بسم الله الرحمن الرحيم
فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، العليم الحكيم، و أصلي و أسلم على نبينا محمد وعلى آله و صحبه و التابعين، و من على نهجه سار إلى يوم الدين.
أما بعد:
إن طلب العلم من أشرف ما اشتغل به المسلم، و من أنبل ما قصده صفيٌ أفخم، فمناقبه كثيرة، و فوائدة غزيرة.
و لا يخوض غمار الطلب إلا رجل آتاه الله الحكمة، و اختصه بالفطنة، و لا يكاد يُحجِمُ عنه إلا من بوأه الله مقام الخذلان، وأصابه بقارعة من الهوان.
أخي الفاضل: هذه كلمات هُنَّ مقدمات في سبيل الطلب، أنلتُكَ إياها بلا تعب، فخذها منيº لك غُنمُها، و علي غُرمُها، و لك خُلَّصُ فوائدها، و علي جائرة عوائدها.
محضت لك فيها النصح، و صدقتك فيها التوجيه، فضيِّفها لديك في أحسن تضياف، و تمعنها برفق لا اعتساف.
المقدمة الأولى: للعلم أصوله و قواعده:
إن العلم _ كما هو مقرَّر لدى كثير من العلماء التربويين _ له أصوله و قواعده فلا يقوم أساسه إلا بتلك القواعد، و لا يعتبر تفريعه إلا عن تلك الأصول، قال الماوَردِي: (اعلم أن للعلوم أوائل تؤدي إلى أواخرها، و مداخل تُفضي إلى حقائقها، فليبدأ طالب بأوائلها لينتهي إلى أواخرها، و بمداخلها ليُفضي إلى حقائقها، و لا يطلب الأخر قبل الأول، و لا الحقيقة قبل المقصد، فلا يدرك الآخر و لا يعرف الحقيقة، لأن البناء على غير أُسٍ, لا يُبنى، و الثمر من غير غرس لا يُجبنى) [أدب الدنيا و الدين (55)].
فأصول العلم و قواعده التي تعارف عليها العلماء هي تلك الكتب الصغار المسماة بالمتون، فمن حازها حاز الفنون، و من أدركها أدرك علماً غزيراً.
و التدرج في الطلب ثلاثة أنواع:
الأول: تدرج في الفنون، فيبدأ الطالب بالفن الأهم قبل المهم كـ (العقيدة) قبل (الفقه).
الثاني: تدرج في المتون، فيبدأ بالمتون الصغار قبل الكبار، و ليحذر الدخول من الظهور.
الثالث: تدرج في دراسة المتن، فلا يبدأ بدراسة المتن دراسة توسعٍ, و بحث و هو ما زال في أوائل طريق الطلب لا يعرف أصول الفن و مقاصده.
المقدمة الثانية: طرق تحصيل العلم:
سلك العلماء في قديم الزمان و حديثه في طلب العلم مسالك عِدَّة منها:
أولاً: الحفظ: و هذا مسلك سار عليه كثير من أهل العلم و أبدعوا فيه: تأصيلاً له، و عملاً به، و دعوة إليه.
قال الخليل بن أحمد الفراهيدي:
ليس علماً ما حوى القِمَطرُ *** إنما العلم ما حواه الصدر
فائدة: ليس ثمة تعارض بين الحفظ و الفهم، فهما رضيعا لبان، و فرسي رهان في حال الطلب و شأن الطالب.
و هذا تحرير متواضع لهما:
مسألة الحفظ و الفهم من المسائل المهمة في سلك الطلب..
و لا بد للطالب من مراعاتهما رعاية تحفظ مقامهما، و شأنهما
و ذلك من خلال أمور:
الأول: الوقت المناسب لهما:
الحفظ أغلب ما يكون الاشتغال به في زمن الصبا (و أعني: الإكثار من المحفوظ).
و الفهم أغلب وقته هو حال الكبر لتفتح الذهن.
و لا يعني ذلك أن الفهم يُغفل في حال الصغر.
ولا أن الحفظ يهمل في سن الكبر.
لا، و إنما المراد هو إعمال كل سن بما يكون الإقبال عليه أكثر كما مر تقريره.
الثاني: ما يُعمل في كلا منهما:
أغلب ما يكون الاشتغال بالمحفوظ في أمور:
أحدها: النصوص الشرعية التعبدية.
ثانيها: ما يكثر الاستدلال به و الاحتجاج من العلم.
ثالثها: التعاريف و الضوابط.
و الجامع لهذين هو أغلب علم الغاية.
و أغلب ما يكون الفهم في أمورٍ, تحتاج إلى تبصر و تعقل فهذه لا تحتاج إلى حفظ أكثر من احتياجها إلى الفهم و التدبر.
الثالث: الفهم هو تفتيق للذهن و إعمال لوظيفته فلا يجوز للطالب أن يغفله أو يهمله:
و هو صعب في أوله لكنه مع الإدمان و الدربة يسهل.
و الحفظ هو تكرار لمحفوظ فلا ينفع صاحبه إلا في جزيئة صغيرة.
هذا إذا لم يكن ثمة فهم يصاحبه.
فإن صاحبه فهم فهو من أحسن ما يكون.
ثانياً: القراءة على الشيوخ: و هذا أساس العلم و قاعدته، و به يُوثَقُ بعلم الرجل.
و القراءة على الشيخ مقام رفيع، و مكان منيع.
وللقراءة على الشيخ أصولاً مهمة:
1- أن يكون الشيخ من أهل العلم و الاعتقاد الصحيح، فإن للشيخ تأثيراً على طلابه قوياً.
2- أن يكون الشيخ عالماً بالفن الذي يُقرأ عليه فيه.
3- أن يكون على جانب كبير من الأخلاق و الفضائل.
4- أن يكون عارفاً بأصول التعليم، فلا يبدأ بالطالب من كبار المسائل، و لا يدخله في متاهات الخلاف.
ثالثاً: القراءة الفردية: و هي مُكَوِّنَةِ علم الرجل، و مُنضِجَة فكره.
و بها تمدَّح العلماء، و بفضلها ترنحوا، و هي على أقسام ثلاثة:
الأول: القراءة التأصيلية: و هي القراءة التي يعتمد فيها على التركيز والتمعن، و هي في نوعين من الكتب:
1- شروح المتون: فإن التركيز عليها حال قراءتها من مطالب التأصيل و التأسيس، و بها يكون الطالب على إلمام كبير بمقاصد المتن.
2- كتب العلم (الشرعي) و هي التي يكون فيها التحصيل العلمي، مثل كتب: الاعتقاد، الفقه، الحديث، الأصول، المصطلح، النحو....
الثاني: القراءة الجردية: و هي تعني أن هناك كتباً تقرأ قراءة فيها نوع من التركيز والتفهم، و لا تحتاج إلى إعمال الفكر والعقل في عباراتها، و هي في نوعين من الكتب:
1- المطولات: و هي الكتب ذات المجلدات الكثيرة، و هي لا تستدعي التوقف عندها والتفكر لمعانيها، إنما تقرأ لبحث، أو غيره من الحاجات .
مع أن المتعيِّن على طالب العلم أن يقرأ بها ولكن بعد إدراكه أصول العلم.
2- كتب التكميل العلمي: و مرادي بالتكميل العلمي: هو تحصيل الطالب علماً ليس أساساً في تكوينه علمياً و تأصيله فيه، بل هو من مكملات ثقافته و علمه.
و علومه: التأريخ، التراجم، الأدب، اللغة...
الثالث: القراءة الموسمية: و هي القراءة التي تكون في مناسبات و أوقات، و هي نوعان:
1- قراءة في المواسم العبادية: كقراءة كتب الحج قبل الحج، و الصيام قبل الصيام، و النكاح قبل النكاح، و البيوع قبل البيع و الشراء.
2- القراءة في أحكام النوازل: و هي القراءة في الكتب التي ألفت في أزمنة من أزمنة المسلمين التي حلت فيهم نازلة و كارثة كغزوة أشكلت عليهم، و هكذا.
المقدمة الثالثة: العلم قسمان:
علم الغاية خمسة علوم:
1- القران (التفسير).
2- الفقه.
3- الحديث.
4-العقيدة.
5- السيرة.
و علوم الآلة:
1- أصول الفقه.
2- القواعد الفقهية.
3- المصطلح.
4- أصول التفسير.
5- اللغة:
أ - النحو.
ب_ الصرف.
ج _ البلاغة.
المقدمة الرابعة: في تقييد الشوارد:
يحظى الطالب و هو في مضمار الطلب بفوائد نفيسات، و فرائد بديعات، و حكمة في غير مظانها، و قاعدة في غير محالِّها، و غالب الإخوان لا يعير تلك الفوائد اعتباره، و لا يصرف لها فضول أنظاره، فتفلت منه على غير عودة، و تذهب على غير أوبة، فتلحقه حين أرادته لها الحسرة، و تزعجه من أجلها الفكرة.
و حتى يتفادى الطالب تلك المزالق، هذه جملة من طرائق تقييد الفوائد:
1- على طُرَّة الكتابº أي على باطن جلدته.
2- على دفاتر خاصة (لكل علم دفتر).
3- على بطاقات البحث.
و يلاحظ فيها: عنونة الفائدة.
هذه جملة المقدمات الممهدات للطلب العلم الشرعي، و هن أسس لكل طالب علم. و الكلام في العلم يطول، و الحديث فيه و عنه ذو شجون، و لكن حسب اللبيب الإشارة، و يكفي المعصم من السوار ما به أحاط.
فلتكن منك على بال، و حرص على اغتنام العمر في سبيل العلم و تحصيله.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد