بعد عام على تفجيرات لندن: المسلمون ومحاولات الانصهار في المجتمع البريطاني


 

بسم الله الرحمن الرحيم

رغم مرور أكثر من عام علي تفجيرات لندن والتي شهدتها العاصمة البريطانية في السايع من يوليو 2005، إلا أنها لا تزال تثير الكثير من الجدل حول قدرة الأقلية المسلمة على الاندماج في المجتمع، وعن مسؤولية هذه الأقلية تجاه أمن البلاد.

وفي أحدث استطلاع للرأي أجري حول قدرة الأقلية المسلمة على الاندماج في المجتمع البريطاني، أوضح أن 65% من المسلمين يعتقد أن جاليتهم مطالبة ببذل مزيد من الجهود للاندماج في المجتمع، بينما يعتقد ذلك 74% من المواطنين بشكل عام(1).

لكن المتتبع للأمور يرى أن العراقيل كثيرة، بعضها ناشئ من المسلمين أنفسهم والآخر من غيرهم مثل الحكومة والشرطة والشعب والإعلام. ورغم وجود الأصوات الحكيمة العاقلة من كتاب وبرلمانيين وقضاة وصحافيين وقساوسة وناشطين في مؤسسات المجتمع المدني، فإن الجالية الإسلامية في بريطانيا تعيش الآن حالة من عدم الارتياح، ويشعر الكثيرون أنهم محل شبهة، ولا ينعمون بالاستقرار في وطن ولدوا أو نشؤوا فيه، واشتركوا في بنائه، وإيجاد تعدديته الثقافية والدينية.

 

ومن خلال تغطيتها للتفجيرات وملاحقة المتهمين فيها، مارست وتمارس حتى الآن بعض الصحف ومحطات التليفزيون في بريطانيا أنماطاً من التحريض والاتهام ضد المسلمين بطرق مباشرة أو غير مباشرة، مما جعل توني بلير رئيس الوزراء البريطاني يستجيب للضغط الإعلامي اليميني العنصري، وبدأ في لهفة في رسم السياسات والقوانين الموجهة ضد حرية المسلمين، وفي نفس الوقت يطالب باندماجهم في المجتمع والثقافة البريطانية.

 

الانصهار في المجتمع

وبعد مرور عام على تفجيرات لندن نشرت صحيفة "التايمز" البريطانية نتائج استطلاع للرأي أجرته بالتعاون مع قناة ITV التلفزيونية البريطانية حول مسألة اندماج أبناء الجالية الإسلامية في بوتقة المجتمع البريطاني(1).

أجري هذا الاستطلاع في يونيو الماضي، واشتمل على حوالي 1200 مسلم عبر الهاتف والإنترنت. وتخلص الصحيفة في هذا الاستطلاع إلى أن التفجيرات لم تعمل على الدفع بمسلمي بريطانيا نحو التقوقع، بقدر ما زادت من رغبتهم في الانصهار داخل المجتمع البريطاني متعدد الأعراق وجعلتهم أكثر ثقة بالمستقبل.

حيث قال 90% من هؤلاء إن المسلمين يقدمون مشاركة قيمة للمجتمع البريطاني، ويقيم 87% من المسلمين علاقات صداقة مع غير المسلمين، بينما أكد ما يقرب من 33 % من عموم السكان أن لديهم أصدقاء مسلمين.

وتقول الصحيفة إنه إذا كان 25% من المستطلعة آراؤهم في بريطانيا يشعرون بالقلق حال رؤيتهم لشخص يعتقدون أنه مسلم ويحمل حقيبة على ظهره في إحدى وسائل النقل العمومي، فإن الشعور نفسه يوجد لدى 18% من المسلمين أيضاً.

وبينما قال 79% من المسلمين الذين اشتركوا في الاستطلاع إنهم تعرضوا لأشكال من الإهانات والعدوان بعد هجمات السابع من يوليو فإن 62% من البريطانيين بشكل عام يعتقدون بأن ذلك أمر صحيح.

ورأى13% من المستطلعين أن منفذي تفجيرات العام الماضي "شهداء" وكذلك 16% اعتبروا أن الهجمات مدانة لكن "القضية عادلة".

 

الوجود الإسلامي

لقد أعجبني قول الشيخ ونيس المبروك(2): "إنّ وجود المسلمين في الغرب لم يعد وجوداً سائحاً عابراً، أو مسافراً قاصداً، بل تعدّى ذلك لأن يكون مواطناً أصيلاً، ورقماً مهماً في الغرب. وهذا يدعونا لمراجعة صادقة في النظر لهذه الديار، وأنّ لها حقوق الوطن وآداب المواطنة، والإسلام يدعو المسلمين إلى الحرص على بناء أوطانهم والسعي في نهوضها ورخائها، فهي مقر معاشهم، وديار أبنائهم من بعدهم، وصلاح هذه الأوطان وأمنها يعود على كل مواطنيها دون فرق، والمسلم الصادق حينما اختار المعيشة في الغربº فإنه اختار أن يكون جزءاً من الوطن والمجتمع الذي يعيش فيه، مما يوجب عليه أن يفكِّر في همومه، والتحديات التي تواجهه، ولكن من منظور دينه وعقيدته. وعلى المسلمين الحذر من أماني العودة التي قد تطول ولا تُطال، وقد يمرّ بنا العمر ونحن ننتظر قطار العودة، فلا هو حملنا وذهب، ولا نحن الذين وضعنا قدماً يمهِّد لاستقرار دعوة الإسلام التي آمنا نظرياً أنها تصلح لكل "مكان" ولو كان هذا المكان الغرب نفسه".

كذلك أعجبني قوله: "كما ينبغي التركيز علينا التفاعل مع البيئة الغربية، وألا ننعزل عنها، وشجرة الإسلام لا تمتد جذورها إلا إذا تفاعلت مع بيئتها، وإلا ستكون بمعزل عن التأثير، ولا يمكن لنا تحقيق "الشهود" الحضاري المطلوب دون "حضور" في ساحات الفكر والثقافة وصناعة القرار في الغرب".

وهو قول يتماشى مع رأي الشيخ يوسف القرضاوي الذي يعتقد أن الأقليات المسلمة تعيش في مرحلة التفاعل الإيجابي مع المجتمع، بعد أن مرت بمراحل الشعور بالهوية، ثم مرحلة الاستيقاظ، ثم التحرك، ثم التجمع، ثم مرحلة البناء، ثم التوطين، وفي مرحلة التفاعل الحالية فلا مجال للعزلة والانكفاء على الذات والحذر من مواجهة الآخرين(3).

 

فقدان الثقة

على صعيد آخر كشف رئيس قسم مكافحة الإرهاب في الشرطة البريطانية أن الشرطة فتحت 70 تحقيقاً جديداً في إطار حملة مكافحة الإرهاب، محذراً من أن الصورة التي رسمتها المعلومات الاستخباراتية "لا تبعث على الاطمئنان".

وذكرت صحيفة "الجارديان" البريطانية أن المسلمين في بريطانيا يواجهون العداء منذ هجمات يوليو، وأنهم فقدوا الثقة في نزاهة الشرطة البريطانية، كما أنهم لا يقبلون أن يكون لضباط الشرطة حق اتخاذ الإجراءات الاستباقية لإبطال الهجمات المحتملة، وذلك إذا كانت المعلومات الاستخباراتية الخاصة بالهجمات خاطئة وملفقة بهدف اعتقال الأبرياء! وأوضحت الصحيفة أن استطلاع الرأي يؤكد فقدان المسلمين الثقة في الشرطة البريطانية، خاصة بعد مداهمة الشرطة منزلاً لأسرة مسلمة في شرق لندن في شهر يونيو الماضي، وذلك بناءً على معلومات استخباراتية خاطئة بوجود سلاح كيماوي في المنزل!

وقد تعرضت الحكومة البريطانية لانتقادات شديدة بشأن تعاملها مع أحداث تفجيرات لندن من طرف نائب من أبرز نوابها المسلمين بالبرلمان، حيث قال النائب صديق خان إنه مستاء من الجهود التي بذلت لربط أواصر التعاون مع الجالية الإسلامية، وقال إن جواً من اليأس بدأ يتسرب إلى النفوس، من جراء العمل الذي قامت به "خلية التفكير" التي أنشأتها الحكومة بعد التفجيرات.

وقد شكلت الحكومة سبع مجموعات عمل قدمت تقاريرها في شهر نوفمبر 2005 إلا أن ثلاثاً فقط من التوصيات المرفوعة تم العمل بها. وتساءل: "فما مآل التوصيات الجيدة؟ لماذا لم يتم وضع مخطط تحكمه أجندة زمنية محددة"؟ ومضى يقول: "علينا أن نثبت أن ذلك العمل لم يكن مجرد استعراض دعائي قصير المدى وأن الأفكار لم توضع في الرفوف".

وقد ذكرت الحكومة بعض الإنجازات التي أتمّتها، ومن بينها: ندوات رجال الدين، حيث التقى شيوخ ومفكرون بارزون مع شبان مسلمين وصل عددهم إلى 30 ألف شاب حتى الآن، وشكّلت المساجد والمجلس الاستشاري الوطني لرجال الدين، مجموعة توجيهية، وبدأت منتديات وطنية حول "الإسلاموفوبيا" في ليستر، ومن المتوقع أن تُعقد منتديات مماثلة في ريدبريدج ودودلي، وقامت بتنظيم ورشات عمل مموّلة من الحكومة، وتقديم نصائح عن سياسة "التوقيف والتفتيش" التي تلجأ إليها الشرطة، وتعمل على مواجهة التشدّد الديني في الجامعات(4).

إن الاندماج دون التفريط في عقيدتنا وأخلاقنا وشريعتنا وهويتنا الإسلامية مطلوب حتى نستثمر وجودنا للحفاظ على هذه الهوية من خلال حقوق المواطنة واكتساب آليات النجاح والتأثير، تحت قيادة إسلامية محلية، وذلك أيضاً بالنظر إلى أمر آخر وهو تخلي الدول الأم عن أبنائها في الخارج، والجاليات تحتاج مهما انخرطت في مجتمعاتها إلى أب روحي يدافع عنها إذا استُضعفت، وتلجأ إليه إذا طُردت، وللأسف فقد صار ينظر لعامة المسلمين (الملتزمون) في الغرب من جانب بعض الدول الإسلامية نفسها نظرة توجس وكأنهم صاروا إرهابيين، ولا تحافظ عليهم وإنما تسلمهم وتستلمهم.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply