يُعتبر يوم20 مارس من الأيام التاريخيّة للمسلمين في بلجيكاº إذ جرت الانتخابات لاختيار (68) عضواً يمثلون "مجلس مسلمي بلجيكا" الذي تعترف به الحكومة ممثلاً رسمياً للمسلمين، وقد شارك في هذه الانتخابات نحو (69) ألف مسلم بلجيكي سجلوا أسماءهم في الانتخابات لاختيار أعضاء المجلس من بين (178) مرشحاً.
وقد تم وضع قانون انتخابي جديد لتنظيم عملية الانتخاب، حيث يتم اختيار (68) عضواً يمثلون المجلس، على أن يتم انتخاب (17) من بينهم فيما بعد في انتخابات داخلية لتشكيل المكتب التنفيذي للمجلس الذي سيختار بدوره من بين أعضائه رئيساً للمجلس، ويعطي القانون الانتخابي حقّ الترشيح لممثلي المساجد أو من يتمكنون من جمع (50) توقيعاً، كما يسمح القانون بالتمثيل بحسب أصولهم (مغاربة، وأتراك، وأقليات أخرى، ومسلمين بلجيك جدد).
وتعتبر بلجيكا أول دولة في أوروبا الغربية تعترف بالإسلام كدين رسمي، ففي عام 1974 م تم الاعتراف الرسمي بالإسلام، وفي عام 1998م وبعد حوالي ربع قرن على هذا الاعتراف حقق المسلمون نجاحاً آخر عندما خاضوا انتخابات على مستوى الأقلية لاختيار هيئة موحدة تمثلهم لدى الحكومة، وتكون بمثابة المحاور الرسمي للسلطات البلجيكية في شؤون المسلمين.
وانتخاب المجلس التأسيسي للمسلمين يُعتبر أول تجربة من نوعها على مستوى القارة الأوروبية، وهي تجربة يجب أن تُعمّم في سائر الدول الأوربية ليقف المسلمون في أوروبا على قدم وساق مع غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى، وليستطيعوا الحفاظ على هويتهم الإسلامية من الذوبان في مجتمع تتعدّد فيه الثقافات والتيارات الفكرية.
انتخابات 1998م:
ولقد جرت انتخابات عام 1998م لاختيار أعضاء المجلس التأسيسي، بعد قرار الحكومة البلجيكية في يونيو 1998م بمنح الجالية المسلمة حق انتخاب ممثليها ليكونوا المتحدثين باسمها لدى الحكومة في الشؤون الدينية، وتقدم لها (280) مرشحاً من المسلمين، وشارك فيها (70) ألف ناخب، وجرت في المساجد والمراكز الإسلامية المنتشرة في بلجيكا، وتم خلالها انتخاب المجلس التأسيسي الذي يتألف من (68) عضواً منهم (51) عضواً منتخباً، و(17) عضواً معيناً، يتوزعون بين جنسيات مختلفة، واختار هذا المجلس من بين أعضائه هيئة تنفيذية لتكون المحاور الرسمي للسلطات البلجيكية في شؤون المسلمين.
ولا شك أن نجاح هذه التجربة، واختيار هيئة تمثيلية للمسلمين هناك يعني أن تتولى السلطات البلجيكية مهمة تمويل شؤون العبادة، وصيانة المساجد، وصرف رواتب الأئمة، وتعليم الدين الإسلامي، وإرساء وضعية قانونية ثابتة لدى وزارة التربية والتعليم لمدرسي الدين الإسلامي، والذي يصل عددهم إلى ألف مدرس، وذلك بعد أن كانت هذه الأنشطة والهيئات الإسلامية تعتمد على الهبات والمساعدات التي تقدمها الدول الإسلامية، وهذه - بلا شك - مكاسب كبيرة للمسلمين.
(450) ألف مسلم:
والمسلمون في بلجيكا والذين يقترب عددهم من النصف مليون نسمة، وبالتحديد (450) ألف مسلم، يُعتبرون من أنشط الأقليات المسلمة على مستوى أوروبا كلها، وأكثرها فعالية ومشاركة في الحياة العامة، ويتوزعون بين (250) ألفاً من أصول مغربية، و(130) ألفاً من أصل تركي، و(30) ألفاً من أصل ألباني، بينما يتوزع الباقون بين جنسيات عديدة كالفلسطينيين والجزائريين، والتونسيين والبوسنيين.
ويبلغ عدد المساجد في بلجيكا (290) مسجداً أقدمها تاريخياً "المركز الثقافي الإسلامي" بالعاصمة بروكسل والتابع لرابطة العام الإسلامي بمكة المكرمة، والذي تم إنشاؤه بتبرعات من المملكة العربية السعودية.
المركز الثقافي الإسلامي:
ويلعب المركز الثقافي الإسلامي دوراً كبيراً في نشر الوعي لدي المسلمين، وقد بدأ التفكير في إنشاء هذا المركز في مطلع الستينيات، وأُنجز بناء المسجد والمركز في عام 1965، وبُني بأموال وتبرّعات قدمتها جهات حكومية وأخرى شعبية من المملكة العربية السعودية، وكان بذلك أول مسجد كبير تنفق عليه هذه الدولة العربية التي ما لبثت أن كرّرت المثال، وأنفقت على بناء مساجد ومراكز إسلامية في معظم العواصم الأوروبية وغير الأوروبية من أموالها وأموال مواطنيها، ولم تكتف السعودية بتمويل هذا المشروع، بل ساهمت عبر جمعياتها الدينية بالإشراف على إدارته وتحمّل كافة ميزانياته واحتياجاته المتجدّدة لكيلا يُهمل أو يقع في أيدي المجموعات المتطرفة التي تريد استغلال الدين لأغراض حزبية أو سياسية ضيقة، ويشرف على إدارة المركز حالياً عدد من مندوبي رابطة العالم الإسلامي يمثلون معظم الجاليات الإسلامية في بلجيكا كالعربية والتركية، والباكستانية والسنغالية.
ويمتاز المركز الثقافي الإسلامي في بروكسل بعدد من المزايا الخاصة به وبالبلد الذي يقع فيه، فبروكسل هي مركز الاتحاد الأوروبي، ومقرّ مفوضية حكومته، وهي مركز ومقر الحلف الأطلسي أهم وأقوى التحالفات العسكرية في العالم حالياً، وإلى جانب ذلك كانت بلجيكا أول دولة في أوروبا الغربية تعترف بالإسلام كدين رسمي فيها - كما ذكرنا -، وتشرّع حقوق مواطنيها المسلمين على قدم المساواة مع مواطنيها المسيحيين واليهود، وتفتح أمامهم سبل المطالبة والحصول على هذه الحقوق، سواء كانت حقوقاً روحية ودينية، أو حقوقاً اجتماعية وقانونية.
وقد لعب هذا المركز الهام دوراً تاريخياً حاسماً في ترسيخ الوجود الإسلامي، ليس في بلجيكا فقط بل في أوروبا الغربية كلها، وتشجيع المسلمين في الدول الأخرى على السعي للحصول على اعتراف مشابه، وإيجاد سابقة اقتدت بها غالبية الحكومات الأوروبية واحدة بعد الأخرى حتى أصبح الدين الثاني رسمياً وفعلياً بعد الكاثوليكية أو البروتستانتية، وقبل اليهودية التي كانت تحتل في معظم تلك الدول الموقع الثاني لقرون عديدة، بل إن الإسلام غدا في بعض الدول ينافس أو على الأقل يوازي من حيث الحجم والأهمية الدين الأول.
وتنقسم أنشطة المركز إلى قسمين رئيسين:
أولهما: النشاطات الدينية.
وثانيهما: النشاطات الثقافيّة والاجتماعيّة، حيث ينظم مناسبات وبرامج مستمرة لنشر الوعي الإسلامي، ولاسيما في أمور الفقه، وحفظ القرآن وتفسيره للكبار والصغار وللنساء والرجال، كما ينظم المسائل والمواقيت الضرورية، ويساعد الراغبين في تأدية فريضة الحج إلى بيت الله، وغير ذلك من شؤون واحتياجات أساسية للجاليات الإسلامية التي تعيش في مجتمع غريب، وتفتقر في أكثر الأحيان لمن يدلها على أبسط المسائل من أمور دينها ودنياها.
ومن ناحية أخرى يضم المركز مدرسة إسلامية لتعليم الراغبين اللغة العربية والثقافة العربية والإسلامية لأبناء المسلمين بخاصة وغيرهم بعامة، بما في ذلك العديد من البلجيكيين أو الأوروبيين الذين تتزايد أعداد المتشوقين منهم للاطلاع على مبادئ الدين الحنيف، وتعلّم اللغة التي تمكنهم من فهم معجزته اللغوية، وأسراره العقديّة والعقليّة.
وفي المركز أيضاً مكتبة تحتوى على أعداد لا بأس بها من الكتب والمراجع الإسلامية باللغات العربية والفرنسية والفلنكية والتركية والإنجليزية، كما يضم المركز قاعة محاضرات لعقد الندوات والتجمعات والمؤتمرات الفكرية والدينية.
صوت رابطة العالم الإسلامي:
وقد أنشأ المركز تعبيراً عن وعيه بأهمية الإعلام والثقافة ولاسيما في تلك البلاد مؤسسة للنشر والطباعة تتولى خدمات الإعلام وإصدار المطبوعات الضرورية باللغة الفرنسية والعربية، وإنتاج المواد الثقافية المتنوعة بوساطة أشرطة الكاسيت والفيديو المسموعة والمرئية، وغير ذلك من مواد وخدمات بما في ذلك نشرة دورية تتضمن أهم المعلومات عن أنشطة المركز وبقية النشاطات التي تخص المسلمين وتهمّهم.
كما أنشأ المركز أيضاً منذ مطلع الثمانينيات إذاعة محلية أطلق عليها اسم "صوت رابطة العالم الإسلامي"، تبث مواد إسلامية وخاصة القرآن الكريم والآذان، وبعض المعلومات الضرورية كمواقيت الصلاة والإفطار والإمساك في شهر الصوم، وتُسمع هذه الإذاعة في محيط ومركز مدينة بروكسل.
ولا شك أن نجاح المركز الثقافي الإسلامي في بروكسل، وما حقّقه على مستوى الاعتراف الرسمي بالإسلام كان دافعاً للمسلمين إلى إنشاء مراكز ومساجد مماثلة في مدن أخرى، ففي أواخر الثمانينيات شرع المسلمون في بلجيكا بإقامة صرح إسلامي مشابه في ثاني أكبر المدن البلجيكية وهي "انتويرب" حيث يكثر المسلمون المهاجرون بسبب طبيعة المدينة الصناعية، ووجود الميناء البحري الرئيس لبلجيكا فيها، وهكذا أصبح المركز مركزين، والمسجد مسجدين فضلاً عن أنه بصفته الأكبر وبسبب وجود ممثلين لرابطة العالم الإسلامي في إدارته بات منذ وقت طويل يشرف على بقية المساجد الصغيرة التي تنتشر في بلجيكا، ويزيد عددها الآن على مائتي مسجد ومصلى، يقيمها أبناء الجاليات الإسلامية في أحيائهم، حتى إن المسافة بين الواحد والآخر لا تزيد في بعض الأحيان عن عدة مئات من الأمتار.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد