بسم الله الرحمن الرحيم
تشير قضايا العولمة وتأثيراتها المتعددة إلى أن ميدان الصراع القائم والمستقبلي هو ميدان الثقافة والإعلام، حيث تبدلت وتغيرت وسائل السيطرة وإخضاع الشعوبº نتيجة للقوة التي تمتلكها تكنولوجيا الاتصال الحديثة في جانبي الوصول إلى كافة بقاع الأرض وما تتمتع به من أساليب إقناعيه وخصائص فنية.
والأمة المسلمة التي تسعى إلى النهوض من جديد، من خلال تقوية صلتها بالله _سبحانه وتعالى_، والاستقامة على أمره، وإقامة الحياة على العلم القائم على الكتاب والسنة النبوية المطهرة، لمواجهة الهيمنة الثقافية الغربية (الإمبريالية الإعلامية الثقافية) لابد لها من بناء إعلامها على الأسس القويمة لدين الله ليعبر عن وجودها المعنوي ومكانتها في حمل الهداية والسعادة والسلام للعالم.
"كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ, أُخرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَتَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَو آمَنَ أَهلُ الكِتَابِ لَكَانَ خَيراً لَهُم مِنهُمُ المُؤمِنُونَ وَأَكثَرُهُمُ الفَاسِقُونَ" (آل عمران:110).
ولكن كيف تنهض الأمة، وقد فقدت قوتها المعنوية، وأصبحت منهزمة من الداخل، إذ إن الإعلام الذي ينسب إلى المسلمين اليوم يمثل في غالبه صورة من صور الهزيمة النفسية للأمة أمام الثقافة والقيم الغربية، حتى أفقدهم الثقة في أنفسهم، وأصبح عائقاً أمام محاولات النهوض التي تفتقد في معظمها إلى الوسائل العصرية والفاعلة كوسائل الاتصال الجماهيري.
وعجز الأمة عن استثمار القدرات والإمكانات الهائلة لوسائل الإعلام للنهوض،لا يعني نهاية المطاف، بل إن ذلك يوجب على علماء الأمة، والمتخصصين في هذا المجال تحذير الأمة من استثمار أعدائها لهذا السلاح العصري الخطير وكشف أساليبهم في هدم كيان الأمة، ونسف قيمها ومبادئها، والسير بها خلف التيارات الفكرية المنحرفة، وتقديم التنازلات العقدية والأخلاقية، دون وعي من أبناء المسلمين بدعوى التحضر والحداثة والعصرية.
يقول عمر بن الخطاب _رضي الله عنه_: "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية، فيظهر أهل الجاهلية من أجل تقويض عرى الإسلام، فلا يقبل منهم أهل الإسلام ذلك، لمعرفتهم بهم وبجاهليتهم".
وقد حدد القرآن الكريم أعداء الأمة على اختلاف أصنافهم وأشكالهم وطبيعة نياتهم ومواقفهم وسبل مواجهة كل ذلك.
قال _تعالى_: "مَا فَرَّطنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيءٍ," (الأنعام: من الآية38).
وقال _تعالى_: "وَنَزَّلنَا عَلَيكَ الكِتَابَ تِبيَاناً لِكُلِّ شَيءٍ, وَهُدىً وَرَحمَةً وَبُشرَى لِلمُسلِمِينَ" (النحل: من الآية89).
والمنافقون هم أكثر العناصر المعادية للإسلام إشاعة للغربة التي حذر منها الرسول _صلى الله عليه وسلم_ في المجتمع المسلم، من خلال عملهم الدائم الدؤوب لهدم عرى الإسلام وصرف الناس عنه قال _تعالى_: "هُمُ العَدُوٌّ فَاحذَرهُم قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤفَكُونَ" (المنافقون: من الآية4).
يقول ابن القيم _رحمه الله_: "إن بلية الإسلام بالمنافقين شديدة جداًº لأنهم منسوبون إليه وهم أعداؤه في الحقيقة، يخرجون عداوته في كل قالب يظن الجاهل أنه علم وصلاح، وهو غاية الجهل والفساد، فلله كم من معقل للإسلام هدموه؟ وكم من حصن له قد قلعوا أساسه وخربوه؟ وكم من علم له قد طمسوه؟ فلا يزال الإسلام وأهله منهم في محنة وبلية، ولا يزال يطرقه من شبههم سرية بعد سرية ويزعمون أنهم بذلك مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون".
وهذه الفئة مهما تخفت فإن الله يظهر ما تضغنه صدورهم وما تبطنه قلوبهم، قال _تعالى_: "أَم حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ أَن لَن يُخرِجَ اللَّهُ أَضغَانَهُم وَلَو نَشَاءُ لَأَرَينَاكَهُم فَلَعَرَفتَهُم بِسِيمَاهُم وَلَتَعرِفَنَّهُم فِي لَحنِ القَولِ وَاللَّهُ يَعلَمُ أَعمَالَكُم" (محمد:29، 30).
ولذلك ورد الحديث عن النفاق والمنافقين في سبع عشرة سورة مدنية من جملة ثلاثين سورة، واستغرق ذلك قرابة مئتين وأربعين آية. قال ابن القيم _رحمه الله_: "كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم".
وعلى ذلك فالمنهج الصحيح هو الكشف عن الأساليب الإعلامية للمنافقين بالعلم الصريح القائم على كتاب الله وسنة رسوله _صلى الله عليه وسلم_ للبعد عن الوهم والخرافة والظن، قال _تعالى_: "إِنَّ هَذَا القُرآنَ يَهدِي لِلَّتِي هِيَ أَقوَمُ" (الإسراء: من الآية9) .
فالقرآن الكريم كما يقول سيد قطب _رحمه الله_: "كان دائماً في المعركة الناشئة في القلوب بين تصورات الجاهلية وتصورات الإسلام، والمعركة الناشئة في الجو الخارجي بين الجماعة المسلمة وأعدائها الذين يتربصون بها من كل جانب، هذه المعركة كتلك ما تزال قائمة، فالنفس البشرية هي النفس البشرية، وأعداء الأمة الإسلامية هم أعداؤها، ولا نجاة للنفس البشرية ولا للأمة الإسلامية إلا بإدخال هذا القرآن في المعركة يخوضها حية كاملة كما خاضها أول مرة".
ووسائل الإعلام بما تتمتع به من المميزات والخصائص، تعد من أهم الوسائل المعاصرة التي استخدمها المنافقون بشكل مركز لتحقيق أهدافهم، وتنفيذ مخططاتهم، إذ إنها أسهمت في إلباس الباطل بثوب الإصلاح، وزخرف القول، حتى يروج بين الناس، ولذلك يلجأ المنافقون إلى إلباس طرقهم وأهدافهم وأفكارهم لبوس الإصلاح والحرص على المصلحة. قال _تعالى_: "وَكَذَلِكَ جَعَلنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ, عَدُوّاً شَيَاطِينَ الأِنسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعضُهُم إِلَى بَعضٍ, زُخرُفَ القَولِ غُرُوراً وَلَو شَاءَ رَبٌّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرهُم وَمَا يَفتَرُونَ" (الأنعام:112).
ويعود تمكنهم من الإعلام وقوتهم في السيطرة عليه وخطرهم، إلى ضعف المسلمين في هذا العصر إذ تلاشت قوتهم، فكان إظهار المنافقين لنفاقهم أشد وأعظم. قال حذيفة بن اليمان _رضي الله عنه_ (أمين سر الرسول _صلى الله عليه وسلم_ في المنافقين): "النفاق اليوم أكثر منه على عهد رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ "أو في الرواية الأخرى" كانوا على عهد النبي _صلى الله عليه وسلم_ يسرونه، واليوم يظهرونه".
كما ضاعف من خطورة استغلال المنافقين للإعلام ما تعاني منه الشعوب الإسلامية من الجهل والأمية والفقر والفرقة، بالإضافة إلى الأساليب الإعلامية المستخدمة لتحقيق القبول والإقناع للرسالة الإعلامية، فهي الطريقة التي يتوصل بها إلى الهدف النهائي والقصد الأساسي للاتصال الإعلامي وهو التأثير على المتلقي (الجمهور)، حيث أظهرت الدراسات الإعلامية العامة والدراسات الإعلامية الإسلامية خاصة، اتفاقاً حول أهمية الأسلوب وضرورته للتأثير، وما يصاحب ذلك من المؤثرات التي أفرزتها التقنية، واتفاقاً حول تعدد الأساليب وتنوعها، وارتباط ذلك بموضوع الإعلام وأهدافه والجمهور المخاطب.
ومن هنا فإن على علماء الأمة أن يستجيبوا لحاجة الأمة إلى الكشف عن الأساليب الإعلامية للمنافقين -كما بينها القرآن الكريم- للحذر والتحذير منها ومن أصحابها، ولكشف الأقنعة التي يتخفون وراءها لهدم عرى الإسلام، وإضعاف أهله من خلال حملاتهم لطمس الحقائق، وتزوير الوقائع، والتشكيك في المسلمات، والطعن في الثوابت، والتلبيس والتدليس على العامة، فهذا الموضوع يستمد أهميته من المبررات التالية:
-1 وجوب كشف الأساليب الإعلامية للمنافقين، من خلال فهم كتاب الله وسنة رسوله _صلى الله عليه وسلم_ لما يمثله الإعلام اليوم من قوة مادية ومعنوية للأمة، وللحذر والتحذير منهم قال _تعالى_: "هُمُ العَدُوٌّ فَاحذَرهُم قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤفَكُونَ" (المنافقون: من الآية4).
كما أرشد _سبحانه وتعالى_ إلى تتبع المجرمين والنظر في طرقهم لهدم الدين ومحاربته، قال _تعالى_: "وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ وَلِتَستَبِينَ سَبِيلُ المُجرِمِينَ" (الأنعام:55).
وعن عمران بن الحصين _رضي الله عنهما_ مرفوعاً إلى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قال: "إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي منافق عليم اللسان" أخرجه الإمام أحمد وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (1554).
_2 لمجاهدتهم، فقد نزل على الرسول _صلى الله عليه وسلم_: "يَا أَيٌّهَا النَّبِيٌّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغلُظ عَلَيهِم وَمَأوَاهُم جَهَنَّمُ وَبِئسَ المَصِيرُ" (التوبة:73).
وأعظم الجهاد هو جهاد العلم، حيث ذكر السلف _رضوان الله عليهم_ أن مجاهدة المنافقين تكون باللسان زجراً وتأنيباً وإقامة للحجة عليهم. (تفسير ابن حجر، (10/184).
ويقول تلميذ المصنف الحافظ ابن قيم الجوزية _رحمه الله_: "وكذلك جهاد المنافقين، إنما هو بتبليغ الحجة، وإلا فهم تحت قهر أهل الإسلام، فجهاد المنافقين أصعب من جهاد الكفار، وهو جهاد خواص الأمة وورثة الأنبياء" (زاد المعاد 3/6)..
واستنفار الأمة لمجاهدتهم ضمن إطار "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة" والتحذير من سمات النفاق والمنافقين.
3_ليتجنب المسلمون طاعاتهم، فقد أمر الرسول _صلى الله عليه وسلم_ بعدم طاعتهم رغم ما يزخرفون من القول، قال _تعالى_: "يَا أَيٌّهَا النَّبِيٌّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الكَافِرِينَ وَالمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً" (الأحزاب:1).
4_لوعظهم فقد يكون منهم الجاهل أو المغرر به، أو قد يهديهم الله _سبحانه وتعالى_ قال _جل وعلا_: " وَعِظهُم وَقُل لَهُم فِي أَنفُسِهِم قَولاً بَلِيغاً" (النساء: من الآية63).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد