في أوائل شهر نوفمبر احتفلت روسيا الرسمية بيوم "أسمي يوم" أو "عيد التسامح" ويفترض فيه أن يكرس قيم الترابط والمحبة والمشاركة بين العديد من القوميات والأعراق والثقافات والأديان التي تزخر بها روسيا المترامية الأطراف والتي تتخذ الشكل الفيدرالي للحكم.
ولكن في نفس اليوم نظمت في المدن الرئيسية مظاهرات قامت بها جماعات ما يسمى باليمين والنازيين الجدد والقوميين، ومعهم بشكل واضح الكنيسة الروسية الأرثوذكسية تطالب كلها بمنع الهجرة من أنحاء وأقاليم روسيا الآسيوية (ومعظمها إن لم يكن كلها بالطبع مسلم) إلى مناطق روسيا الرئيسية التي معظم سكانها من البيض أو بالأصح المسيحيين الأرثوذكس.
وقد اجتمع في هذه المظاهرات العنصران اللذان أصبحا الآن يشكلان القاسم المشترك أو الجدار الممتد من أقصى شرق أوروبا إلى أقصى غربها، ومن أصقاعها الشمالية إلى أنحائها الجنوبية ويتحكم في العديد من مجريات السياسة وقرارات الحكومات وتوجهات الشارع والمؤسسات وتغطية الإعلام، وهذان العنصران هما التعصب العنصري والتعصب الديني.
وفي نفس يوم العيد الروسي للتسامح الذي لم يحتفل به أحد سوى غير المتسامحين كان وزير الداخلية الفرنسي والمرشح لرئاسة البلاد يجلس في مؤتمر صحفي منتفخ الأوداج ليعلن عن فصل عشرات من عمال الشحن المسلمين من مطار باريس بسبب الوقاية من أحداث إرهاب محتملة وبدون أية شبهة (ولا نقول دليل) قبل هؤلاء العمال سوى أنهم مسلمون يؤدون ما أسماه بطقوس غريبة مريبة هي الصلاة! ولم يعترض أحد على أعمال الوزير بل لقيت الترحاب والتأييد من التيارات اليمينية المتعصبة ويفترض أنها تقف ضد الوزير سياسيا وحزبيا.
ولما كان يمكن إيراد آلاف الأمثلة في هذا الصدد شرقاً وغرباً فإن المغزى المهم في هذا كله هو التمكن الذي يزداد في أوروبا لتياري التعصب العنصري والديني. فلا حاجة بعد لجمع الأدلة في تصريحات بابا الفاتيكان إلى الرسوم الدانمركية إلى المسرحية الألمانية إلى التصريحات الإيطالية والتهجمات الهولندية، وإنما الحاجة إلى تحديد موقف إسلامي عربي واضح من هذا التيار الجارف والذي أصبح يشكل صورة المستقبل في العديد من بلدان أوروبا إن لم يكن كلها.
والواقع أن الموقف العربي الإسلامي انحصر حتى الآن في اتجاهين كليهما غير مجد، بل ومنتج لأثر عكسي. الأول هو اتجاه الاستنكار والإدانة والذي استنزف غايته ووصل إلى مداه بعد أن لم يعد هناك مساحة للمزيد من التفريعات والبراعة في ابتكار إدانات واستنكار وشجب أقوى وأكثر حدة. ومع وصول بيانات الشجب إلى نهاية مفعولها بالنسبة للجماهير المسلمة (وأنه لم يكن لها في الأصل قانون بالنسبة للغرب حيث تصدر الإساءات) ومع كثرتها إلى حد الابتذال أخذ يحدث رد فعل مضاد في الداخل الإسلامي العربي أقل ما يوصف به أنه خطير. فمن ناحية، ساد شعور بالعجز والفشل في مواجهة ما بدا واضحاً انه هجمة على الإسلام. ومن الناحية الأخرى ونتيجة للإحساس بعدم الجدوى بدأ يظهر ويقوى اتجاه بعدم اللامبالاة وعدم الاكتراث بالرد على الإساءات واتخاذ مواقف ضدها. والأخطر أن شعوراً بدأ يظهر وبشكل ملموس بالتبرم من الإسلام ذاته ومن مفردات ومكونات تاريخه وتعاليمه التي تتعرض للإساءات. بل وبدأنا نشعر بأحداث تصل إلى حد التساؤل بشك فيما إذا كان الغرب محقاً في اتهاماته ليس فقط لسلوك المسلمين المعاصرين والسابقين بل لشريعة وتعاليم وتاريخ الإسلام وحتى عقيدته ذاتها.
صحيح إن هذه الأصوات لازالت في جلها تصدر في الوسط العلماني الذي هو معاد للإسلام ويستنبط أي مشاكل ليصيد في الماء العكر، لكن ذلك لا ينفي أن البعض من المنسوبين للإسلام بشكل أو بآخر أخذ الآن يلمح إلى أن لهجمات الغرب نصيب ما من الصحة إما بسبب سلوكيات المسلمين أو بسبب بعض المشاكل المتضمنة مثلاً في صلب الفقه الإسلامي أو بعض المفاهيم الإسلامية في مجال أو آخر.
والحق أن السبب في ردود الأفعال العكسية هذه هو خيبة التوجه الاستنكاري الذي هيمن على الموقف العربي الإسلامي من الإساءات الغربية. ذلك كما قلت لأن الموقف الاستنكاري وصل مداه في الحدة والكثرة لكنه لم ينسخ فكراً محدداً ولم يدرس حتى تلك الإساءات ويلاحظ تنوعها واختلاف مستوياتها وضرورة التمييز بين فئاتها على أقل تقدير. ولذلك لم ينتج أي أثر بل انفض الناس من حوله وبدأت ردود الأفعال العكسية من الانفضاض والتبرم بالموضوع من أصله.
أما التوجه الثاني الذي تمثل فيه الرد الإسلامي العربي على الإساءات الغربية فكان أشد فشلاً وتهافتاً. فقد طرح هذا الاتجاه منذ البداية أن الموقف الصحيح لابد أن يكون في المزيد مما وصف بالحوار والتقارب مع الغرب وليس في القطيعة أو التباعد. لكن هذا التوجه الصادر عن بعض سماسرة ما عرف بحوار الأديان أو الحضارات نسى أو لم يفهم (أو تعمد تجاهل) أن المشكلة ليست مشكلة سوء فهم أو جهل غربي بحقائق أو أوضاع إسلامية معينة ولاسيما على الجانب الديني العقيدي بقدر ما هي مشكلة اتجاه دفين وأصيل في الثقافة الغربية عموماً (بما في ذلك ثقافة أوروبا الشرقية وما حولها إلى مناطق في أمريكا الجنوبية) أخذ يعود إلى الظهور وتأكيد الذات والهيمنة على الساحة العامة بأبعادها بعد أن كان قد تراجع لفترة ليختبئ أو يتحصّن في جيوب صغيرة بل تكاد تكون فردية لاسيما في بلدان أوروبا الغربية الكبرى. وأقصد بهذا الاتجاه الدفين في المقام الأول التعصب الديني المسيحي متجسداً في رغبة صليبية للتوسع والغزو في بلاد الإسلام والعالم العربي في قلبها ومقرونا بعنصرية وعرقية ثقافية شرسة تعود في أساسها إلى الاتجاه المتعصب دينيا.
مع هذا الاتجاه العائد لا تنفع حوارات ولا مؤتمرات ولا محاولات للتعريف بالإسلام والدفاع عنه لأننا أمام وضع مؤسس للحضارة الأوروبية والغربية عامة لا تقوم بدونه لأنه هو الذي يحدد هويتها ولن تنفع معه أوهام الحوار والتقارب والتعريف لأننا لسنا أمام مشكلة عابرة أو سوء فهم بسيط أو أزمة ديبلوماسية. لهذا فشل هذا الاتجاه كذلك وتركنا أمام إساءات غربية ظاهرة تخفي وراءها الاتجاه الدفين لكن أحداً لا يستطيع التعامل معها.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد