بعد مخاض عسير وبرعاية دولية تمثلت في الاتحاد الإفريقي والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبيº تمت بأبوجا العاصمة النيجيرية الجمعة الماضية 5/5/2006م التوقيع على اتفاق سلام بين الحكومة السودانية وفصيل مني أركوي قائد حركة تحرير السودان، بينما امتنع عن التوقيع كل من عبد الواحد محمد نور القائد الآخر لحركة تحرير السودان، وخليل إبراهيم قائد حركة العدل والمساواة الفصيل الآخر المتمرد في دارفور.
ولقي توقيع اتفاق السلام مع فصيل أركوي ترحيبا واسعا من الاتحاد الإفريقي والولايات المتحدة الأمريكية التي كان مساعد وزير خارجيتها يرابط في أبوجا منذ زمن ليس بالقصير، كما رحب بالاتفاق الاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية.
وينص مارشح من بنود الاتفاق على إعطاء متمردي دارفور منصب مساعد رئيس الجمهورية ورئيس السلطة الانتقالية في دارفور، بالإضافة إلى مناصب رفيعة في إقليم دارفور وفي البرلمان المركزي (المجلس الوطني)، مع توقيع اتفاق حول الترتيبات الأمنية والعسكرية تنص على إدماج قوات المتمردين في دارفور في الجيش السوداني ويُقدر عددهم بحوالي أربعة آلاف جندي، مع تصريحات أمريكية بأن الاتفاق يلزم الحكومة بنزع سلاح الجنجويد.
ويعترض كل من عبد الواحد محمد نور زعيم الفصيل المنشق من حركة تحرير السودان، وخليل إبراهيم زعيم حركة العدل والمساواة المتمردة بأن الاتفاق لم يُعطِ دارفور منصب نائب رئيس الجمهورية، كما أنه لم ينص صراحة على نزع سلاح الجنجويد، ولم يجعل من دارفور إقليما واحدا، وهي المطالب التي تزعم الحركات المتمردة التي لم توقع على الاتفاق بأنها مهمة لتوقيع اتفاق مع الحكومة.
ويبدو الحماس الدولي واسعا تجاه الاتفاق الذي وُقع، خاصة من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي بالإضافة إلى الاتحاد الإفريقي نفسه الذي رعى الاتفاق وساهم في تقريب وجهات النظر بصبر طويل، ولكن لماذا كل هذا الحماس لاتفاق لم يستوعب كل الحركات المتمردة؟ ولماذا بدت الأطراف الدولية متعجلة لتوقيع اتفاق سريع مهما كان شكله وحجم الأطراف الموقعة عليه؟ وفي الواقع فإن لكل طرف من الأطراف الدولية أسبابه ومراميه.
الولايات المتحدة الأمريكية تريد أن تطوي ملف دارفور بعد أن ضمنت نفوذها هناك خاصة بعد مؤتمر حسكنيتة أوائل هذا العام الذي رعته الولايات المتحدة ونصبت بموجبه مني أركوي زعيما عسكريا وسياسيا لحركة تحرير السودان وإقصاء عبد الواحد محمد نور ذي الميول اليسارية عن زعامة الحركة، كما أن الولايات المتحدة التي تبدو أياديها واضحة في المحاولة التي تمت في تشاد أواخر الشهر الماضي تريد مزاحمة وإقصاء النفوذ الفرنسي في المنطقة، ولقد فطن الفرنسيون لذلك فقاموا بإحباط المحاولة الانقلابية في تشاد بعد أن وصل المتمردون إلى إنجمينا وكانوا قاب قوسين أو أدنى من استلام السلطة لولا تدخل الفرنسيين، والاتفاق الذي وُقع يتيح للولايات المتحدة نفوذا أكبر في الإقليم، فهي قد ضمنت الفصيل الرئيسي الذي وقع على الاتفاق، بالإضافة إلى نفوذ الولايات المتحدة في السلطة المركزية في الخرطوم عبر الحركة الشعبية الشريك الرئيس في حكومة الخرطوم، وهكذا يزداد نفوذ الولايات المتحدة في السودان بالنقاط التي تحرزها هنا وهناك في المركز والأطراف عبر الحركات المتمردة، ولعل الولايات المتحدة تسعى لتسوية ملف الشرق في الأيام القادمة، خاصة بعد أن خالفت جبهة الشرق مقررات القمة العربية الأخيرة بالخرطوم القاضية بإشراف ليبيا على مفاوضات الشرق، واقترحوا بدلا لذلك وساندتهم في ذلك الحركة الشعبية ذات العلاقات القديمة مع أسياس أفورقي شرطي المنطقة ووكيل الأمريكان في منطقة القرن الإفريقي، مما اضطر الحكومة ـ للأسف ـ للرضا بالإشراف الأرتري على مفاوضات الشرق، وتلك قصة ستظهر فصولها في الأيام القادمة لصالح الولايات المتحدة ووكلائها في المنطقة.
أما الاتحاد الأوروبي فقد ظل يزاحم الوجود الأمريكي في المنطقة، والوصول لاتفاق سلام يسهل له مهمته أكثر من استمرار الحرب، لذلك لم يكن مستغربا أن يعلن الاتحاد الأوروبي عن مساعدات لإقليم دارفور بمجرد الإعلان عن توقيع الاتفاق، وهي مساعدات كانت تنتظر توقيع الاتفاق فقط كما صرح بذلك مسئولو الاتحاد الأوروبي، والمعركة القادمة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ستكون حول تشكيل القوات الدولية التي ستصل إلى دارفور بعد توقيع الاتفاق، وهو أمر قد تم الاتفاق على خطوطه العريضة في بروكسل في أبريل الماضي عند زيارة نائب رئيس الجمهورية عند لقائه بالمانحين الأوروبيين بحضور أمين عام الاتحاد الإفريقي.
أما الاتحاد الإفريقي يستعجل الوصول لاتفاق وطي ملف دارفور لأنه كان قد أعلن مد فترة قواته الموجودة في دارفور إلى سبتمبر المقبل، والاتحاد الإفريقي الذي يعاني عجزا في التمويل ربما ـ بل الأرجح ـ أن يفسح المجال للقوات الدولية في دارفور بعد سبتمبر المقبل لعجزه في التمويل ولقلة خبرته في هذا المجال، ولارتباطاته الشديدة بالسياسات الأمريكية في المنطقة.
من المرجح أن توافق الحكومة السودانية بموجب الاتفاق الذي وقعته مع فصيل مني أركوي على نشر قوات دولية في دارفور، وهو الأمر الذي أشار إليه ِأكثر من مسئول سوداني وربطه بالوصول إلى اتفاق في دارفور، كما أشار إليه الاتحاد الإفريقي عندما قرر مد فترة وجود قواته في دارفور في قراره الذي أصدره في أبريل الماضي، وهكذا تستشري القوات الدولية في السودان وتضاف قوات أخرى إلى القوات التي أوجدتها اتفاقية نيفاشا ويُقدر عددها بحوالى عشرة آلاف جندي وشرطي، وهو الأمر الذي يلاقي رفضا من قطاعات واسعة من السودانيين والمسلمين خارج السودان وعلى رأسهم أسامة بن لادن الذي أعلن في شريط مسجل الأسبوع الماضي استعداده لمنازلة القوات الدولية في دارفور.
إزاء هذه المعطيات يقفز التساؤل:هل أنهى اتفاق أبوجا الأزمة في دارفور؟ أم أعاد صناعتها على نحو آخر؟
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد