العيــد آمــــال وآلام


بسم الله الرحمن الرحيم

 

ثمة أمور طبيعية تمر بالإنسان، وتحدث تغييرًا في حياته، وأثرًا في سلوكياته، ولا إشكال فالإنسان روح ينبض بالعواطف الجياشة، والأحاسيس المرهفة لذلك تراه يلهج بلسانه عما تفيض به نفسه، وتجيش به خواطره.

ومما يرجع بالإنسان إلى الوراء ليذكر تاريخًا مضى بخيره وشره، وحلوه ومره، المناسبات على اختلاف مضامينها سواءً كانت مناسبات فروح وسرور أو مناسبات حزن وثبور، فالأعياد مثلاً تحدث في النفس الإنسانية أحاديث ذات شجون، وكلُّ يتحدث عما يختلج في صدره من آلام وآمال ليفرغ في دنيا الناس ما يحس به ويتلجلج بين ثنايا ضلوعه.

 

ولقد سجلت أقلام الشعراء كلماتٍ, بهذه المناسبة التي تمر على المرء كل عام، تعود عليه كلما الهلال بدا للناس وطلع، وكلٌّ يكتب عما يتردد في صدره ويشاهده ببصره.

 

ولقد سطر يراع شاعرين من الشعراء ما اختزناه في صدريهما من آلام وآمال أما الشاعر الأول فهو عبد الرحمن العشماوي الذي يكتب قصيدته (عندما يحزن العيد) راثيًا فيها الأمة الإسلامية بما يشاهده من حالتها، وأما الشاعر الثاني فهو الشهيد عمرو خليفة النامي الذي كتب قصيدته (يا ليلة العيد) بين قضبان السجون وصوّر فيها ما يعانيه وأحباؤه من مأساة الظلم والطغيان.

 

(عندما يحزن العيد) يصور الشاعر كيف تستقبل الأمة عيدها وهي في حالة يرثى لها، فيقول - وهو بين الحزن الذي يخيم على قلبه، والهم الذي يجثم قلبه بسبب الأحداث التي عصفت على الأمة الإسلامية.

 

أقبلت يا عيد والأحزان نائمـة ***على فراشي وطرف الشوق سهران

 

من أين نفرح يا عيد الجراح وفي ***قلوبنا من صنوف الهم ألـــوان؟

 

من أين نفرح والأحداث عاصفة ***وللـدٌّمـى مـقـل ترنـو آذان؟

 

ثم ينتقل شاعرنا غلى الجرح الذي لم يندمل، والذي يؤرق ضجيج الأمة الإسلامية ألا وهو جراحات مقدساتها العظيمة التي سلبها عدوّها لما نام عنها راعيها من المسلمين فقال:-

 

من أين والمسجد الأقصى محطمة ***آمالـه وفؤاد القـدس ولهـا؟

 

من أين نفرح يا عيد الجراح وفي ***دروبنا جدر قامـت وكثبـان؟

 

من أين والأمة الغـراء نائمـة ***على سرير الهوى والليل نشوان؟

 

إنه الذل الذي تربع في بلادنا... إنها المهانة والاستكانة من الأمّة لعدوّها... إنه الخسران الذي ظنت الأمة فيه أنه الربح الكبير.

 

من أين والذل يبني ألف منتجع ***في أرض غرتنا والرخ خسران؟

 

- وبعدها يشتاق قلب الشاعر إلى إخوانه وأحبائه وأهله إلى كل من لم يطعم الراحة والهناء تحت ظل الأمة الإسلامية ليواسيهم، ويواسي جراحات قلبه وآلام نفسه فيقول:-

 

من أين نفرح والأحباب ما اقتربـوا ***منا ولا أصبحوا فينا كما كانوا؟

 

يا من تسرّب منهم في الفؤاد هـوى ***قامت له في زوايا النفس أركـان

 

أصبحت في يوم عيدي والسؤال على ***تغري يئن وفي الأحشاء نيــران

 

أين الأحبـة.. لا غيـم ولا مطـر ***ولا رياض ولا ظـل وأغصـان؟

 

أين الأحبـة لا بـدر يلـوح لنـا ***ولا نجوم بها الظلمــاء تـزدان؟

 

أين الأحبـة وارتـد السـؤال إلى ***صدري سهامًا لها في الطعن إمعان

 

نعم ارتد السؤال غمًّا وهمًّا غلى صدره الذي يمتلئ بالآلام والجراحات ارتد السؤال لما لم يجد موضعًا له ولا محلاً لعله يشفي صدر صاحبه ويخفف من آلامه وهمومه.

 

أما شاعرنا الثاني فهو الشهيد الدكتور عمرو خليفة النامي، هذا الرجل الذي ثبت في وجه التحدي الظالم من قبل السلطات الغاشمة في بلاده، واضطهدته مرارًا لتنفيه من بلاده مرتين وتسجنه، ثم بعد رجوعه إلى بلده أراد الانعزال والعيش في الجبال مع شويهات يرعاهن ليذوق طعم الحرية، ولكن الشرطة الغشيمة لم يهدأ لها بال بوجود هذا الرجل المفكر فداهمته في الصحراء وزجت في في غياهب السجون، ولا يدري اله بعد ذلك، وانقطع خبره عن الأنام، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

 

لقد عاشر هذا الشاعر خلف قضبان السجن عيشته ملؤها التفاؤل والانتصار وهو مع ذلك تمتزج في نفسه آلام الغربة والعزلة عن الأحياء، والبعد عن أبناءه وأهلهن وقد صوّر كل ذلك في قصيدته التي سميت ب (يا ليلة العيد).

 

فإذا جئنا لقصيدته نرى من أول وهلة الفطرة النظرة التي ينظر إليها في وقته، والحالة التي يعيشها فهو قد انسدت في وجه آماله جميع الطرق، وتبلدت ساء الرجاء عند بغيوم الظلام،وفرق إعصار الهموم سحب الخير التي يرجوها في نفسه ويطمع تحقيقها في حياته، فلم يتنعم بأن تنزل عليه أ/طار آماله التي يحلم بها في حياته، والتي رسخت في نفسه تحقيقها، فيقول

 

حُمَّ القضاء وسُدّت دونك الطرق ***وغصن بالغيم في أجوائك الأفق

 

وبدو السحب إعصار الهموم فلم ***يجد عليك بها طل ولا غـدق

 

ومما يبين لنا أن نظرته ممتزجة بالتفاؤل والفجر المشرق قوله:

 

كنا نؤمل فجـرًا مشـرقًا غـده ***فقد أطلّ كئيبًا بعده الشفـق

 

ما كنت أحسب أن الحزن يغمرنا ***وأننا بعد طيب العيش نغتـرق

 

وأن دهـرًا أمِنَّا مـن حوادثـه ***جاءت بوادره كالسيف يمتشق

 

وينتقل شاعرنا ليصور حالة إخوانه وأحبائه المخلصين في حبه الذين جاهدوا لإخراجه مما هو فيه من معاناة وظلم وقهر، فصوّر حالهم وهم يطوفون بكعبة السلطان حتى ذابت نعالهم، وأدمنوا قرع الأبوب لعلّ من يجيبهم بالرجاء والأمل.. ولكن يجيب ويرد عليهم الظلم والشر لأهل الخير عندنا...

 

ذابت نعال أحبائــي ورفقتهـم***من الطواف وغصت منهم الطرق

 

طافوا على كعبة السلطان في أمل***ويمحوا بابه الموصـود واستبقـوا

 

وأدمنوا قرع أبواب الرجاء فقـد***كلّت أكفهم من طول ما طرقـوا

 

ولا مجيب فما بالدار من أحـد ***فالظلم يغمرنا والطيـش والـنزق

 

كنا نظن بهم خيرًا فقد حبسـوا ***ما نرتجيه، هـم بالشرق سبقـوا

 

وبعهدها يفدي الشاعر نفسه لأحبائه الذين عصفت بهم وبه الدواهي الحارقة التي حطمت شواهق آماله في هذه الحياة، يفدي نفسه ردًّا للجميل الذي قام به هؤلاء الإخوان المخلصون فيقول:-

 

نفسي فداء أحبائي فقد عصفت ***بهم وبي خلجات كلها حرق

 

إنها الحياة بئيسة بغيضة مع قيد حركة الإنسان، وكبت حريته ولا أدل على ذلك ممن يعش بين قضبان السجون الحديدية التي تحيط به، فالقيود تكبل رجليه ورسغيه،فلا حركة في الظاهر،ولا حركة له في باطن نفسه فقد حطمت نفسيته، وهدَّمت آماله فصار كالخامل الذي لا حراك له.

 

ولم يقتصر القيد بأن يكون في رجله بل وصل إلى أحبائه وإخوانه فكبلهم وقيّد حركتهم،وحكم أمنياتهم ورجاءهم فيقول في ذلك:-

 

أنـا هنـا قضبـات تقيدنـي ***قلبي حزين وجفني غائم شرق

 

وهم على البعد في قيد يكبلهم ***من شوقهم، ودموع العين تأتلق

 

نذوب شوقًا وحزنًا لا رجاء لنا ***إلا إلى الله ير بعض ما فتقوا

 

وما أشد ما يلاقيه الشاعر وهو في زنزانة ضيقة يطوف بخاطره وخياله صورة أطفاله وأبنائه،وهم ينتظرونه على أحر من الجمر، وذلك في ليلة العيد اشد واشد، حتى يصور الشاعر نفسه كأنه يبصر أولاده وأبنائه، والدمع ينهمر من أعينهم شوقًا غليه، فكيف تكون فرحة الأطفال بالعيد والآباء تحت السلاسل والقيود؟ž.

 

وما كان في خلد الإنسان أن الحياة ستصل به إلى هذه الدرجة من العناد والشدة وأن يمر العيد عليه والقيد في الرسغ والأبواب تصطفق.

 

يا ليلة العيد كم أقررت مضطربًـا ***لكن خط الحــزن والأرق

 

أكاد أبصرهم والدمع يطفر مـن ***أجفانهم ودعاء الحـب يختنـق

 

يا عيد، يا فرحة الأطفال ما صنعت ***أطفالنا نحن والأقفـال تنغلـق

 

ما كنت أحسب أن العيد يطرقنا ***والقيد في الرسغ والأبواب تصطفق

 

حقًا... إنها مشاعر جياشة تثور مع عودة مثل هذه المناسبات والذكريات الغالية على المرء، ليلهج اللسان بعدها بأن الأمر لله من قبل ومن بعد، والله ولي التوفيق.

 

 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply