اشتعلت نيران الصراعات في غرب وشرق ووسط وشمال إفريقيا بعد أن تزايد الاهتمام الأمريكي بالقارة الإفريقية، وذلك بعد تحضير قامت به أجهزة الكيان الصهيوني لتمهيد الأرض وفتح الثغرات في حائط النفوذ الفرنسي المهيمن على تلك المناطق "أو معظمها" بعد أن ارتضت "بريطانيا العظمى" بدور الوكيل للإمبراطور الأمريكي أو الشريك الأصغر والمحدود في بعض الحالات، وقد تأكد هذا التوجه الأمريكي بعد أن عرقلت المقاومة العراقية.. أو بالأحرى أفشلت الخطة الأمريكية للهيمنة المنفردة والمطلقة على نفط العراق والخليج العربي عموماً، وبعد أن نجح المخطط الأمريكي في شرق إفريقيا "القرن الإفريقي" وجنوب السودان وحقق نجاحات نسبية في شمال و شمال غرب القارة الإفريقية.
في هذا الإطار العام يمكن فهم الصراع الدائر في ساحل العاج البلد الذي يحوي جميع المتناقضات التي يشتمل عليها كل بلد إفريقي نتيجة للتقسيم الذي رسم حدوده "الاستعمار" في عهد الإمبراطوريات السابقة وفقاً لمصالحه و نفوذه، وللإبقاء على ذريعة التدخل في كل المراحل، والتي عمل على تعميقها وإزكائها في مراحل ثورات وحركات التحرر في منتصف القرن العشرين.
يمكن فهم الصراع الدائر في ساحل العاج البلد الذي يحوي جميع المتناقضات التي يشتمل عليها كل بلد إفريقي نتيجة للتقسيم الذي رسم حدوده "الاستعمار" في عهد الإمبراطوريات السابقة وفقاً لمصالحه و نفوذه
فهذا البلد الذي تتراوح التقديرات لعدد سكانه بين 5، 14مليون نسمة، 16 مليون نسمة يعيشون على 500، 322 كم مربع، ويمثل سكانه حوالي 60 إثنية منها ما يعود إلى أصول أوروبية، وبوركينية، ومالية، وليبيرية، وسورية، ولبنانية، وبالإضافة إلى الفرق الإثنية - اللغوية الأربع الرئيسة "الاكان، والكو، والماندي، والفولتايك" فهناك نحو60 لغة محلية.. إلا أن اللغة الرسمية للبلاد هي الفرنسية.
ورغم عدم اتفاق الإحصائيات، وتفاوت نسبة المسلمين فيها إلى عدد السكان، فإن أقرب هذه الإحصائيات "عام 2003 م" ترصد أن المسلمين يشكلون 65 % من السكان و المسيحيين 15%.. والبقية يتبعون عقائد وثنية محلية.
وتمثل قبائل "ماندي، ودولا، سينوفا" التي تسكن المناطق الشمالية في ساحل العاج معظم تعداد المسلمين فيها، بينما تمثل القبائل البدائية "أجني، أشانتي" معظم سكان مناطق الجنوب بالإضافة إلي قبائل أخرى، وهي قبائل وثنية.
ولعل موقع ساحل العاج يجعل منها مفتاحاً ضرورياً للسيطرة على غرب إفريقيا فهي يحدها من الغرب "ليبيريا وغينيا"، ومن الشمال "مالي وبوركينا فاسو"، ومن الشرق "غانا"، ومن الجنوب "المحيط الأطلسي"، ومن الناحية الاقتصادية فهي تمثل بوابة مثلى إلى أسواق "الاتحاد الاقتصادي والمالي لإفريقيا الغربية"و"المجموعة الاقتصادية لبلدان إفريقيا الغربية".. كما أن القوانين المعمول بها لتنظيم الحياة الاقتصادية تمثل أرضية ممهدة لرؤوس الأموال الأجنبية والبنية التحتية مؤهلة لخدمة هذا النمط من الاقتصاديات.
ويمثل النفوذ الفرنسي.. القوة الأجنبية الوحيدة في البلاد حتى وقت قريب.. والقوة الأساسية حتى الآن، فقد حافظ "هوفي بوانيه" أول رئيس للجمهورية على بقاء القوات الفرنسية في البلاد بعد الاستقلال "الأسمى" عام1960م، واستمر هذا الوجود العسكري الفرنسي على مدى الرؤساء الثلاثة الذين تلوه منذ وفاته في عام1993م. وقد تبعه "كونان بيريه"، وظل في حكم البلاد حتى أطاح به الجيش في عام 1999م، ثم (الرئيس الحالي) "لورنت جباجبو"، والذي تنتهي رئاسته عام 2005م.
المسلمون والمقابر الجماعية:
منذ عهد "بوانيه" الذي أقسم أمام بابا الفاتيكان على جعل بلاده كلها تحت إرادة الصليب، وتسويد فكرة تفوق الديانة الكاثوليكية على الديانة الإسلامية، وهو ما أعلنه أثناء بنائه لكنيسته الشهيرة في "ياموسوكرو"، وكل أشكال التمييز تمارس ضد المسلمين الذين يشكلون أغلبية سكان البلاد، فلا دعم للمؤسسات الدينية أو التعليمية، ولا اعتراف بالأعياد، ولا يسمح للعناصر الإسلامية بتبوء المناصب والمراكز العليا، إضافة إلى منع المسلمين من خوض انتخابات الرئاسة، كما حدث مع "حسن أوتارا" تحت دعوى افتقاده للأصول "الأفوارية"، والتي لا يعترف بها إلا لقبائل مناطق غير المسلمين.
وقد تجاوز الأمر هذه المظاهر فوصل إلى التنكيل بالمسلمين وحرق بيوتهم وأسواقهم، واغتيال الزعماء، وطرد عناصرهم من الجيش، بل وصل الأمر للقتل الجماعي، حيث اكتشفت بعثة الأمم المتحدة مقابر جماعية ذبح فيها أكثر من مئة مسلم في ساحل العاج.. الأمر الذي حدث على إثره محاولة الانقلاب عام2002م، والتي فشلت، إلا أنها أدت إلى انقسام البلاد، فسيطرت القيادات المسلمة في الجيش على شمال البلاد، حيث الأغلبية الإسلامية.
وقد كان ليأس الشماليين من أية احتمال لإحداث التغيير عن طريق الانتخابات، حيث طبق مبدأ إثبات الأصول العاجية على المرشحينº لإبعاد المرشحين الجادين عموماً والمسلمين على وجه الخصوص، وقد لعب "حسن أوتارا" الدور الرئيس في لجوء الشمال إلى التحرك العسكري بعد انتخابات عام 2000م التي واجهت أوسع الاعتراضات في تاريخ ساحل العاج ولم تعترف بنتائجها إدارة "بيل كلينتون"، واحتجت عليها الإدارة الفرنسية أيضاً.
ساحل العاج.. على خارطة الصراع الأمريكي الفرنسي:
على أرضية هاجس السيطرة الأمريكية المنفردة على مقدرات المعمورة تأتي المخططات الأمريكية لإحلال النفوذ والمصالح الأمريكية محل نفوذ ومصالح الإمبراطوريات القديمة، وبعد أن توصلت مع البريطانيين منذ عهد تاتشر إلى صيغة "مؤقتة أمريكياً" تعطي للإرادة الأمريكية الكلمة الأعلى، وتشرك البريطانيين بقدر في الكعكة لم يعد أمام الإمبراطور الجديد سوى مناطق النفوذ الفرنسية المدعومة أوروبياً.
كما شكلت سلبية النتائج في العدوان على أفغانستان والعراق وضيق مساحات المناورة على الساحة الآسيويةº نظراً لوجود مصالح حيوية لقوى إقليمية عالمية التأثير "الصين، روسيا، الهند، اليابان" عاملاً دافعاً للإدارة الأمريكية لتقديم ترتيب خطط الهيمنة على إفريقيا " في إطار خططها للهيمنة علي القوى الصاعدة في النظام الدولي" في الأجندة الأمريكية.. خاصة بعد النجاح الأمريكي في القرن الأفريقي بالاتفاق مع إريتريا وأثيوبيا وجيبوتي في ديسمبر2002م على السماح للطائرات الأمريكية بالتحليق فوق أراضيها، وإمدادها بالمعلومات العسكرية، والسماح للبحرية الأمريكية بحرية الحركة، كما أثرت النتائج السلبية للعدوان على العراق في ارتفاع الأهمية النسبية للنفط الإفريقي، والذي يقدر ب80 مليار برميل، وهو ما يقدر ب 8% من الاحتياطي العالمي "وفق تقديرات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية"..
وتفيد الدراسة التي أجرتها "المجموعة الوطنية لتطوير سياسة الطاقة في واشنطن عام 2002م" أن الولايات المتحدة سترفع نسبة وارداتها من النفط الإفريقي من 16% إلي 25% بحلول العام 2015م، وذلك يعني في حال سيطرتها على نفط العراق ومخزونات النفط الإفريقي أنها ستتحكم في اقتصاديات الدول المنافسة خاصة أوروبا واليابان.. فضلاً عن تحكمها في الاقتصاد العالمي.
الدور الصهيوني في المخطط الأمريكي:
لعل ما ذكرته وسائل الإعلام الفرنسية عن العناصر الصهيونية الذين كانوا يديرون مركز الاستخبارات والتنصت في "أبيدجان" عاصمة ساحل العاج، والذين قادوا عملية الغارات الجوية على القاعدة الفرنسية بمدينة "بواكييه" الشمالية.. وصفقات السلاح التي كشفت عنها صحيفة "هآرتس" الصهيونية، والتي عقد فيها تجار سلاح من الكيان الصهيوني صفقات مع ساحل العاج عن طريق "شركة أنظمة الدفاع الجوي" اشتملت على معدات عسكرية بينها طائرات استطلاع، وصفقة ذخيرة وقنابل مضيئة عقدها "موشيه روتشيلد"..
لعل هذا يلقي الضوء على الدور الصهيوني في المخطط الأمريكي للهيمنة على إفريقيا-وفى منع المسلمين من الوصول للسلطة رغم أنهم الأغلبية-إذا ما وضع إلى جانب المعلومات المعروفة عن الدور الصهيوني في جنوب السودان وفي منطقة "دارفور"، وأريتريا، وجنوب إفريقيا.. أنه يتلخص في اكتساب عملاء لـ"المستعمر الجديد" ودراسة الحالة لاستغلال المشكلات والصراعات المحلية وتأجيج هذه الصراعات أو التدخل بالضغط الأمريكي لتهدئتها وفقاً للمصالح الأمريكية لزعزعة النفوذ الاستعماري القديم وإحلال النفوذ الأمريكي، دون أن تتورط القوات الأمريكية في حروب إقليمية بعد ما تكبدته من خسائر مادية وسياسية جراء اعتداءاتها في الصومال وأفغانستان وأخيراً العراق.
ساحل العاج.. أو غرب إفريقيا من المنظور الأمريكي:
تأتي أحداث ساحل العاج بعد الانقلاب في النظرة الأمريكية للأجندة الإفريقية من الإهمال إلى الاهتمام، فبعد أن صرح بوش الابن في حملته الانتخابية لمدة رئاسته الأولى "أنه لو حدثت حملة إبادة جماعية في رواندا، فإنه لن يرسل قوات أمريكية إلى هناك لعدم وجود أهمية استراتيجية" نراه يقوم في العام 2003/ يوليو بزيارة 5 دول إفريقية منتقاة بعناية هي: "السنغال، جنوب إفريقيا، بتسوانا، أوغندا، نيجيريا" ويعقد خلال الزيارة اتفاقيات لتزويد الطائرات الأمريكية بالوقود مع كل من "السنغال، وأوغندا"، وهي اتفاقيات عقد مثلها مع كل من "غانا والجابون" عن طريق البنتاجون، كما عقدت البنتاجون اتفاقيات للتدريب وتوفير أجهزة الاتصالات ووسائل الانتقال مع كل من "موريتانيا، مالي، النيجر، تشاد"..
والملاحظ هنا أن الزيارة للدول الخمس غطت جهات غرب وجنوب ووسط إفريقيا "جنوب الصحراء الإفريقية"، وذلك بعد أن حققت حضوراً قوياً في الشمال والشمال الغربي "مصر والمغرب العربي"، وكذلك في الشرق "تنزانيا وكينيا وإريتريا وجيبوتي وأثيوبيا".
هذا التوجه لتوسيع الوجود العسكري الأمريكي في إفريقيا عامة وفي غربها الخاضع للنفوذ الفرنسي خاص يؤكده تقرير مؤسسة "اكسفورد انليتيكا" للأبحاث والدراسات المنشور في سبتمبر 2003م جاء فيه أن الولايات المتحدة الأمريكية عقدت اتفاقيات مع الكاميرون والجابون وغينيا الاستوائية تسمح للأمريكيين باستخدام مطارات تلك الدول.
كما تم بحث خيارات تتضمن استخدام قواعد جوية في نيجيريا، وبنين، وساحل العاج.. ويأتي تصريح الجنرال "جيمس جونز" المسؤول العسكري الأمريكي الأعلى في أوروبا، والذي قال فيه: "إن الولايات المتحدة تريد زيادة وجودها العسكري في إفريقيا للرد على التهديدات الجديدة التي يمثلها تعرض بعض الدول لعدم الاستقرار" وأضاف "أن البنتاجون تنوي خلق مراكز استراتيجية في العالم للتدخل السريع في إطار تحول القوات الأمريكية لجعلها أكثر قدرة على التحرك".
السياسة "الاستعمارية" الفرنسية.. العقبة الرئيسة:
لاشك أن مجمل التحركات الأمريكية في إفريقيا يستهدف بالأساس تطويق واختراق مناطق النفوذ الفرنسي، والذي يضم 20 دولة تخضع للفرانكفونية، وأمام المنافسة الأمريكية بدأت السياسة الاستعمارية الفرنسية في التخلي عن بعض الشروط السياسية للمعونات، واستبدالها بشروط مصلحية، كما زادت من المساعدات لإفريقيا إلى7، 0% من دخلها القومي بدون ربطها التقليدي بالديموقراطية.
ويبدو أن فرنسا أصبحت في موقف الدفاع، وقد يضطرها ذلك لتعديلات عديدة في تحالفاتها داخل مستعمراتها السابقة لن يكون آخرها موقفها من حكومة الأقلية المسيحية في ساحل العاج، إلا أن الهيمنة الفرنسية على اقتصاديات هذه الدول، والمشاكل العرقية والمذهبية التي حرصت على إيجادها واستثمارها، والمشكلات الاقتصادية الطاحنة ما تزال هذه المفردات جميعاً تمثل عناصر ممكنة الاستخدام لتأكيد نفوذها، ولو إلى حين.
المنظمات الدولية والإقليمية والإسلامية.. غياب:
اقتصر دور الأمم المتحدة في الصراع العاجي على إرسال مبعوث خاص "ألبرت تيفودجيري" الذي قدم استقالته بعد أن اتهمه الرئيس "جباجبو" بالانحياز للمتمردين عقب اكتشاف المقابر الجماعية للمسلمين، أما منظمة الاتحاد الإفريقي فلم يسمح لها بأي دور إلا بعد أن اطمأن أصحاب المصلحة الأمريكيين إلى الطابع العرقي لهذا الدور، كما حدث في دارفور.. ولم يكن لمساعيها أن تنجح لافتقادها لأية آلية لتطبيق الاتفاقات التي يمكن التوصل إليها، شأن اتفاق السلام الذي تم بواسطة فرنسية منذ عامين ونصف على تعديل الدستور، خاصة البند الذي حال دون ترشيح حسن أوتارا للرئاسة، أما المنظمات الإسلامية فقد سجلت غياباً كاملاً عن القضية رغم ما عانته وتعانيه أغلبية مسلمة من اضطهاد وصل إلى حد الذبح الجماعي.
والخلاصة..
- إن صراعاً بين الإمبراطور الجديد "أمريكا" والأباطرة القدامى على الثروة والنفوذ في إفريقيا آخذ في التصاعد.. وأن كلاهما يعرف أن نتائج هذا الصراع ستكون حاسمة في تحديد موازين القوى استراتيجياً.
- إن هذا الصراع لن يكون بالمواجهة بين قوات الأباطرة المتصارعين، ولكنه سيكون على أرضنا وباستثمار مشاكلنا الداخلية، وتفرقنا العرقي والمذهبي.
- إن هذا الصراع يسمح للشعوب والدول المحورية إذا ما تسلحت برؤية صحيحة للصراع وللأزمة التي يمر بها النظام العالمي بتعديل أسس وقواعد وموازين التعامل مع القوى العالمية.
- وإن كلاً من "المستعمر" القديم والجديد يعرف أن أحد أهدافه هو منع الصحوة الإسلامية المتصاعدة من حشد طاقات المسلمين واستعادة الهوية والمكانة.
ولعل أحداث ساحل العاج تكون الصرخة التي تفيق الغافلين عن القارة العظيمة المنسية.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد