بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على إِحسانه، والشّكرُ له عَلى توفيقِه وامتنانه، وأشهَد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنّ نبيّنا محمّدًا عبدُه ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آلِه وأصحابه.
ثم أمّا بعد:
فبعد أن تحدثنا في اللقاء الخامس من سلسلة طالب العلم، عن ((التواضع من حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقوال السلف الصالح))!. لا بد لنا اليوم أن نتحدث عن نقيض التواضع ألا وهو الكبر، وهي صفةٌ تُعرف لتُجتنب، والنبي - صلى الله عليه وسلم - هو قدوة العلماء والأمة بأجمعها فأسسنا في اللقاء السابق حول التواضع أسساً ينبغي على طالب العلم التنبه لها، ويجب عليه التمثل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأن يجتنب الكبر المذموم والذي هو مدار لقائنا لهذا اليوم وهو اللقاء السادس من سلسلة طالب العلم، أسأل الله العظيم أن يجعل فيها الخير والصلاح لي ولطلبة العلم الشريف إنه هو السميع العليم.
أولاً ــ تمهيد:
* الكبر بطر الحق وهو التكبر عليه والامتناع من قبوله كبرا إذا خالف هواه ومن هنا قال بعض السلف التواضع أن تقبل الحق من كل من جاء به وإن كان صغيرا فمن قبل الحق ممن جاء به سواء كان صغيرا أو كبيرا وسواء كان يحبه أو لا يحبه فهو متواضع ومن أبى قبول الحق تعاظما عليه فهو متكبر وغمط الناس هو احتقارهم وازدراؤهم وذلك يحصل من النظر إلى النفس بعين الكمال وإلى غيره بعين النقص وفي الجملة فينبغي للمؤمن أن يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لنفسه فإن رأى في أخيه المسلم نقصا في دينه اجتهد في إصلاحه. [انظرجامع العلوم والحكم (الجزء: 1 الصفحة: 122)].
ثانياً ــ حقائق عن الكبر:
1ــ الكبر أول معصية عُصي الله بها:
أصل الأخلاقِ المذمومة كلِّها الكبر والاستعلاء، به اتَّصف إبليس فحسَد آدم واستكبر وامتنع من الانقياد لأمر ربه، ((وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين)) [البقرة: 34].
وبه تخلّف الإيمان عن اليهود الذين رأَوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وعرفوا صحَّة نبوّته، وهو الذي منع ابنَ أبيّ بن سلول من صِدق التسليم، وبه تخلَّف إسلام أبي جهل، وبه استحبَّت قريشٌ العمى على الهدى، قال - سبحانه -: ((إِنَّهُم كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُم لا إلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَستَكبِرُونَ)) [الصافات: 35]. ودعا سليمانُ - عليه السلام - بَلقيس وقومَها إلى نبذِ الاستعلاء والإذعان: ((أَلاَّ تَعلُوا عَلَيَّ وَأتُونِي مُسلِمِينَ)) [النمل: 31].
2 ــ الكبر سبب الفرقة والاختلاف والبغضاء:
الكبر سببٌ للفُرقة والنزاع والاختلافِ والبغضاء، قال - جل وعلا -: ((فَمَا اختَلَفُوا إِلاَّ مِن بَعدِ مَا جَاءهُمُ العِلمُ بَغيًا بَينَهُم)) [الجاثية: 17]، وبسببِه تنوّعت شنائِع بني إسرائيل مع أنبيائِهم بين تكذيبٍ, وتقتيل، ((أَفَكُلَّمَا جَاءكُم رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهوَى أَنفُسُكُم استَكبَرتُم فَفَرِيقًا كَذَّبتُم وَفَرِيقًا تَقتُلُونَ)) [البقرة: 87]. وهو مِن أوصافِ أهلِ النّفاق، ((وَإِذَا قِيلَ لَهُم تَعَالَوا يَستَغفِر لَكُم رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوا رُءوسَهُم وَرَأَيتَهُم يَصُدٌّونَ وَهُم مٌّستَكبِرُونَ)) [المنافقون: 5].
3 ــ الكبر سبب تعذيب الأمم السابقة:
وعُذِّبت الأمَم السالفة لاتّصافِهم به، قال - تعالى - عن قومِ نوح: ((وَاستَغشَوا ثِيَابَهُم وَأَصَرٌّوا وَاستَكبَرُوا استِكبَارًا)) [نوح: 7]، وقال عن فرعونَ وقومه: ((وَاستَكبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرضِ بِغَيرِ الحَقّ وَظَنٌّوا أَنَّهُم إِلَينَا لاَ يُرجَعُونَ، فَأَخَذناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذناهُم فِي اليَمّ فَانظُر كَيفَ كَانَ عاقِبَةُ الظالِمِينَ)) [القصص: 39، 40]، وقال عن قومِ هود: ((فَأَمَّا عَادٌ فَاستَكبَرُوا فِي الأَرضِ بِغَيرِ الحَقّ وَقَالُوا مَن أَشَدٌّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَم يَرَوا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُم هُوَ أَشَدٌّ مِنهُم قُوَّةً وَكَانُوا بِـآياتِنَا يَجحَدُونَ)) [فصلت: 15].
ثالثاً ــ منشأ الكبر: للكبر أسباب أهمها:
1 ــ المال:
إن الكبر غالباً ما ينشأ من الترفº فإذا أترف الإنسانº انتكس تفكيره وسمى الباطل حقاً والحق باطلاً، ومن ثم يحتقر من لم يكن مثله في عيشه وماله ودنياهº إلا من رحم الله.
2 ــ العلم: وهو شر أنواع الكبر:
وشر الكبر من تكبر على العباد بعلمه وتعاظم في نفسه بفضيلتهº فإن هذا لم ينفعه علمهº فإن من طلب العلم للآخرة كسره علمه، وخشع قلبه، واستكانت نفسه، وكان على نفسه بالمرصاد، فلم يفتر عنها. ومن طلب العلم للفخر والرياسة، ونظر إلى المسلمين شزراً مزراًº فهذا من أكبر الكبر، ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبرº فلا حول ولا قوة إلا بالله.
قال بعض الحكماء: المتكبر كالصاعد فوق الجبل، يرى الناس صغاراً، ويرونه صغيراً.
3 ــ النسب:
وقد ينشأ الكبر من التباهي بالأنساب، والتباهي بأسرته الكبيرة، أو أنه يمت بصلة إلى أسرة معروفة بالجاه أو السلطان أو العلم أو غير ذلك.
4 ــ المنصب:
وقد ينشأ الكبر من منصب يتولاه الإنسان، فيرى نفسه أعلى من الناس طبقة، فيكشر في وجوه فقراء الناس، وربما رأى أن الواجب ألا يتصلوا إليه مباشرة، بل لابد من الوساطة بينه وبينهم ويحمله الكبر على أن يحب في نفسه أن يقوم الناس له تعظيماً:
ففيما روى الإمام الترمذي في جامعه الصحيح برقم (2755) فقال: عَن أَبِي مِجلَزٍ, قَالَ خَرَجَ مُعَاوِيَةُ فَقَامَ عَبدُ اللَّهِ بنُ الزٌّبَيرِ وَابنُ صَفوَانَ حِينَ رَأَوهُ فَقَالَ اجلِسَا سَمِعتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ مَن سَرَّهُ أَن يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَليَتَبَوَّأ مَقعَدَهُ مِن النَّارِ وَفِي البَاب عَن أَبِي أُمَامَةَ قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.
رابعاً ــ صفات المتكبر وبعض الأعمال التي تعد من التكبر:
1 ـ العلو على الحق وازدراء من هم أدنى منه:
فالمتكبر يريد أن يعلو على الحق وعلى الله - تعالى - برد الشرع والدين، ورد آيات الله - عز وجل - وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -.. والمتكبر أيضاً يعلو على الناس ويسخر منهم ويحتقرهم ويزدريهم.
إن الكبر منازعة لصفة من صفات الله - عز وجل - كما جاء في حديث الإمام مسلم برقم (2620) فقال: عَن أَبِي سَعِيدٍ, الخُدرِيِّ وَأَبِي هُرَيرَةَ قَالَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((العِزٌّ إِزَارُهُ وَالكِبرِيَاءُ رِدَاؤُهُ فَمَن يُنَازِعُنِي عَذَّبتُهُ)) فهو - سبحانه - الجبار المتكبر.
وهذه المنازعة قد تسبب العقوبة في الدنيا قبل الآخرة كما جاء في صحيح الإمام البخاري برقم (3485) أَنَّ ابنَ عُمَرَ قال: قال النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -: (بَينَمَا رَجُلٌ يَجُرٌّ إِزَارَهُ مِن الخُيَلَاءِ خُسِفَ بِهِ فَهُوَ يَتَجَلجَلُ فِي الأَرضِ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ).
أي هو يغوص فيها والعياذ بالله، والجزاء من جنس العمل.. وكذلك يوم القيامة سيكون جزاء المتكبرين بأن يحشروا ((أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان يُساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس، تعلوهم نار الأنيار، يُسقون من عصارة أهل النار: طينة الخبال)) هذا حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الترمذي عن ابن عمر - رضي الله عنهما -.. فهذا جزاء التكبر.. الذل والصغار والإهانة والاحتقار يوم القيامة والعياذ بالله.
2 ــ حسد الأقران:
وأيضاً قـد يؤدي الكبر إلى حسد الأقران بعضهم لبعض وخاصة من أهل العلم والدعاة.. فقد يرى أحدهم أنه أوتي بياناً وفصاحة فهو خطيب مفوه أو أوتي قلماً سيالاً فيقول في نفسه: مالي لا أُتبع، بينما فلان وفلان لهم طلاب وأتباع وكلمتهم مسموعة في جميع أنحاء العالم الإسلامي، فيتحين الفرص للإيقاع بهؤلاء ويفرح بما يصيبهم من أذى ويُعلن أن ما أصابهم ما كان إلا بسبب أنهم ابتعدوا عما يراه ويظنه حقاً والعياذ بالله.
وهذه أيضاً صفة أهل البدع الذين يبتدعون في الدين ليعارضوا به ما ثبت في القرآن والسنة فيشتهروا بين الناس بما يحدثوه في الدين من بدع.
3 ـ ازدراء سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -:
والكـبر هو الذي يحمل بعض الناس على ازدراء سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والاستهـزاء بها:
روى الإمام مسلم برقم (2021) فقال: حَدَّثَنَا أَبُو بَكرِ بنُ أَبِي شَيبَةَ حَدَّثَنَا زَيدُ بنُ الحُبَابِ عَن عِكرِمَةَ بنِ عَمَّارٍ, حَدَّثَنِي إِيَاسُ بنُ سَلَمَةَ بنِ الأَكوَعِ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَجُلًا أَكَلَ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِشِمَالِهِ فَقَالَ: (كُل بِيَمِينِكَ قَالَ لَا أَستَطِيعُ قَالَ لَا استَطَعتَ مَا مَنَعَهُ إِلَّا الكِبرُ قَالَ فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ).
4 ــ اتباع الهوى:
المتكبِّر متَّبع لهواه، ينظر إلى نفسه بعينِ الكمال وإلى غيره بعينِ النّقص، مطبوعٌ على قلبِه: لا يقبَل ما لا يَهوى، ((كَذَلِكَ يَطبَعُ اللَّهُ عَلى كُـلّ قَلبِ مُتَكَبّرٍ, جَبَّارٍ,)) [غافر: 35]. واللهُ - تعالى - يبغضه، ((إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبٌّ كُلَّ مُختَالٍ, فَخُورٍ,)) [لقمان: 18].
5 ــ عدم الاعتبار والاتعاظ:
المتَّصف بالكبر مصروفٌ عن الاعتبارِ والاتّعاظ بالعبر والآيات، ((سَأَصرف عن آياتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرضِ بِغَيرِ الحَقّ)) [الأعراف: 146]. والمستكبِر عن الحقّ يبتَلى بالانقياد للباطل، وقد تعجَّل له العقوبة في الدنيا، فقد شُلَّت يَدُ رجلٍ, في عهدِ النبوة بسبَب الكبر كما سبق الحديث عنه.
وقد خسفتِ الأرض بمتكبِّر، وقد سبق الحديث أيضاً، وفي الآخرة يعامَل بنقيض قصده، فمن ترفَّع عن النّاس في الدّنيا يطؤه النّاس بأقدامِهم في الآخرة، يقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: ((يحشَر الجبّارون والمتكبِّرون يومَ القيامة في صوَر الذرِّ يطؤهم النّاس بأرجلهم)) رواه الترمذي، قال في نوادر الأصول: \"كلّ من كان أشدَّ تكبّرًا كان أقصرَ قامّةً في الآخرة، وعلى هذا السبيل كلّ من كان أشدَّ تواضعًا لله فهو أشرَف قامَةً على الخلق\".
6 ــ الظن بالنفس أنها خير من غيرها:
فيكون الكبر مستقرًا في قلبه، فهو يرى نفسه خيرًا من غيره إلا أنه يجتهد ويتواضع، فهذا في قلبه شجرة الكبر مغروسة إلا أنه قد قطع أغصانها، فهو يرى في نفسه أنه خير من غيره، يرى نفسه أعلى من الناس، يجد هذا الشيء في قلبه، ولكنه لا يتلفظ بموجب هذه الخصلة الذميمة، لا يتحول هذا الشيء الذي في قلبه إلى فعل، إلى قول، وإنما يكتم هذا ويظهر عكس هذا الموجب، يظهر التواضع وخفض الجناح للمؤمنين، فهذا إن كانت شجرة الكبر في قلبه إلا أن أغصان هذه الشجرة لا تنمو فقد قطعها. وأنصح في هذا المقام القراءة في كتاب (تلبيس إبليس)، ففيه الحديث عن أمثال هؤلاء الشيء الكثير.
7 ــ الترفع في المجالس والتقدم على الأقران:
يظهر ذلك بأفعال كثير من طلبة العلم اليوم الترفع في المجالس والتقدم على الأقران، والإنكار إذا قصر أحد في حقهم، فترى بعضهم يصعر خده للناس كأنه معرض عنهم، وكذلك الجاهل يعيش دون الناس كأنه مستقذر لهم، وهذان قد جهلا ما أدب الله - عز وجل - به نبيه - صلى الله عليه وسلم -، إذ كان هو على رأس العلماء والعباد والزهاد ماذا قال الله - تعالى - له؟ قال الله - عز وجل - له: ((واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين)).
8 ــ تزكية النفس والدعاوى الفارغة والحكاية عن نفسه:
يظهر الكبر بلسان كثير من الطلبة غالباً، كالدعاوى الفارغة والمفاخرة وتزكية النفس على الغير، وحكايات الأفعال في معرض المفاخرة بغيره، وكذلك التكبر بالحسب والنسب، فالذي له نسب شريف يستحقر من ليس له ذلك، وإن كان أرفع منه عملاً، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)) رواه مسلم برقم (2699)، قال ابن عباس رض الله عنهما: يقول الرجل للرجل: أنا أكرم منك، أي أنا أكرم منك حسبًا، أو أكرم منك أبًا، وليس أحد أكرم من أحد إلا بالتقوى، قال - تعالى -: ((إن أكرمكم عند الله أتقاكم)).
وهذا من أسباب الكبر أن يتكبر الإنسان بوجاهته وحسبه ونسبه، أو أن يتكبر بالمال أو أن يتكبر بالجمال، أو أن يتكبر بالقوة وكثرة الأتباع، ونحو ذلك، فالكبر بالمال أكثر ما يجري بين التجار والأغنياء والرؤساء، والكبر بالجمال أكثر ما يجري بين النساء ولذلك تراهن يغتبن غيرهن ويتنقصن من جمال غيرهن، وكذلك الكبر بالقوة، وهذا يكون بين الرؤوساء ومن لهم أتباع، وهذا يحصل عند بعض من يعلم وعند بعض من له مستفيدون، فهذا من أسباب الكبر. وأعلم أن التكبر يظهر في شمائل الإنسان، يظهر في حركاته فمن ذلك أنه يحب قيام الناس له، أنه إذا جاء مجلس من المجالس أحب أن يتمثل له الناس قيامًا.
و قد قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: ((من أحب أن يتمثل له الناس قيامًا فليتبوأ مقعده من النار))[سبق تخريجه] وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: \"ما كان أحد أحب إلينا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإذا رأيناه لا نقوم له لما نعلم من كراهيته لذلك، كان - صلى الله عليه وسلم - يكره أن يتمثل له الناس قيامًا، فمن الشمائل التي تظهر على الإنسان من جراء الكبر أن يحب أن يتمثل له الناس قيامًا، والسنة أن الإنسان إذا دخل مجلسًا أن لا يتمثل له الناس قيامًا، وإنما القيام عند الاحتفاء به والمعانقة واستقبال صاحب الدار لضيفانه واستقبال الرجل لأبنائه ونحو ذلك.
9 ــ ومن صفات المتكبر أيضًا أنه لا يمش إلا ومعه أحد يمشي خلفه، يكره بعضهم أن يمشي وحده أو أن يحضر مجلسًا وحده، فهذا من الخصال التي تظهر كذلك على الجوارح من جراء الكبر، فتراه إذا أراد حضور مجلس جيش معارفه لذهابه هذا، فتراهم كأنهم الأتباع والتلامذة له.
10 ــ ومن ذلك أيضًا أنه لا يزور أحد تكبرًا واستعلاءً أو استنكافًا، ومن ذلك أيضًا أن يستنكف من جلوس أحد إلى جانبه من الفقراء، وممن هم دونه، أو أن يمشي معه أحد من الضعفاء أو المساكين، فهذه خصال تظهر على الجوارح من جراء ما في القلب من الكبر والتكبر والعياذ بالله - تعالى - من كل ذلك.
خامساً ــ الدواء والعلاج:
إن العجب هو سبب الكبر، ولكي يسلم الإنسان من هذا الداء، لابد له من الدواء، والدواء من هذا الداء يكمن في عدة أشياء:
1 ــ تذكر نعمة الله - تعالى - عليك:
و أن ما بك من النعم هو من الله - سبحانه -، فواجب عليك شكر المنعم، وعدم نسيانه، فإن شكرت فقد استبقيت النعمة، وإن كفرت وتكبرت فقد استعجلت العقوبة التي تحل بك.
2 ــ اقتد بسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -:
وإنك أخي في الله لن تفلح أبداً حتى تقتدي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وتتأسى به في حياتك، وهذا يقتضي أن تقرأ سيرته وتتعلم من سنته، عند ذلك ستجد أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يمر على الصبيان فيسلم عليهم وينطلق مع الأمة حيث شاءت ليشفع لها أو يقضي لها حاجتها وكان يخدم أهله في البيت ويحمل إليهم الحاجة وكان يتواضع للغريب والجاهل وطالب العلم، وقد تحدثنا عن بعض ذلك في اللقاء السابق، ففيما رواه الإمام مسلم في صحيحه برقم (876): (قَالَ أَبُو رِفَاعَةَ انتَهَيتُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَخطُبُ قَالَ فَقُلتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ رَجُلٌ غَرِيبٌ جَاءَ يَسأَلُ عَن دِينِهِ لَا يَدرِي مَا دِينُهُ قَالَ فَأَقبَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَتَرَكَ خُطبَتَهُ حَتَّى انتَهَى إِلَيَّ فَأُتِيَ بِكُرسِيٍّ, حَسِبتُ قَوَائِمَهُ حَدِيدًا قَالَ فَقَعَدَ عَلَيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَجَعَلَ يُعَلِّمُنِي مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ ثُمَّ أَتَى خُطبَتَهُ فَأَتَمَّ آخِرَهَا)، نعم صدق الله ((وإنك لعلى خلق عظيم)).
3 ــ تذكر الآخرة:
وهو العلاج الأهم أن يتذكر طالب العلم الآخرة ومآل الإنسان فيها، فإن كان من المتكبرين فإن مآله النار، وإن كان من الضعفاء المتواضعين فإن مآله الجنة. أخرج مسلم: (2847) في صحيحه سنده عن أبي سعيد الخدري قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((احتجت الجنة والنار، فقالت النار: في الجبارون والمتكبرون، وقالت الجنة: في ضعفاء الناس ومساكينهم، فقضى الله بينهما أنك الجنة رحمتي أرحم بك من أشاء، وأنك النار عذابي أعذب بك من أشاء، ولكليكما عليّ ملؤها)).
فانظر أخي في الله إلى أي دار تشتاق وتتمنى. اللهم اجعلنا من أهل الجنان، وسلمنا من النار يا رحمن.
4 ــ اعرف حقيقة النفس:
ولمعرفة حقيقة النفس: أمران اثنان:
أ ــ انظر إلى أول أمرك وإلى وسطه وإلى آخره:
فينظر في أول أمره ((من أي شيء خلقه، من نطفة خلقه فقدره))، فأول أمره نطفة مذرة وآخر أمره جيفة قذرة، ويحمل فيما بين ذلك العذرة، فإذا تفكر الإنسان إلى حقيقة نفسه وجد أن مآله إلى التراب، وأنه حقير، ولا يحسبن الإنسان أنه سيبقى إلى الدوام، ولذلك قال الله - عز وجل -: ((ثم إذا شاء أنشره))، أي مآله إلى الله تبارك و- تعالى -، ومن ثم ينظر الإنسان إلى ربه - تبارك و تعالى -، وذلك بالتفكر في آلاء الله - عز وجل - وعجائب صنعته، فيتفكر في الجبال والبحار، وفي نفسه كيف خلقه الله - عز وجل - وصوره إنسانًا فمن عرف حقيقة ربه عرف حقيقة نفسه، ومن عرف حقيقة نفسه حقًا عرف حقيقة ربه - تبارك وتعالى - كما قال بعض العلماء.
ب ـ عارض أسباب الكبر:
بأن يعارض أسباب الكبر، فإن كان سبب كبره الحسب والنسب فلينظر إلى أبيه كيف كان نطفة مذرة، فلينظر إلى أبيه وجده وجد جده، أين هم؟ أليسوا في التراب؟ فلربما من ترابهم صنع ما صنع من البنيان، فكذلك يذهب الإنسان الكبر بسبب الحسب والنسب.
وإذا كان الكبر بسبب الغنى فليتفكر الإنسان أن اليهود من أغنى العالمين، فيا لها من خصلة يسبق فيها الإنسان يهودي، ذمه الله - عز وجل -، فخصلة الغنى ربما تذهب بين عشية وضحاها، فإذا قدم سارق وسرق ماله أصبح صفر اليدين لا يملك ما يتكبر به.
وإذا تكبر بقوته وعظمته فليتفكر في الأمراض والعلل التي تنتابه، فإذا مرض وإذا أصابته حمى فإنه يصبح هزيلاً ضعيفًا، وإذا تعطل شيء من أعصابه أصبح لا يتحرك، وإذا كان الكبر بسبب العلم فليتفكر وليتنبه بأن للعلم تبعة، وأن الله - سبحانه وتعالى- يقضي يوم القيامة فيكون أول من يقضى عليه يوم القيامة رجل تعلم العلم ليقال عالم، وقرأ القرآن ليقال قارئ، فيكون أول المسحوبين على وجوههم في نار جهنم، ومن ثم يتفكر أيضًا أن الله - سبحانه وتعالى- يمقت المتكبرين، وأن الله - عز وجل - لا يحبهم ولا يوفقهم.
وقد ينسى الإنسان أنه مهما طال جسده وعظم، فإنه لا يستطيع أن يخرق الأرض، ولن يبلغ الجبال طولاً، وأن الشوكة تدميه، والذبابة تؤذيه، والأفعى تخيفه، وأن مصيره إلى الزوال ولو كشف عنه بعد موته لهالنا مرآه وحاله.
5 ـــ اقرأ سير الصالحين وتواضعهم.
وأنصحك في ذلك أن ترجع إلى الكتب الأمهات من أمثال كتاب: (الإصابة في تمييز الصحابة) وكتاب: (سير أعلام النبلاء) وكتاب: (صفة الصفوة) وكتب الحديث والتراجم ففيها الشيء الكثير من إبراز حياة الصالحين من هذه الأمة المرحومة.
6 ــ اترك الهوى:
وتواضع للدّين ولا تعارِضه برأي أو هوًى، ولا تعرِض عن تعلّمه والعمَل به، ومن أسدَى إليك نُصحًا فاقبَله واشكُر قائله، ومن أمرك بمعروفٍ, أو نهاك عن منكرٍ, فامتثِل لرشده، فالحظوة في التواضعِ للطّاعة.
يقول الفضيل - رحمه الله -: \"التّواضع أن تخضعَ للحقّ وتنقاد له\".
وقال رجل لمالك بن مغول: \"اتّق الله\"، فوضَع خدّه على الأرض.
ينسى بعض الناس هذا كله، فيتعاظمون في أنفسهم، ويأخذهم العجب بأجسادهم وألوانهم وامتداد قاماتهم وجمال ثيابهم، فإذا هم يمشون في الأرض مشية الخيلاء المتكبرين، وينظر إلى الناس نظرة احتقار وازدراء، ويظن نفسه خير الناس وهو أرذلهم.
سادساً ــ الخاتمة:
اعلم ــ أخي في الله ــ أنه مَن حمَل في قلبِه ولو شيئًا يسيرًا مِن الكبر حرُم عليه دخول الجنة، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يدخل الجنةَ من في قلبه مثقالُ ذرّة مِن كبر)) رواه البخاري. والنار دارٌ لهم، ((أَلَيسَ فِى جَهَنَّمَ مَثوًى لّلمُتَكَبّرِينَ)) [الزمر: 60]، ويقول - عليه الصلاة والسلام -: ((ألا أخبِركم بأهلِ النّار؟ كلّ عُتُلٍّ, جوّاظٍ, مستكبرٍ,)) متفق عليه، ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((احتجّت الجنّة والنّار، فقالت النّارُ: فيّ الجبّارون والمتكبِّرون، وقالت الجنّة: فيّ ضعفاء النّاس ومساكينهم)) رواه مسلم.
فانزَع عنك رداءَ الكبر والتعاظم، فإنهما ليسا لك، بل هما للخالق، والبَس رداءَ الانكسار والتواضع، فما دخل قلبَ امرئٍ, شيءٌ من الكبر قطّ إلا نقَص من عقلِه بقدر ما دخل من ذلك أو أكثر. ومنشأ هذا مِن جهلِ العبدِ بربّه وجهله بنفسه، فإنّه لو عرف ربَّه بصفاتِ الكمال ونعوت الجلال وعرف نفسَه بالنقائص والآفاتِ لم يستعلِ ولم يأنف، يقول سفيان بن عيينه - رحمه الله -: \"مَن كانت معصيّته في الكبرِ فاخشَ عليه، فإبليس عصى متكبِّرًا فلُعِن\".
والعذاب يقع على من تغلغَل ذلك في قلبه، وتكون خفّته وشدّته بحسَب خفّتها وشدّتها، ومن فتحها على نفسه فتح عليه أبوابًا من الشرور عديدة، ومن أغلقها على نفسه فتِحَت له بإذن الله أبوابٌ من الخيرات واسعة.
والكبر المبايِن للإيمان لا يدخُل صاحبه الجنّة، كما في قوله - تعالى -: ((إِنَّ الَّذِينَ يَستَكبِرُونَ عَن عِبَادَتِى سَيَدخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ)) [غافر: 60]. ومِن الكبر ما هو مبايِن للإيمان الواجِب، بل كبرُه يوجِب له جحدَ الحقّ واحتقارَ الخلق، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يدخل الجنّة من في قلبه مثقالُ ذرّة من كبر))، قالوا: يا رسول الله، إنّ الرجلَ يحبّ أن يكونَ ثوبه حسنًا ونعله حسَنة، قال: ((الكبر بطرُ الحقّ وغَمط الناس)) رواه مسلم.
ولا تفخر على أحدٍ, فدنياك زائلة، يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((حقُّ على الله أن لا يرتفِع شيءٌ من الدّنيا إلا وضعه)) رواه البخاري.
أسأل اللهَ العظيم رب العرش العظيم أن ينفع بهذه المقالة طلبة العلم وإياي أيضاً إنه هو السميع العليم، وأن يجعلها في قلوبنا، وأن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.
اللهـم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله وصحبـه أجمعين، وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد