ما كادت نار الحرب تهدأ في غابات الجنوب الاستوائيةº حتى اشتعلت دارفور كما لم تشتعل من قبل!
صور القرى المحرقة، آثار التدمير والقتل، انكسارات النساء والعجزة، نظرات الأطفال التائهة في معسكرات اللجوءº كلها مشاهد تتناقلها أجهزة الإعلام العالمية من صحافة وإذاعة وفضائيات ومواقع على الويب على أوسع نطاق!!، وهكذا تناولوا أقوال سكرتير عام الأمم المتحدة عن أزمة دارفور أنها: (أسوأ كارثة إنسانية شهدها العالم في الوقت الحالي ).
إن الاحتراب القبلي في دارفور ليس جديداً، بل هو أمر يقع بين القبائل منذ أن وعت وجودها في تلك المنطقة، ولكن الأمر كان يتم علاجه ببساطة بواسطة مؤسسة الأجاويد الذين يقومون بفض النزاع، وحل الخلاف، ودفع ديات القتلى، وينتهي الأمر!!، ولكننا الآن ولأول مرة في خضم هذا التاريخº نواجه إشكالية تتكئ على أساس إثني ( عرب – وزنوج )، فهل جاء ذلك من فراغ؟!
الحق أن عدة عوامل ساهمت في تفجير هذا الصراع بالدرجة العظمى، وهنا نحاول قراءة ذلك من خلال تتبع بعض الإسقاطات والتي أهمها:
1- تنامي الشعور الجهوي:-
في ظل عدم اكتراث الحكومات المتتالية على السودان بترويج برنامج ثقافي جامع لتوحيد النسيج الاجتماعي - أعني نشر وتأكيد الثقافة الإسلامية كرابط وحيد قادر على جمع هذا الشتات، بالإضافة إلى فشل هذه الحكومات في نشر مشروعات التنمية في كل القطر، إن ضعف روح التدين والفهم السليم للإسلام، وبالتالي غياب أثره في السلوك الاجتماعي للكيانات القبلية عربية كانت أم أفريقيةº جعل القبائل تقدم اعتدادها بالانتماء العرقي والقبلي على كل شيء، فحين يضاف لذلك غياب مشروعات التنمية والخدمات الأساسية لمجتمع بشري في ظل دولة متمدنة فلا بد أن يتولد عن ذلك شعور بالغبن، هذا الغبن تترجم إلى شعور متنامٍ, بأن مجموعة القبائل الشمالية ظلت تحتكر الحكم والثروة، وتسعى إلى تحطيم من سواها من الإثنيات الأخرى بزرع الخلافات والتهميش وغيره، وهكذا سمعنا بمؤتمر البجا في الشرق، ورأينا الفونج في الانقسنا في جنوب النيل الأزرق يتحالفون مع متمردي الجنوب، وسمعنا في الغرب بدولة الزغاوة الكبرى، وحينا بدولة البقارة.
1- أحلام الدويلات الانفصالية :-
لقد أدى نجاح متمردي الجنوب المدعومين عالمياً في فرض مطالبهم بقوة السلاح إلى خلق إحساس عام بأن السلاح هو القوة الكفيلة باسترجاع الحقوق، وتحقيق المطالب، بالإضافة إلى وجود بعض الأحلام القديمة لبعض القبائل التي تشكل امتداداً يفترش أراضي أكثر من دولة مجاورة للسودان، تلك الأحلام التي تُمني بقيام دولة منفصلة على غرار أحلام الأكراد في تركيا والعراق، ولكن هذه الأحلام أصبحت تدعمها حركة، وسعي دءوب، وتخطيط وتنظيم لتحقيقها واقعياً، هذا الأمر بطبيعة الحال يزعج الدولة في المقام الأول كما يزعج القبائل العربية التي تعيش حالة تنافس مع تلك القبائل صاحبة الأحلام، فإن قيام كيان مثل هذا يمكن أن يشكل تهديداً لوجود العرب ومصالحهم.
2- الأيادي المشبوهة :-
لقد تم تحريك بعض العرب في الغرب بشكل أو بأخر نحو التشبع بفكرة النقاء العرقي، ونحو التفكير في خطورة وجود العنصر الزنجي إلي جنبها في دارفور، وبالتالي دفعها إلى العمل علي إزاحة هذا الوجود عن كل الغرب، ففي منتصف التسعينيات ظهرت بعض الوثائق التي تحمل اسم قريش (1) وقريش (2)، هذه الوثائق تحمل مخططات لبرنامج الإزاحة، هذا بالإضافة إلى رؤية وبرنامج للسيطرة على حكم السودان!!، وبغض النظر عن مدى انتشار القناعة بتلك الوثائق وما تحمله من مضامينº فإنها تؤكد أن هنالك من يحاول التلاعب باستثمار العصبية العربية ضد غير العرب في دارفور، وفي المقابل من الجانب غير العربي، بعد انفجار التمرد في دارفور وظهور الحركات المتمردة ظهرت الأيادي المشبوهة مرة أخرى، فسمعنا بدور إرتيري، ثم ظهرت علاقة بعض الأحزاب المنشقة على السلطة!!، والحق أن الأمر برمته لا يستبعد أن تكون خلفه أيدي عملاء المخابرات الأمريكية، فإن أمريكا تطمح في تمديد وجودها العسكري في المنطقة.
دور حرب الجنوب في خلق تقارب وتحالف بين العرب والحكومة:-
لقد شكلت الحرب الانفصالية في جنوب السودان تهديداً للمراعي العربية التي تمتد في وسط الجنوب حتى بحر العرب وديم زبير وغيرها، بالإضافة إلى وجود العداء القديم بين العرب والدينكا وغيرها من القبائل النيلية، كل ذلك أوجد نوعاً من التحالف استثمرته الحكومة في القضاء على الانفصاليين في الجنوب، وقامت بتسلح العرب لهذا الغرض، ولكن العرب لم يكتفوا بمعارك الجنوب، وإنما استخدموا السلاح في تصفية حساباتهم مع القبائل الزنجية في دارفور!!
وهكذا ظهرت الميليشيات المعروفة ( بالجانجويد )، والتي نشرت الرعب بشكل واسع، وصارت تتحدث عن نفسها كجزء من الحكومة، وهكذا فقد وقع في روع غير العرب أن الدولة تحاربهم عبر تكتل المليشيات، وهكذا انفجر الوضع تمرداً ضد الدولة.
سكوت الحكومة في الخرطوم:-
لقد أخطأت الحكومة جداً بالصمت في عدة مواطن، أخطأت بالصمت عن ممارسات المليشيات العربية ضد غير العرب، ولم تتحرك بشكل جدي لنزع سلاح هذه المليشيات وتلك القبائل، ربما لم يكن ذلك في مقدورها ولكن النتيجة واحدة، كذلك أخطأت حينما سكتت عن الأزمة في بداية انفجارها، ورأت أن تصور الأمر على أنه ممارسات لبعض عصابات النهب المسلح وليست حركة تمرد مسلح، وأدى ذلك إلى خروج الأمر برمته من يدها حين صار لهذه الحركات مكاتب سياسية في أوروبا، وصارت أكثر جهة تتحدث باسمها بما فيها المؤتمر الشعبي، لقد حاولت الحكومة سحق الحركة في صمت، ولكن الصمت انقلب ضجيجاً واسعاً شغل كل العالم المتربص بفرصة كهذه.
والآن وقد صارت قضية دارفور مشكلة دولية، وأزمة إنسانية لا مثيل لها في الوقت الحالي - على حد تعبير كوفي عنان -º فإن كثيراً من الأطراف صارت تحرك أقدامها استعداداً للتدخل، أولها أمريكا التي تطمع في توسيع وجودها العسكري والأمني والاقتصادي في السودان، وهذه ستتخذ من وصايتها المفروضة على العالم ذريعة للتدخل.
ثانياً فرنسا التي تعتبر أن لها حقاً استعمارياً قديماً في كل الشريط الذي يطوق القارة من الغرب إلى الشرق، وبالتالي فإنها لن تدع لأمريكا فرصة الانفراد بأي نقطة من النقاط على هذا الشريط، وستتخذ من تشاد وصلتها بالأزمة مدخلاً.
ثالثاً الأمم المتحدة بقوات حفظ السلام خاصة بعد تقرير لجنة تقصي الحقائق التي رفعت تقريرها بأن ما يجري في دارفور هو عمليات تطهير عرقي، حتى الحكومة لم تستطع إلا أن تبدل هذه الكلمة بما هو أخف وقعاً، فقالت: أنه ثمة انتهاكات لحقوق الإنسان، ونفت جذور التطهير العرقي.
إن هذه ألازمة جمعت كل التعقيدات التي يمكن أن تقال في إفرازات أي أزمة من الأزمات، فقد تعمق الشقاق الاثني بشكل ليس له مثيل، كما أن شبح التدخل وشروره الذي عرفته مناطق مثل الصومال، والبلقان، والعراق أصبح أقرب من أن يدفعه دافع من مناورة سياسية، أو قفزات دبلوماسية.
* إن غياب الدين هو الذي صنع الأزمة، وفتح أبواباً للتفاقم، وبالتالي فإن الدور الإسلامي هو المعول عليه.
لكن كيف هو حال الصف الإسلامي!!
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد