هؤلاء المجاهدون كلهم خرجوا من أجل الشهادة، ونفتخر بذلك، ونسأل الله صباح مساء أن يرزقنا الشهادة" [الملا داد الله في لقاء اليوم بالجزيرة 2/3/2007].
تلك كانت أمنيته قبل أن يقتل على أيدي القوات المشتركة المحتلة والأفغانية الموالية لها، والذي أعلن عنه صباح اليوم في أحدث الضربات التي توجه لحركة طالبان وأقواها على الإطلاق بعد شهور لم تحقق فيها الولايات المتحدة الأمريكية وقوات إيساف التابعة لها نجاحاً في لجم خطام حركة طالبان التي نشطت من عقالها خلال الربيع الحالي، وحققت عدداً من الانتصارات رشحت آثارها في كواليس الكونجرس التي تشهد مساجلات عنيفة لمعالجة آثار التدهور الحاصل في أداء القوات الأمريكية في كل من العراق وأفغانستان.
خبر غياب داد الله أثلج صدور حكام واشنطن ولندن الذين يعرفون جيداً قدر الرجل في حركة طالبان، ويأمل كلاً من الرئيس الأمريكي جورج بوش ورفيقه توني بلير أن يرحلا من منصبيهما وقد أديا شيئاً يمكن أن يستند إليه الحزب الجمهوري الأمريكي والعمال البريطاني بعد رحيلهما عن الحكم في الانتخابات القادمة.
تحقيق إنجاز هو أمر مطلوب بإلحاح لدى عصبة الحرب الأنجلوساكسونية التي خاضت حرباً عدوانية في كل من أفغانستان والعراق، اكتوى بلظاها المدنيون قبل العسكريين، في وقت يضن فيه شعبا الولايات المتحدة وبريطانيا عن منح قواتهما تفويضاً على بياض، ومزيداً من الدعم في حربيهما العبثية في كلٍ, من العراق وأفغانستان.
لا يحمل داد الله ذات القيمة "الإرهابية" التي يمكن تسويقها إعلامياً لتلافي سيل جرار متدفق من الانتقادات التي تضرب قيودها حول البيت الأبيض و10 داونج ستريتº مثلما حمل الزرقاوي، أو ابن الشيبة، أو صدام حسين وغيرهم ممن قتلوا أو اعتقلوا ممكنين أعداءهم من عرض جثثهم أمام أنصار يتعطشون لرؤية الجثث والأغلال، ومن ثم إعادة مؤشر ميزان الجماهير إلى كفة العدوان.
بدا داد الله في الساحة صاحب صوت عالٍ, فيما يخص المقاومة الأفغانية، كما بدا واثقاً من النصر، وهو كان من الشخصيات ذات الكاريزما الإعلامية العالية، ويؤثر عنه تصريحات كثيرة لها دلالات قوية في غير اتجاه، وله باع في القيادة العسكرية، لكن التسويق لنجاح كبير في كسر الشوكة الطالبانية هو تكرار للوهم الذي من أجله يظل الجنود الأمريكيون والبريطانيون في عين الحالة التي سيقوا بها وإليها أول مرة حين وطأت أرجلهم تراب العراق وأفغانستان.
المحصلة المرجوة من قتل داد الله، وهي بث قدر من الاطمئنان في نفس الجندي المتلفت يمنة ويسرة حتى في منامه في بلداننا المحتلة فرقاً من قنص، أو تفجير، أو قصف، ربما يمكن أن تدعي الولايات المتحدة بطولة في قتل رجل بساق واحدة أوقف الاحتلال في الجنوب الأفغاني على ساق واحدة هو الآخر، ربما يصدقها الشعب الأمريكي وكذا البريطاني، لكن جنرالات البنتاجون في دواخل أنفسهم يدركون أنهم يفترشون العراء، وينامون بلا غطاء.
إنهم لاشك يفهمون أن داد الله لم يكن قائد طالبان، ولم يكن سوى الشخصية القيادية الأعلى صوتاً، والموجهة من قبل قيادة طالبان لنقل صورة أكثر تحدياً وقوة ومرونة في آن معاً، ويعلمون أن الرجل كان أحد العناصر التوحيدية النافذة في الحركة، والعاملة على تذويب غاضبي الباشتون سواء "المجاهدين" أم "المهمشين" في بوتقة طالبان، والآخذين بزمام الإعلام الخارجي للحركة، ومرآتها في الفضائيات والصحف، غير أنهم في مقابل ذلك يفهمون أن هذا دور يناط دوماً بشخصية لا تمسك بخيوط اللعبة في أيديها داخل الحركة، مثلما كان يوماً الملا عبد السلام ضعيف سفير الحركة في طالبان ملء السمع والبصر إبان العدوان على أفغانستان وقبله.
نعم صحيح لم يكن داد الله كضعيف الذي لم يعرف كقائد عسكري بارز، بل كان قائداً عسكرياً مرموقاً، يقود الآلاف من المقاتلين، وزمرة من الفدائيين، لكن أيعني ذلك أنه محرك الدفع في الجنوب الأفغاني؟! كلا، في الحقيقة كما تقدم، ومن خلال ما يستشف من ممارسات الحركةº أن الرجل كان "خاصرة أمنية رخوة" في القيادة الطالبانية التي تسعى لإخفاء قيادتها ومجلس الشورى لها تحت الأرض، أو في غياهب الكهوف لتنظيم أوضاع حركة تقاتل دولة عظمى، وعديد من دول الاحتلال التابعة، وتفقد إلى حد كبير احتضان الدولة الجارة / باكستان التي كشف داد الله قبل شهرين من مقتله أنها ساهمت في قتل الملا عثماني أحد أهم قادتها بالتنسيق مع الأمريكيين.
لم يكن متوقعاً في الحقيقة أن يتكرر ظهور داد الله في فضائية الجزيرة، وصحيفة الحياة، ووكالة الأنباء الإيطاليةº وصحيفة نيوز الباكستانية وغيرهم، ولا يكون ذلك مدعاة لمزيد من الاستفزاز الدولي تجعله في دائرة الاستهداف الأولى.
كما لم يكن متوقعاً أن يلمز هو النظام الباكستاني (الذي قد يكون متدخلاً عبر استخباراته لتغيير التركيبة القيادية لطالبان لتصبح أكثر "اعتدالاً" كما فعل آخرون غيره في مناطق أخرى لحركات إسلامية في "الشرق الأوسط") من قناة العداء الباكستاني الرسمي للأفغان كمثل قوله في برنامج لقاء اليوم بقناة الجزيرة في مارس الماضي: "الحكومة الباكستانية لها سياسة لا يفهمها أحد، فالتعنت، والاضطهاد، والظلم الذي واجهناه منها لم نره لا من أميركا ولا من بريطانيا، ولا حتى من أي دولة إسلامية، أو دولة كافرة، الأهداف التي قصفت وضربت في بادئ الأمر كانت بتوجيهات مباشرة من باكستان، الطلائع الأولية للقوات الأجنبية دخلت من جهة باكستان، والتدخل الاستخباراتي من قبل الأميركان وحلفائهم كان أيضاً بمساعدة باكستان".
ولا أن يدين بشدة سياسة واستراتيجية إيران بمثل هذه العبارات القوية: "أما إيران فإنها لم تتبنَّ أي سياسة جهادية عبر التاريخ، ولو قرأت التاريخ بإمعان فإنك قلما تعثر على أنهم جاهدوا الكفر، أنا ربما أجهل التاريخ وتفاصيله، وربما أن الإيرانيين جاهدوا فيما مضىº لكن مساندتهم للمسلمين لا أعرف عنها شيئاً"، ثم لا تستفز هذه العبارات مجموع الدول المحيطة بأفغانستان، لاسيما وهو يحرض الباكستانيين في المناطق المتاخمة لأفغانستان على القتال إلى جانب قواته، وإلى توجيه التحية لمناهضي الحكم الباكستاني ممن عرفوا بـ"طالبان الباكستانية"، ويحرك قواته للاستيلاء على مناطق عدة داخل إقليم هيرات المجاور لإيران، والذي تعتبره امتدادها الطبيعي في العمق الأفغاني، وبُعدها الاستراتيجي في ذلك البلد العنيد، أن تستفزهم فضلاً عن المحتلين الأصليين من بلدان غربية رمت بمجموعات استخبارية للتنسيق جميعاً لاستهداف "المغامر" الإعلامي الأبرز لحركة طالبان بشكل مباشر، أو عبر تحريك فريق من الموتورين الشماليين، أو مرتزقة الجنوب للنيل منه، أو الإدلاء بمعلومات عنه تسهم في قتله.
كل ذلك مفهوم وسائر بالطريق الطبيعي للأحداث، لكن ما الذي تجنيه الولايات المتحدة وبريطانيا على الصعيد الميداني فعلاً من غياب داد الله عن الساحة الأفغانية بعيداً عن كواليس السياسة على جانبي الأطلسي؟
رفاقه سيقولون بطبيعة الحال: إنهم كحركة تتعاطى النضال، وتتبنى "الجهاد"، يزيدها "استشهاد" القادة صلابة وتصميماً، وسيقول أعداؤه: إنهم أطاحوا برأس مهمة ستصيب أتباعها بوهن شديد لفقدانها، وكلا القولين غير دقيق كلية، وإن حوى قدراً من الصحةº إذ لا يمكن إغفال تكرار الملا عمر والملا داد الله في الآونة الأخيرة تأكيدهما على ضرورة الوحدة، ولا حديث الأخير عن القائد الأفغاني الشهير جلال الدين حقاني، أو حكمتيارº بلغة لا تحمل إلى الاعتقاد أنهم يعملون كفريق واحد (يظل حكمتيار زعيم الحزب الإسلامي خارج إطار طالبان، لكن حقاني القائد الميداني الأشهر في أفغانستان حالياً داخله)، ولا الأرقام التي كان يتحدث عنها الراحل بقدر من الجزافية أحياناً عن عديد قواته، وأمله الذي لم يتحقق عن إنهاء المعركة في الربيع، أو "الاستيلاء على جميع الولايات" مثلما قد قال نصاً من قبل، كل ذلك كمؤشر قوي على أن الحركة وإن كانت تخطو خطوات نصر وثابةº إلا أنها تعاني من بعض المشكلات، ربما على صعيد توحيد الجهود، وتناسقها بخاصة لجهة التعاون مع القبائل التي يغير بعضها أحياناً ولاءاته في بعض الولايات، ومن ثم فإن غياب شخصية لها وزن داد الله وحضوره الإعلامي والعسكري لاشك أنه مؤثر على نشاط المقاومة في الجنوب، لكنه مع ذلك ليس ذلك التأثير الذي يشفي غليل الاحتلال، وهو يرى المديريات تتساقط كأوراق الخريف في أيدي الحركة سواء أكان الملا داد الله حياً أم ميتاً.
من جانب آخر فإن الغربيين بالعادة يضعون الأقيسة بناء على تاريخ الحروب وظروفها معهم، وهذا وإن كان صحيحاً في الثقافة والمفهوم والطبيعة الغربيةº فإنه ليس كذلك فيما يعني المسلمين عموماً - والأفغان بصفة خاصة -، فجيوش المرتزقة والمجندة إجبارياً كثيراً ما تتفكك مع غياب القادة بينما الحركات الأيديولوجية ربما تستقوي أحياناً بغيابهم، أو على الأقل يبقى تأثير غيابهم محدوداً إلا في حالات تكون الحركات ضعيفة بالفعل، وتستقوي بأفراد قلائل، حين يغيبون تنكشف، وحين لا يغيبون لا يختلف الأمر كثيراً سوى بتأخير الانهيار، أما الحالة الطالبانية فجد مختلفة عن تلك الأخيرة، إذ إنها رغم كثير من المعوقات تبدو صاعدة، وتبدو آخذة في الترقي عسكرياً وربما فكرياً وسياسياً، وما التعامل مع قضية الفرنسي المختطف الأخيرة، ومسعى الحركة إلى إدارة الأزمة مع الساسة الفرنسيين على نحو مغاير لما كانت تفعل بالسابقº إلا مؤشراً على تطور ما يدور تركيبه في مختبر السياسة الأفغاني المعارض.
لقد كانت ضربة قتل داد الله كبيرة للحركة، لكنها لم تعد تصلح لرتق خرق باتساع الخريطة الأمريكية على سياستها والحليفة المزمنة بريطانيا، كلتاهما تحاول أن تتعلق بطوق نجاة من الغرق الاستراتيجي والعسكري في العراق وأفغانستان، ولن يمنحهما غياب داد الله هذا الطوق، مهما روجتا لذلك، أولم يك بائساً جداً أن تسوق كبريات الصحف الأمريكية اليوم معلومة لم يعلنها إلا الملا داد الله نفسه وهو أنه يقود "12 ألفاً ومئات من الاستشهاديين"، وكانوا بالأمس يكذبونه، فغدوا يصدقونه لمجرد أن ذلك يمنحهم فرصة احتساء خمر الانتصار الزائف!!
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد