الانخراط في المعترك السياسي اللبناني دخول في حقل من الألغام القابلة للانفجار، ومحاولة قلما ينجو صاحبها من سهام الطائفية ـ التي كست الوجه اللبناني، فأحالته إلى فسيفساء سياسي، شوه كثيرًا من معالم الدولة الحديثة ـ أو رماح التنازع بين مشروعين أمريكي فرنسي من جانب، وسوري إيراني من جانب آخر، وكلاهما يراهن على خطف البلد لتحقيق أجندته الخاصة، فيما يغيب المشروع الوطني الخالص والعربي الفاعل من المشهد برمته.
وخطاب نصر الله، زعيم حزب الله اللبناني، الذي ألقاه الأحد 11/11/2007م، بمناسبة يوم الشهيد اللبناني في حقيقته لا يخرج عن المشهد سالف الذكر، بل نراه يكرس واقع المواجهة بين المشروعين، وهو في سبيل دعمه للمحور السوري ـ الإيراني، يفتح بابًا للفتنة والحرب في البلاد، لا يعرف أحد أين تقف ولا متى تنتهي، ولكنها بلا شك ستترك جسدًا مثخنًا بجراح دامية، قد تعود به لسنوات حالكة من تاريخه، ما زالت تجترها الذاكرة حتى الآن في مرارة وحسرة.
وقبل الخوض في دلالات الخطاب الزمنية ومضامينه السياسية، نقف في المحور الأول على منطلقات أساسية نرى أنها تحدد بمجملها إحداثيات فهم الحالة اللبنانية...
وعلى ذلك، سنتناول ثلاثة محاور أساسية:
المحور الأول: منطلقات أسياسية لفهم تعاريج الحالة اللبنانية.
المحور الثاني: خطاب نصر الله.. دلالات التوقيت.
المحور الثالث: المضامين السياسية لخطاب نصر الله.
المحور الأول: منطلقات أسياسية لفهم تعاريج الحالة اللبنانية:
يبدو أن الحالة السياسية اللبنانية الراهنة يتحدد النظر إليها من خلال أربعة منطلقات أساسية، هي كالتالي:
أولاً: التجاذبات السياسية تدور حول مشروعين خارجيين:
1 ـ المشروع الأمريكي ـ الفرنسي الذي يعمل على إبعاد لبنان من العراك السوري والإيراني، بحيث تشكل بمفردها حالة منفصلة، يتم التعامل معها بصورة بيئية منعزلة، وكذلك يكون الحال مع سوريا وإيران، فهو مشروع غربي قائم على إنقاذ الرهينة، ليس شفقةً عليها، ولكن ليتم ذبحها بطريقة تناسب الجزار الجديد.
2 ـ المشروع السوري ـ الإيراني، ويحتجز لبنان كرهينة أمام الضغوط الغربية، الأمر الذي يبدو جليًا في التحركات السورية، ويضاف إلى هذا البُعد السياسي، بُعد عقدي عند إيران التي ترى في لبنان فريسة سهلة وركيزة أساسية لمشروعها الفارسي التوسعي.
ثانيًا: الانقسام الداخلي صورة انعكاسية للمشاريع الخارجية:
الانقسام الداخلي كان وما زال صورة انعكاسية للمشاريع الخارجية بصورتها الطائفية، الممثلة في المشروع الإيراني، أو صورتها السياسية الممثلة في المشروع الأمريكي الفرنسي، ويكاد يخلو الشارع اللبناني ـ رغم التنوع السياسي والديني الهائل ـ من كيانات ذات استقلالية فكرية وسياسية، ترى المشهد من منظور ما يحاك للبلد من مؤامرات متعددة، فتتصدى لها. فثمة غياب أو تغييب للمشروع الداخلي، الذي يحقق الذات اللبنانية داخل إطارها العربي الذي يراد سلخها منه.
ثالثًا: التحركات العربية "تكتيكية" تفتقر لإستراتيجية واضحة:
يلتقي هذا الغياب سابق الذكر مع عجز عربي عن التدخل، إلا من تحركات "تكتيكية" ودبلوماسية، تفتقر إلى الأهداف الطموحة التي تعكس أهمية لبنان في محيطه العربي، وتعوزها الرؤية الصائبة لجذبها بعيدًا عن المشروع الخارجي، الذي يرى فيها نقطة انطلاق لمشروع الشرق الأوسط الكبير، والمشروع الإيراني الذي يرى فيها محورًا في المشروع الفارسي الكبير أيضًا.
رابعًا: الوضع الطائفي وهشاشة المؤسسات تنذر بعواقب وخيمة:
الوضع الطائفي، بتداخلاته السياسية، مع فقد القيادة الكارزمية أو حتى التاريخية مع شيوع الاتهامات بالتخوين والعمالة، مع تزاحم المشاريع الخارجية، كل ذلك مع غيره من الأسباب الأخرى، ترك لبنان في وضع هش على كافة المستويات، وأوقفها على شفا الحرب الأهلية التي ستأخذ مسار تصفية حسابات لمصلحة قوى خارجية، على أن تدفع لبنان فاتورة الحساب على غرار ما حدث في صيف العام الماضي من اقتتال بين حزب الله و"إسرائيل" لمصلحة نظام الملالي في إيران، ونظام الأسد في سوريا.
المحور الثاني: خطاب نصر الله.. دلالات التوقيت:
من المنظور السياسي، نرى أن خطاب زعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله آنف الذكر، جاء في توقيت مفصلي، ودلالة التوقيت تتجلى في زاويتين:
أولاً: المنظور الداخلي:
جاء التصعيد من قبل نصر الله وخطابه الذي ينضح بالتهديد والوعيد، في الوقت الذي تطايرت فيه صيحات التفاؤل بقرب حدوث توافق بين رئيس مجلس النواب والحليف القريب من حزب الله نبيه بري ورئيس تيار المستقبل وزعيم الأغلبية سعد الحريري بشأن الاستحقاق الرئاسي، تركز حول أمرين أساسيين:
الأول: تفويض البطريرك مار نصر الله صفير، بطرح الأسماء التي يراها مناسبة من الموارنة لشغل منصب رئيس الجمهورية خلفًا للرئيس الحالي إميل لحود، حيث أصدر المكتب الإعلامي للرئيس بري بيانًا بعد عقد اجتماع في عين التينة بين بري والحريري، تمنى على صفير أن يجمع القادة الموارنة الأساسيين بهدف التوصل إلى وضع لائحة أسماء مرشحين توافقيين لرئاسة الجمهورية.
الثاني: التزام بري والحريري باختيار رئيس للجمهورية في الأجل المضروب مجددًا في الحادي والعشرين من الشهر الجاري، حيث أكدت مصادر مقربة من بري أن إرجاء جلسة الانتخاب جاء بعد مشاورات مع الحريري، ولاستنفاد كل الفرص وكل الوقت من أجل توفير توافق أكبر وأشمل محليًا وإقليميًا وعالميًا حول شخص الرئيس الجديد، لا حول عملية انتخابه وحسب.
وخطاب نصر الله التهديدي، على ما يبدو، قد جاء في هذا التوقيت لغرضين اثنين:
1 ـ إفشال هذا التوافق بين بري والحريري، وقطع الطريق أمام انتخاب رئيس للجمهورية في الوقت المضروب، قبل انتهاء ولاية لحود بيومين فقط.
2 ـ سحب الثقة التفاوضية من بري بالتفاوض باسم المعارضة بعدما تحرك موقفه باتجاه اختيار رئيس بالتوافق مع تيار المستقبل، خلافًا لما يريده حزب الله.
ثانيًا: المنظور الخارجي:
مارست فرنسا في الفترة الأخيرة دبلوماسية نشطة مستندة على آلية تبدأ من البطريرك الماروني صفير، حيث تطالبه بوضع لائحة بأسماء المرشحين التوافقيين، على أن يرفعها إلى رئاسة مجلس النواب، ليتم مناقشتها بين المعارضة والموالاة، لاختيار اسم منها يطرح على المجلس النيابي لانتخابه بجلسة تكون بنصاب الثلثين.
ولتوفير الأطر المناسبة لنجاح دبلوماسيتها تلك، سعت فرنسا إلى رفع يد سوريا عن الاستحقاق الرئاسي، واضطرت دمشق للتجاوب الرسمي مع المبادرات والأطروحات حتى لا تصطدم مباشرة بالولايات المتحدة وتخندق معها فرنسا، ولكن في ذات الوقت ثمة خشية سورية من الوعود الفرنسية والهدوء النسبي من جانب الولايات المتحدة، فلجأت إلى دحرجة الكرة باتجاه الملعب الإيراني، على اعتبار أنها لا تستطيع أن تجبر إيران على خيارات محددة في لبنان.
وبذلك وضعت فرنسا أمام خيار وحيد هو ضرورة الانفتاح على إيران لتمرير ملف الرئاسة اللبنانية و"تهدئة" نصر الله، في مقابل "تبريد" ملفها النووي، أو القبول بدخولها مجددًا الساحة اللبنانية للضغط على حزب الله.
فخطاب نصر الله رفع الكرة عالية بحيث يسهل على سوريا وإيران تقاذفها لإطالة أمد الصراع في لبنان، ولإجبار صانع القرار الفرنسي على خيارات محددة تصب في محيط سياسة البلدين ورغبتهما في خطف المسار والمصير اللبناني.
المحور الثالث: المضامين السياسية لخطاب نصر الله:
انطوى الخطاب على جملة من المضامين والأهداف، حري بنا أن نتوقف حيالها في خضم الحديث الساخن عن الاستحقاق الرئاسي اللبناني، وما قد يشكله من أزمة تترك بصماتها على مسار البلاد ومصيرها, ومن هذه المضامين الآتي:
* خلط الأوراق السياسية.. لعبة يتقنها حزب الله:
فجّر الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله الأجواء شبه التوافقية في البلاد, وخلط الأوراق كلها في لعبة بات يتقنها تمامًا وفي الموعد الذي يساهم في عودة الأجواء المشحونة. فقد طالب نصر الله في خطابه بوضع كل أمور البلاد المستقبلية في سلة سياسة واحدة، عنوانها "الاستحقاق الرئاسي"، بمعنى أن يكون التوافق الذي يدعو إليه جزءًا من خلطة تتضمن الموافقة على رئيس الحكومة المقبل وتوزيع الوزارات والبرنامج السياسي لها والتعيينات العسكرية والأمنية.
والسؤال الذي يطرح نفسه، إذا كان الاستحقاق الرئاسي بمفرده يعاني من مخاض عسير، منذ أشهر، فكيف إذا انطوت العملية على كل هذه الخيارات؟ وكيف يمكن وضعها كلها ومرة واحدة في سلة تنازعية وفي ظل الوضع الحالي الذي يسود البلاد؟!!
* حيازة المسار والتحكم في المصير:
خلط الأوراق بهذه الكيفية لا يهدف إلا إلى إعاقة الوصول إلى الاستحقاق الرئاسي، وشل فاعلية العمل السياسي في البلاد لضمان تحقيق أهداف الحزب والقوى التي تدعمه بفرض ما يراه على الساحة, أي أنه في جوهره مقدمة للتحكم في مصير لبنان ومسارها.
فالمشكلة كما عبر عنها نصر الله في خطابه ليست في ذات الرئيس وشخصه، وإنما في "المسار" الذي يبدأ من انتخاب الرئيس، "فالمسألة ليست مسألة انتهاء ولاية رئيس ونريد الإتيان برئيس جديد.. هناك مسار ومصير ومستقبل جديد للبلد، ولذلك لا يمكن التسامح في قضية الاستحقاق الرئاسي، ولا حل المسألة بطريقة المجاملات.. الرئيس الذي سينتخب الآن، طريقة الانتخاب، وروحية الانتخاب وشخص الرئيس أي اسمه وشخصيته تؤشر على المسار السياسي العام الذي سيذهب إليه لبنان..".
فنصر الله كما يبدو من نص خطابه لا يتطرق فقط إلى الرئاسة، بل ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، إلى ضرورة البحث في تشكيلة الحكومة المقبلة والأجهزة الأمنية والقيادات المتنفذة، بهدف إحكام القبضة على المسار والتحكم في مصير لبنان.
أي أن المعنى الوحيد للتوافق بمفهوم نصر الله هو إرغام الآخر، معارضة وموالاة، على الانصياع والموافقة على انتخاب رئيس يحقق الرغبات الطموحة للحزب والقوى الخارجية التي يدور في فلكها، وتعيين قيادات أمنية وعسكرية والإتيان بوزارة تحظى برضا الحزب، وتدعم مشروعه وإلا فإن الفوضى والفراغ هي السبيل الوحيد حينذاك.
* توتير الساحة الشعبية والتهيئة لحرب داخلية:
خطاب نصر الله، انطوى على حملة تحريضية غير مسبوقة، تهدف إلى "تشميع الفتيل" قبل إيقاد نيران الفتنة ووضع البلاد على شفير هاوية التقسيم.
وظهر ذلك جليًا في الآتي:
1ـ وصفه حكومة رئيس الوزراء فؤاد السنيورة وقوى الرابع عشر من آذار بـ"مجموعة من اللصوص والقتلة من أتباع المشروع الصهيوني في لبنان"، وأنها "أغلبية مزورة، وغير حقيقية"، وتقوم بـ"أكبر عملية نهب في محاولة بيع قطاع الخلوي".
وهذه الأوصاف تتضمن تحريضًا مباشرًا على الانتقام من "القتلة"، والتصدي "للصوص"، وهو ما يعنى في النهاية حتمية الصدام لا التوافق، وإلا كيف يتوافق الحزب مع مجموعة من القتلة واللصوص الذين ينهبون أموال الشعب.
2 ـ تحريض الرئيس الحالي إميل لحود على رفض تسليم السلطة إلى رئيس منتخب بالنصف زائد واحد، أو إلى الحكومة الحالية لتمارس مهام الرئيس بالوكالة بعد انتهاء ولايته القانونية، حيث دعاه إلى القيام "بما يمليه عليه ضميره ومسئولياته الوطنية والقانونية والدستورية وقسمه اليمين الدستورية على حفظ البلاد".
وهذه دعوة صريحة ليقوم لحود بالانقلاب على الشرعية ومخالفة الدستور الذي يدعي زعيم حزب الله التمسك به، حيث يتأبط الاقتراح شرًا بإمكانية لجوء الرئيس لحود إلى تشكيل حكومة من المعارضة موازية للحكومة الحالية بمرسوم رئاسي، وهذا لاشك سيضع فريق ما يسمى بالمعارضة وفريق الموالاة في مواجهة مباشرة، بل قد نجد في وقت قريب رئيسين للبلاد وحكومتين أيضًا، وبقية السيناريو معروف ولا يحتاج لمزيد من الإيضاح.
* أفكار تعجيزية، والبديل الفوضى والفراغ:
طرح حزب الله تنظيم انتخابات مبكرة كمخرج وحيد للأزمة, والانتخابات لا غبار عليها, بيد أن الوضع في لبنان في هذه اللحظة لا يتناسب مطلقًا مع هذه الفكرة لعدة أسبابº منها الوضع الهش للمؤسسات القائمة، وشيوع ظاهرة التخوين بين الأطراف كلها، فكل انتخابات ستكون نتيجتها في النهاية مزورة، وقد ترفضها الأطراف الخاسرة كما يرفض حزب الله الاعتراف بالحكومة القائمة وتدخل البلاد من ثم في فراغ سياسي يبدو أن الحزب أشد ما يكون حرصًا عليه.
فنص خطابه، أن انتخابًا بالنصف زائد واحد هو أسوأ من الفراغ، وعدم انتخاب رئيس بالتوافق وبقاء السلطة في يد حكومة غير شرعية وغير مسئولة، هو أسوأ من الفراغ. فحزب الله يراهن على دفع الأمور نحو الفراغ الحقيقي، كخطوة متقدمة للإطباق على البلد، والتحكم في مسارها ومصيرها، وعلى حد تعبير رئيس "كتلة الوفاء للمقاومة" النائب محمد رعد: "إننا على استحقاق مفصلي، فإما تحسم الأمور في اتجاه العودة إلى استقرار الوضع، وتوحيد المؤسسات والتوافق على رئيس للجمهورية، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، أو الذهاب إلى التقسيم".
حزب الله بخياراته السياسية وانحيازه الطائفي، يدفع لبنان إلى هاوية الحرب والتطاحن مجددًا ومهد الأرض لتقسيم البلاد ووضعها في تابوت الفراغ السياسي، والانهيار الأمني، خدمة للكهنة في المعبد الفارسي والسوري على السواء.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد