بسم الله الرحمن الرحيم
أشار الكاتب في الحلقة السابقة إلى أن العلمانية هي أحد الانحرافات التي أصابت الأمة الإسلامية، ورأى أنها إحدى الصور الفجة لانفصال السلطان عن القرآن، كما أومأ إلى أن بعض الباحثين يرى أن الشرارة الأولى للغزو الصليبي بالفكر والقيم اتقدت في ذهن لويس التاسع عشر بعد هزيمته وأسره في مدينة المنصورة عام 1250م، ثم طوّف بنا الكاتب في أنحاء شتى من عالمنا الإسلامي ليرصد حركة التغريب، وها هو اليوم يشد بنا الرحال إلى بقاع أخرى لنشهد بعضاً مما أصاب الأمة من أوضار بسبب حركة العلمنة والتغريب. - ^ -
أما في تونس (1):
فلم يكن الحال أقل سوءاًº فبعد زيارة إلى أوروبا سنة 1846م (1262هـ)، واستقبال حافل في باريس بدأت سياسة التعاون بين أحمد باي(2)وفرنسا، فسمح لهم بإنشاء كاتدرائية في مواجهة مدينة تونس (في المكان الذي قيل إن لويس التاسع مات فيه أثناء الحروب الصليبية)، وعهد إليهم بإنشاء المدارس وتدريب الجيش.
ورغم عدم وقوع تونس تحت الاحتلال الأجنبي رسمياً إلا أن النفوذ الأجنبي فيها كان كبيراً، كما كان هناك تأثر بحركة التنظيمات التي شهدتها الدولة العثمانية ـ وكانت تونس تابعة لها ـ، ومن ثم: كان طبيعياً أن تشهد تونس أيضاً حركة (إصلاحات) على النسق الأوروبي.
ففــي عــام 1275هـ (1857م) أصــدر باي تـونــس (محمد باشا) ـ استجابة لرغبة القناصل الأوروبيين ـ القانون الأساسي لتونس، وهو شبه دستور عرف باسم عهد الأمان، وقد صيغ على نمط خط كلخانة العثماني، حيث بناه على قواعد ثلاث: الحرية، والأمان التام، والمساواة التامة بين المسلمين وغير المسلمين أمام القانون.
وفي عهد الباي محمد الصادق باشا وبفضل جهود الوزير خير الدين باشا (التونسي) تم تعديل عهد الأمان، فصدر أول دستور في العالم الإسلامي على الإطلاق سنة 1861م (1277هـ)، وبحسب هذا الدستور يتولى الباي السلطة التنفيذية ويعاونه وزراء يقوم هو باختيارهم، وهو الذي يقوم أيضاً بإصدار (التشريعات) بمعاونة مجلس تشريعي مكون من (60) عضواً يقوم الباي بتعيينهم من التونسيين والجالية الأجنبية، وقد نصت المواد الثلاثة الأولى من الدستور على المساواة أمام القانون والإدارة والضرائب دون تمييز بين الأجناس والأديان، كما خصصت المواد (9، 10، 11) لتأكيد حقوق الأجانب، ثم بدأ العمل في إصدار قانون مدني وآخر جنائي بعد صدور هذا الدستور، وكان خير الدين «هو العقل المنظم لهذه الحركة ومن له النصيب الأكبر في وضع القوانين لمجلس شورى
منتخب»(1)، فقد كان هو الرئيس الفعلي للمجلس التشريعي بجانب توليه لوزارة الحربية.
وفي عام (1284هـ/1867م) نشر خير الدين كتابه: (أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك)، شرح فيه آراءه في الإصلاح والتجديد التي جاءت متأثرة بمشاهداته أثناء رحلته إلى فرنسا (1853م ـ 1857م/ 1269هـ ـ 1273هـ )، حيث يقول في مذكراته: «إن إقامتي الطويلة في فرنسا ورحلاتي العديدة مكنتني من دراسة أسس المدنية الأوروبية وأحوالها، فضلاً عن مؤسسات الدول الكبيرة في أوروبا، فانتهزت فرصة اعتزالي الحياة السياسية ووضعت مؤلفي السياسي الإداري: (أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك)»(2)، بل صرح في كتابه هذا «أنه استقى بعض معلوماته وآرائه في (أقوم المسالك) من كتب أوروبية في السياسة والتاريخ والاقتصاد والقانون...»(3)، وقد اهتم فيه بالتدليل على أهمية اللحاق بالغرب في منجزاته ومخترعاته، ولكنه ألحق بذلك أيضاً (تنظيماته) باعتبار أن هذه التنظيمات هي أساس التقدم المادي الذي أحرزه الغرب، كما إنه عدَّ هذه (التنظيمات) الغربية مؤسسة على دعامتي الحرية والعدل (اللذين هما أصلان في شريعتنا)(4)، غافلاً عن اختلاف المصدر ـ ومن ثم: القيم والتشريعات ـ المؤسسة لهاتين الدعامتين في كل من النظام الغربي والنظام الإسلامي.
ولأجل مواءمة الشريعة (لإصلاحاته) «فقد دعا إلى الاجتهاد في تأويل الشرع حتى من غير التمسك بالمذاهب الفقهية، ما دامت غاية المجتهد أن يخدم الصالح العام»(5)، وعليه: فقد عهد إلى مختصين بدراسة الفقه الحنفي والمالكي وعادات البلاد والقوانين المعمول بها في الدولة العثمانية وفي مصر وفي أوروبا، وأن يستخرجوا منها قانوناً يناسب تونس، ولكنه خرج من الوزارة قبل أن تتم هذه اللجنة عملها(6).
الهند(7):
استطاع الإنجليز القضاء على قوة الأمراء الذين لم يدخلوا في طاعتهم، وانتهى الأمر بأن تمكن القائد البريطاني من القضاء على ك
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد