بسم الله الرحمن الرحيم
في موسم جديد من مواسم العلم والمعرفة، يستعد له كل بيت، يتجه ملايين الطلاب والطالبات إلى قاعات الدارسة، وهي مناسبة طيبة وسعيدة لا بد لنا أن نستثمرهاº لتكون لنا فيها وقفات.
إن فضل العلم والتعلم في الإسلام كبير وعظيم، فالعلم أشرف ما رغب فيه الراغب، وأفضل ما طُلِبَ وجد فيه الطالب، وأنفع ما كسبه واقتناه الكاسب، فقد أخبر المولى - سبحانه وتعالى - ونبه من فوق سبع سماوات على شرف أهله ورفعتهم عن سائر خلقه فقال: ( يَرفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ دَرَجَاتٍ, ) المجادلة: 11, واستشهدهم على أجل مشهود ( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُو العِلمِ قَائِماً بِالقِسطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) آل عمران:18. وميزهم عن غيرهم ( قُل هَل يَستَوِي الَّذِينَ يَعلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلبَابِ ) الزمر: 9.
إنه ليس مصادفة أن كانت أول آيات القرآن نزولاً: ( اقرَأ بِاسمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنسان مِن عَلَقٍ, * اقرَأ وَرَبٌّكَ الأَكرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَم * عَلَّمَ الإنسان مَا لَم يَعلَم ) العلق: 1- 5. وفيها تكررت الكلمات الدالة على العلم ثلاث مرات أكبر.
ومن فضل العلم أن الله جعله في مقام المنة والنعمة التي يمتن بها على عباده: ( وَعَلَّمَكَ مَا لَم تَكُن تَعلَمُ وَكَانَ فَضلُ اللَّهِ عَلَيكَ عَظِيماً ) النساء: 113. وقال - جل وعلا -: ( وَاللَّهُ أَخرَجَكُم مِن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُم لا تَعلَمُونَ شَيئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمعَ وَالأَبصَارَ وَالأَفئِدَةَ لَعَلَّكُم تَشكُرُونَ) النحل: 78.
إن المولى - سبحانه وتعالى - زودنا بالوسائل الضروريةº لتحصيل العلم, وأرشدنا للسعي في تحصيله والاستزادة منه، بل وأمر أكثر الناس علماً بالتزود منه، فهو - سبحانه - لم يأمر نبيه بالاستزادة من شيءٍ, إلا العلم ( وَقُل رَبِّ زِدنِي عِلماً ) طـه: 114. وحسبك من العلم أنه مال من لا مال له, ومهر من لا مهر له، وفداء من لا فداء له، فوقائع السيرة النبوية تشهد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل فداء أسارى بدر بأربعة آلاف عن كل رقبة، وأما من كان غير مالك للمال ممن كانوا يعرفون القراءة والكتابة فقد جعل فداءهم الذي يبذلونه لفك رقابهم أن يعلِّم كل واحد منهم عشرة من المسلمين، وما ذاك إلا لأهمية العلم في الإسلام، ولعل هذا يدلنا على حرصه عليه الصلاة والسلام على تحصيل هذه المصلحة عبر الاستفادة من كل طريق متاح، حتى وإن كان يفضي للتعامل مع هؤلاء المشركين طالما أن الأمر لم يترتب عليه ضرر يمنعه الشرع ويأباه.
إن العلماء بالله وشرعه هم ورثة الأنبياء كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فبالعلم يعرف الله ويعبد، ويسجد له ويُشكر،. وبالعلم صلاح أمر الآخرة، وبالعلم يصلح أمر الدنيا، كيف لا؟ وهو الذي به تتقدم الأمم وتنهض. ومن هنا فقد جعله المولى - سبحانه وتعالى - عبادة عظيمة زادت عن الجهاد، كما في الآية: ( فَلَولا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرقَةٍ, مِنهُم طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ) التوبة: 122.
وقد ثبت في السنة النبوية أن العلم مقدم على العبادة وأن العالم مفضل على العابد، فعن أبي أُمامة البَاهِلِيِّ قال: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا عَابِدٌ وَالآخَرُ عَالِمٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ( فَضلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضلِي عَلَى أَدنَاكُم ) رواه الترمذي (2685). وفي رواية أخرى (... وَإِنَّ فَضلَ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضلِ القَمَرِ لَيلَةَ البَدرِ عَلَى سَائِرِ الكَوَاكِبِ... ). رواه أبو داود (3641) بسياق أطول من هذا، واللفظ له، وابن ماجة (223).
إن نفع العبادة مقتصر على أهله، وأما نفع العلم فإنه يتعدى إلى غيره، والعبادة من غير علم قد تضر صاحبها ولا تنفعه، فبالعلم تصلح العبادة، ولذا كان طلبه فريضة على كل مسلم كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا ما يُعرف بالعلم الضروري وهو ما احتاج إليه الإنسان وبفقده لا تقوم لعباداته قائمة، و أما ما زاد على ذلك من أصناف العلم فهو وإن كان نافلة لكنه أفضل من سائر النوافل.
ومن فضل العلم أنه مقياس يقاس به الرجال ويعرف به الحق, وتميز به الأمور، ولذا يقول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: ( قيمة كل امرئ بما يحسن ) وقال مصعب بن الزبير لابنه: ( تعلم العلم فإن لم يكن لك مالٌ كان جمالاً وإن لم يكن لك مالٌ كان لك مالاً ). وقال الإمام الشافعي - عليه رحمه الله -: ( من تعلم القران عظُمت قيمته، ومن تعلم الفقه نَبُلَ مقداره، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن تعلم الحساب جزُل رأيه، ومن تعلم العربية رقَّ طبعُه، ومن لم يُعن نفسه لم ينفعه علمه ). وقال عبد الملك بن مروان لبنيه: يا بني تعلموا العلم فإن كنتم سادة فقتم، وإن كنتم وسطاً سدتم، وإن كنتم سدنة عشتم، العلم أفضل خلف، والعمل به أكمل شرف. وحسبك من العلم أن سائر الأمم ميزت النابغين والموهوبين والأذكياء المعدودين، ولم تميزهم إلا بمزيد من العلم لمصلحة أمتهم ورقيها في سائر النواحي.
غداً عام جديد وقد سمع أبناؤنا الطلاب عن فضل التعليم والتحصيل وعن أهمية العلم وشرفه الرفيع فنقول في وصيتنا لهم أن عليهم أن يجعلوا عامهم عام جد ومثابرة وتحصيل، وذلك بترتيب أوقاتهم ونظم ساعاتهم والقيام بواجباتهم, واحترم معلميهم وبذاك يستفيد الطالب.
كما أن على الأبناء ترك الكسل, والخمول،ومفارقة السهر والمجون، وعليهم بالنشاط من أجل العلم والتحصيل، و عليهم بأن يقصدوا نفع أنفسهم, وأمتهم ابتغاء لمرضاة الخالق الذي أمر بالتعلم.
وللمعلمين نقول: أنتم على أمانة عظيمة ومسئولية جسيمة استودعتكم الأمة أغلى ما تملك. فاخلصوا لله أعمالكم وأدوا أماناتكم، واجتهدوا في تعليم العلم وتحبيبه للطلاب وتقريبه بالأمثلة والعظات، وعاملوا طلابكم كما تعاملون أبناءكم، وعلموهم العمل مع العلم، واهتموا بالتربية مع التعليم، وبالإخلاص مع التحصيل، علموهم التعاون, وحب المسلمين، وأرشدوهمº لضرورة مراعاة حقوق الآخرين، وخاصة حقوق الوالدين والأقارب والمعلمين والجيران وكافة المسلمين، بل حتى حقوق غير المسلمين عليهم بمراعاتها. كونوا لهم القدوة، ويا له من أجر عظيم، لمن أتقن العمل وقام بواجب التعليم، وأخلص لله في السر والإعلان.
عالجوا عيوبهم وأخطاءهم بالرفق واللين، وكونوا بهم رحماء ومشفقين، وكونوا لهم كالطبيب المداوي لا الخصم المعاقب، وليكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدوتكم، والقران الكريم إمامكم.
وعليكم بالصبر والحلم. علموهم الإخلاص لله وأدبوهم بالحياء ووجهوهم بالمعروف وعلموهم الإحسان إلى الخلق والرحمة بهم والصفح والغفران، وكونوا دعاة للخير ( وَمَن أَحسَنُ قَولاً مِمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسلِمِينَ ) فصلت: 33.
وللآباء نقول: كونوا مع أبنائكم، ساعدوهم بالتوجيه ولا تفسدوهم بالترف، ووفروا لهم الجو الدراسي الملائم، وتتبعوهم بزيارة مدارسهم من أجل الوقوف على أحوال سيرهم فيها.
إن أبناءكم أمانة لديكم، مروهم بالصلاة، وعلموهم الاهتمام بالواجبات وتنظيم الأوقات, اهتموا بشئونهم وأسئلتهم، نموا مواهبهم, واكتشفوا ميولهم, وتمموا مداركهم، واغرسوا في قلوبهم تقوى الله – تعالى -, ومحبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعودوهم العمل الصالح، وحببوا لهم العلم النافع.
ولمديري المدارس، وللموجهين، والوكلاء، والمرشدين، والمشرفين أقول:
أنتم على ثغرة عظيمة، ومسئولية جسيمة، فالله الله في أبنائنا، أخلصوا أعمالكم لربكم واحفظوا أماناتكم، فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، إن مستقبل الأمة بين أيديكم، دلوا المخلصين الأكفاء، ووجهوا المخطئين، وحاسبوا المقصرين، فالأمر جد خطير، فهي والله أعظم أمانة والحمل ثقيل: ( إِنَّا عَرَضنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَالجِبَالِ فَأَبَينَ أَن يَحمِلنَهَا وَأَشفَقنَ مِنهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) الأحزاب: 72. وفي كل ذلك فعليكم أن تستصحبوا معكم العدل, والإنصاف والخوف من الواحد القهار.
ومما يجب التنبيه عليه ونحن في بداية العام الدراسي: أننا حينما نشتري لأبنائنا ما يشاءون من معدات وأدوات وكتب وكراسات وشنط وأقلام يجب أن لا ننسى أن هناك من أقعدته الظروف وكبلته الفاقة فهو يعجز عن الإيفاء بتلك التكاليف، ويصبح في موقف صعب مع أبنائه بسبب الفقر وقلة ذات اليد. وكلنا يعلم فضل إعانة المحتاجين من إخواننا وجيراننا، فهو والله من أقرب القربات، وأعظم ما يقوي العلاقات، لا سيما إن كان من أجل معاونة الآخرين على تعليم أبنائهم وتربيتهم.
لقد قامت بحمد الله - تعالى - عدة جمعيات خيرية، تلمست حاجات الفقراء، وشعرت بما يعانونه فاشترت ما يحتاجون إليه، لكنها رغم ما تبذله من جهد طيب, ومبارك إلا أنها تنتظر مشاركات المحسنين, ومعونتهم، فعلى أهل الأموال أن يتقوا الله ويعينوا إخوانهم المحتاجين.
وكان الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
( وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِن خَيرٍ, تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيراً وَأَعظَمَ أَجراً )المزمل: 20.
نسال الله للجميع العون والتوفيق والسداد
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد