكون قاطعة مع سعة علمهم وإحاطتهم بالأدلة، ونجدهم في فتاواهم يتحرجون من القول إن هذا حرام أو نحوها من العبارات الصريحة. وانظر في مسائلهم وأقوالهم لتجد هذه العبارات: لا يعجبني، لا ينبغي، لا أحب ذلك، أكرهه، لا يصلح، لا أراه.
وفي الإباحة، أرجو ألا يكون به بأس، هذا أعجب إلي، هذا حسن، هذا أهون.
ففي الأم للشافعي - رحمه الله - 5-3 قال: أخبرنا سفيان عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبيه قال سئل عمر عن الأم وابنتها من ملك اليمين فقال ما أحب أن أجيزهما جميعا فقال عبيد الله قال أبي فوددت أن عمر كان أشد في ذلك مما هو فيه.
أخبرنا مسلم وعبد المجيد عن ابن جريج قال سمعت ابن أبي مليكه يخبر أن معاذ بن عبيد الله بن معمر جاء إلى عائشة فقال لها: إن لي سرية قد أصبتها وإنها قد بلغت لها ابنة جارية لي أفأستسر ابنتها فقالت: لا، فقال: فإني والله لا أدعها إلا أن تقولي لي حرمها الله، فقالت لا يفعله أحد من أهلي ولا أحد أطاعني. أ. هـ.
فانظر إلى كل من عمر وعائشة - رضي الله عنهما - لم يأتيا بلفظ صريح في التحريم لما لم يكونا على يقين منه في هذه المسألة وتورعا عن التصريح.
ولطالب العلم أن يراجع مسائل الإمام أحمد - رحمه الله - فكثيراً ما يعبر بهذه العبارات وفيها أيضاً أمثلة للأمر الأول وهو التوقف في بعض المسائل، وما أحرانا أن نتأسى بأولئك الأئمة وأن نسير على هديهم ودلّهم، فلئن كانوا يقولون ذلك وهم فقهاء الأمة وحفظة السنة فكيف بمن هو دون ذلك؟!
وهذا كما يقال في الترجيح بين المسائل يقال في تصحيح الأحاديث وتضعيفها، فمن ذا الذي يستطيع الحكم على جميع الأحاديث؟! إذاً فالتوقف في الحكم على بعض الأحاديث التي يُسأل عنها لابد منه، بل قد يبحث ويجتهد في البحث ثم يتوقف في الحكم على الحديث لتقابل أسباب تصحيحه مع أسباب تضعيفه وهذا معلوم موجود. كذلك لا يلزم أن يكون التصحيح أو التضعيف مقطوعاً به، ولذا قد تجد بعض العلماء يتكلمون عن الحديث ولا يخرج القاريء لكلامهم بحكم قاطع، بل قد يفهم الحكم على الحديث فهماً مستوحيً لا مصرحاً به، وقد تجد لبعضهم عبارات أيضاً ليست بصريحة في الحكم على الحديث، كقولهم: فيه فلان أو إسناده صحيح أو إسناده ضعيف أو لا يحتج به أو لا بأس به أو غيرها.
التورع عن القطع بالحكم على الأحاديث لا يعني تعليق الأحكام:
وههنا تنبيه وهو أن كل هذا لا يعني عدم القطع في الحكم سواء في الترجيح في المسائل أو في الحكم على الأحاديث وذلك لمن تبين له هذا بالأدلة الواضحة، ولا ضير أن يقطع بالحكم هذا ويتوقف فيه الثاني ويميل إليه الثالث ويرجح غيره الرابع وهذه سنة الله في تفاوت القدرات والأفهام. ولكن ينبغي لمن ينظر في هذا الخلاف ألا يغفل الأمور التي أشرت إليها كما ينبغي ألا يكون المجتهد هذا ديدنه في جميع المسائل وجميع الأحاديث أعني القطع لأنه لا يمكن أن يصل إلى حد اليقين في المسائل كلها، ولذا فعليه أن يختار العبارة المناسبة لما تبين له لاسيما في المسائل التي يشتهر العمل بها بين الناس والدليل على منعها غير صريح، فالأحسن للمفتي أن يختار عبارة أقل من التصريح بأن هذا حرام وهذا حلال وله في الأئمة أسوة حسنة.
قال ابن وهب: سمعت مالكاً يقول لم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا ولا أدركت أحداً أقتدي به يقول في شيء: هذا حلال وهذا حرام، وما كانوا يجترئون على ذلك، وإنما كانوا يقولون: نكره كذا، ونرى هذا حسناً. فينبغي هذا ولا نرى هذا. أه. انظر: إعلام الموقعين 1-39.
العبرة بالدليل لا بالرجال:
حين يقال إن العبرة بالدليل لا بالرجال لا يعني ذلك أن يعتد طالب العلم برأيه ونظره ويعرض عن أقوال أهل العلم وفقههم بل لا يكون حقاً طالب علم حتى يتربى على فقه السابقين واللاحقين والقدماء والمعاصرين وأن يعرف كيف يستدلون وكيف يستنبطون من الأدلة الأحكام وكيف يجمعون بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض وكيف يناقشون الاستدلالات ويعترضون عليها...
بل إن طالب العلم الحق ليستنبط استدلالاً من آية أو حديث لمسألة فلا يجد مَن ذكر هذا من أهل العلم فلا يجسر أن يذكره ويتردد فيه إلا أن يتضح له دلالته فلا بأس من ذكره مع الإشارة إلى عدم الجزم به والقطع.
وقد روى ابن عبد البر في جامع بيان العلم 2-46 عن قتادة أنه قال: من لم يعرف الاختلاف لم يشمّ الفقه بأنفه، ونحوه عن سعيد بن أبي عروبة، وروى أيضاً عن عطاء قال: لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالماً باختلاف الناس، فإنه إن لم يكن كذلك رد من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه.
خطورة القطع بحكم لم يقبل به أحد من الأئمة:
والحيدة عن هذه السبيل تنتج بدلاً من المذاهب الأربعة مذهباً لكل مشهور من أهل العلم ممن يُتعصب له، أو تنتج لكل طالب علم مذهباً خاصاً. نعم إذا بلغ الاجتهاد في مسألة فلا بأس، لكن لا يبتدع قولاً لم يقله أحد قبله. وانظر إلى ما قاله جمهور العلماء فإياك أن تتعجل بمخالفته وإن وجدت ظاهر النص على خلافه فقد يكون لهم دليل أو قرينة صرفت ذلك الأمر عن الوجوب أو ذلك النهي عن التحريم ولم تعلم به، فعليك بالتروي والبحث والنظر في أدلة ما ذهبوا إليه، ولا نقول إن الحجة بقول الجمهور وإنما الحجة بالإجماع ولكن لا يعني هذا ألا يُلتفت إلى كون الجمهور قالوا به ولا يُعتبر، ولا سيما إن كان جمهور الصحابة، فالغالب أن الحق لا يعدوهم.
وأختم هذه الفقرة من هذه الوقفة بما رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم 1-76، 2-187: عن صالح بن كيسان قال: كنت أنا وابن شهاب ونحن نطلب العلم فاجتمعنا على أن نكتب السنن فكتبنا كل شيء سمعنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: نكتب ما جاء عن الصحابة فإنه سنة، وقلت أنا ليس بسنة ولا نكتبه فكتبه الزهري ولم أكتبه فأنجح وضيعت.
وأرجو أن يُفهم ما قلته في هذه الوقفة كلها على وجهه الصحيح. والله - تعالى - أعلم.
هذا ونسأل الله - عز وجل - أن يجعلنا من أهل العلم وطلابه وأن يعيننا على الإخلاص فيه والصبر عليه والدعوة إليه وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا إنه جواد كريم والله - تعالى - أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد