بسم الله الرحمن الرحيم
المشروع الأمريكي الرامي إلى إحداث تغييرات جذرية في منطقة الشرق الأوسط يطرح مزيداً من الأسباب الموجبة للحديث عن ضرورة قيام نظام دولي جديد لا يستند إلى الأحادية القطبية، مثل هذا النظام غير موجود كما يقول أمين عام الجامعة العربية عمرو موسى (في حوار خاص)، لذلك يحدث هذا الاضطراب الكبير على المستوى العالمي، والذي كان غزو العراق، وتأجيج الصراع العربي ـ الإسرائيلي بعض نتائجه المباشرة.
ومنذ الكشف عن مشروع «الشرق الأوسط الكبير» (وهو نسخة متطورة عن مشاريع أمريكية سابقة)، بدا أن الإدارة الأمريكية مصممة على مواصلة خطواتها الأحادية، برغم إعلان نيتها عرض المشروع على قمة الدول الثماني في مطلع يونيو المقبل، ثم على القمة الأمريكية ـ الأوروبية في وقت لاحق، وبعد ذلك على القمة الأطلسية التي ستنعقد في أنقرة نهاية يونيو.
إذ أن « المشروع الإصلاحي والتغييري الشامل الذي يهدف إلى تعميم الديمقراطية » في طول المنطقة وعرضها - كما قيل - يأخذ شكل الإملاء والإجبار على مختلف دول المنطقة، ويترك الباب مفتوحاً أمام الولايات المتحدة للتدخل في كل كبيرة وصغيرة من شئون البلاد والعباد.
إلى جانب أن هذا المشروع يسقط موضوع الصراع العربي - الإسرائيلي كلياً، ويتصرف حياله وكأنه غير موجود، في حين أن هذا الصراع المدمر الذي تسبب في تفجير سلسلة طويلة جداً من الحروب وأعمال العنف المختلفة لا تزال تفاعلاتها تتوالى حتى اليومº أحدث حالة من الفوضى العارمة في المنطقة على مدى نصف القرن الماضي.
وهناك إجماع دولي على استحالة أن تستعيد المنطقة أمنها واستقرارها وهدوءها من دون إنهاء الصراع على نحو عادل وشامل ومتوازن، ومن دون بلوغ الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة، وإقامة دولته المستقلة.
هذه الأمور وغيرها مما يحيط بموقف الإدارة الأمريكية الحالية من شكوك وشبهات هي التي حملت الدول العربية على أن تتخذ موقفاً سلبياً من المشروع الأمريكي، كذلك فعلت الدول الأوروبية الرئيسية - لا سيما فرنسا وألمانيا - التي أبدت خشيتها من أن يؤدي التحرك الأمريكي الجديد إلى اضطرابات إضافية في منطقة الشرق الأوسط من شأنها تدمير الإنجازات التي حققتها الشراكة الأوروبية - المتوسطية من جهة، وتهديد أمن دول الاتحاد الأوروبي ومصالحها من جهة أخرى.
سخط في مواجهة الإملاء:
على الصعيد العربي أثار الشكل الإملائي والمتعالي لمشروع «الشرق الأوسط الكبير» سخط الدول العربية كلها، وإن كان المسئولون العرب أقروا بالحاجة إلى إصلاحات واسعة في دولهم ومؤسساتهم على أن تتم في صورة متدرجة، وضمن الظروف الخاصة بكل منها، ومن دون تدخل خارجي.
بيد أن الجميع أكدوا رفضهم لعملية الفصل القسري بين الإصلاحات البنيوية المطلوبة وموضوع الصراع العربي - الإسرائيلي نظراً لقناعاتهم الكاملة بأن ثمة ترابطاً موضوعياً بين المسألتين تعززه الوقائع اليومية في فلسطين المحتلة وفي عدد من الدول المجاورة لها.
فالإدارة الأمريكية تطرح مسألة العنف في المنطقة والمدرجة تحت عنوان «الإرهاب»، بما في ذلك المقاومة الوطنية الشرعية ضد الاحتلال الإسرائيليº على أنها ناشئة عن غياب الديمقراطية والتوجهات الإصلاحية، وهذا التعميم الفضفاض يسقط تلقائياً أبرز عامل من عوامل عدم الاستقرار في المنطقة: الصراع العربي - الإسرائيلي.
وبرغم إجماع الدول العربية حكومات وشعوباً على أن النزاع القائم في فلسطين وحولها يحول دون إرساء وضع مستقر في منطقة الشرق الأوسط تستعيد فيه شئون التنمية والتطوير ديناميتها الطبيعية، فإن إدارة الرئيس جورج بوش مازالت ترفض هذا المنطق، وتصر على معالجة أوضاع المنطقة بمعزل عن الصراع العربي - الإسرائيلي وتأثيراته العميقة.
ويتساءل العديد من المراقبين عن الأسباب التي تمنع الإدارة الأمريكية من الاهتمام بمعالجة موضوع الصراع العربي - الإسرائيلي، إلى جانب السعي لتنفيذ إصلاحات مؤسسية شاملة في الدول العربية تفضي إلى إحلال الديمقراطية، وتعميم الحريات، وضمان حقوق الإنسان؟
ويلاحظ هؤلاء أن سوء النية لدى الإدارة الأمريكية يظهر جلياً عندما ترفض هذه الإدارة الاستماع إلى وجهة النظر العربية، فتواصل دعم العدوان الإسرائيلي من ناحية، وتشجع الحكومة الإسرائيلية على إحباط أي مشروع سلمي من شأنه وضع حد للصراع التاريخي القائم، وتكون النتيجة الطبيعية لذلك إحداث مزيد من الفوضى والاضطراب وأعمال العنف في المنطقة.
ويصف المحللون مشروع إدارة بوش كمن يضع العربة أمام الحصان، ويرى هؤلاء أن الإدارة الأمريكية تتوهم إمكانية إذابة هذا الصراع إلى حد تلاشيه كلياً بعد أن تحقق عملية الإصلاح الطويلة في الدول العربية هدفها الكامل.
وهذا يعني الطلب من الدول العربية وشعوبها المشدودة إلى الصراع مع إسرائيل الانتظار قروناً عدة أخرى لرفع أثقال هذا الصراع عن صدرها، بينما تترك الحرية لإسرائيل خلال ذلك لتعميق وجودها في المنطقة، والاستيلاء على مزيد الأرض، وتشريد المزيد من أصحابها، ثم تبديد الفرص المحتملة لإقامة الدولة الفلسطينية الموعودة.
ومن الواضح أن نائب وزير الخارجية الأمريكية للشئون السياسية مارك غروسمان الذي قام بجولة دعائية واسعة في المنطقة حاول أن يعكس الواقع عندما قال: إنه لا يمكن انتظار إحلال السلام في الشرق الأوسط لتشجيع الإصلاح»، فالمنطق ذاته يمكن استخدامه للقول أنه لا يمكن انتظار قرون عدة لتحقيق الإصلاح الديمقراطي في دول المنطقة حتى يأتي بعد ذلك دور تسوية الصراع العربي - الإسرائيلي.
فالإصلاح هو الذي يحتاج إلى وقت طويل حتى يحقق النتائج المطلوبة، بينما يمكن تسوية موضوع الصراع العربي - الإسرائيلي خلال مدة زمنية قصيرة (نسبياً) إذا صدقت نوايا الولايات المتحدة، وكفت عن تشجيع العدوان الإسرائيلي وحمايته.
مشروع عربي مستقل:
ونتيجة للمشاورات العربية - العربية من جهة، والاتصالات العربية - الأوروبية من جهة أخرى استقر الرأي على أن يكون للدول العربية مشروعها الإصلاحي المستقل البديل، ويزاوج هذا المشروع الذي سيعرض على قمة تونس في نهاية مارس الجاري بين الإصلاحات الديمقراطية والتحديثية في الدول العربية من ناحية، ومعالجة موضوع الصراع العربي ـ الإسرائيلي من ناحية ثانية.
ففي الشق الأول يتضمن المشروع أفكاراً واقتراحات مجددة في شأن الإصلاحات المطلوبة، والآلية التي سيجرى اعتمادها في عملية التنفيذ، أما في الشق الثاني فسيعيد القادة العرب التأكيد على مبادرتهم الخاصة بتسوية القضية الفلسطينية التي سبق إقرارها في قمة بيروت عام 2002.
مع تطويرها بعض الشيء بما يؤدي إلى توضيح بعض بنودها على نحو يعزز من أهميتها كوثيقة رئيسية تمثل الموقف العربي بصورة دقيقة، فالمبادرة تقوم على أساس انسحاب إسرائيل من الأراضي الفلسطينية إلى حدود عام 1967، وقيام دولة فلسطينية مستقلة، والانسحاب من مرتفعات الجولان السورية المحتلة والأجزاء المتبقية من الأراضي اللبنانية، على أن يقابل ذلك تطبيع عربي مع إسرائيل، ووضع حد للصراع الدموي القائم.
وكما يقول أمين عام الجامعة العربية (في حوار خاص): فإن أي تطبيع مع إسرائيل له شروطه، ولذا فان الدول العربية ستؤكد مجدداً استعدادها لتنفيذ التزاماتها التي تنص عليها المبادرة العربية بشرط أن تنفذ إسرائيل التزاماتها بالمقابل، وبالتوازي بما يفضي إلى تحقيق السلام العادل والشامل في نهاية المطاف.
وفي خطوة موازية سيكون هناك أمام القمة العربية في تونس مشروع آخر لتطوير مؤسسات جامعة الدول العربية، وتعزيز العمل العربي المشترك، بحيث يصبح الموقف العربي أكثر تماسكاً وفعالية على المستوى العربي الجماعي من جهة، وعلى المستوى الدولي من جهة أخرى.
ومن الآن وحتى نهاية مارس الجاري سيكون لدى الحكومات العربية الوقت الكافي لبلورة مواقف نهائية من مختلف الأفكار المطروحة بعد أن قام وزراء الخارجية العرب خلال اجتماعاتهم الأخيرة في القاهرة بوضع الاقتراحات المعروضة في صيغ محددة سواء فيما يتعلق بالمشروع الإصلاحي العربي البديل للمشروع الأمريكي، أو بالنسبة لمشروع تطوير مؤسسات الجامعة العربية وفي هذا الإطار ينشط المسؤولون العرب في إجراء اتصالات ومشاورات مع حكومات الدول الأوروبية المهتمة للتنسيق معها، وجعل مواقف الطرفين مكملة لبعضها البعض، وهو ما يؤدي إلى محاصرة التحركات الأمريكية الأحادية، ويضع حداً لتطرفها وانفلاتها، حتى قبل الوصول إلى القمم الدولية الثلاث المقررة في يونيو المقبل.
أوروبا وشراكتها المتوسطية:
فالدول الأوروبية تدرك تماماً نتيجة لتجربة الشراكة الأوروبية - المتوسطية التي مضى عليها نحو ثماني سنوات مدى التأثير السلبي للصراع العربي - الإسرائيلي، وغياب السلام والاستقرار في المنطقة على المجتمعات العربية، وهي تضع الآن في اعتبارها ثلاثة أمور أساسية:
الأمر الأول: أن الضغط على الدول العربية لا يفيد وحده في إنهاء المشاكل المجتمعية القائمة إذ لابد من توفير قناعات كاملة، وتعاون ايجابي لدى الأطراف المعنية في شأن تنفيذ الإصلاحات المطلوبة، وإلا فسيحدث العكس تماماً.
والأمر الثاني أن الاتحاد الأوروبي انفق حتى الآن مليارات الدولارات في إطار الشراكة الأوروبية - المتوسطية استفادت منها الدول الأعضاء في تطوير وتحديث مؤسساتها الصناعية والتعليمية والثقافية والتنموية ولا يستطيع الاتحاد أن يتصرف الآن وكأن كل هذه الإنجازات لم يكن لها وجود أو معنى، وأن كل شيء بالتالي ينبغي أن يبدأ من الصفر، أو من الاقتراحات الأمريكية تحديداً ثم تسير الأمور بعد ذلك وفق توجيهات البيت الأبيض والمصالح الأمريكية.
والأمر الثالث أن العوامل والتأثيرات السلبية التي أفرزها ويفرزها استمرار الصراع العربي - الإسرائيلي ألحقت وتلحق ضرراً كبيراً بالخطط الأوروبية الرامية إلى تحويل البحر الأبيض المتوسط إلى بحيرة سلام (وفقاً لمسار برشلونة)، تنعم الدول المحيطة به بكل مزايا الانتماء إلى الفضاء الأوروبي الواسع، فالتعاون المتوسطي كما أراده الأوروبيون لم يتحقق تماماً، وثمة مشروعات كثيرة لم يتسن تنفيذها بينما كان يمكن أن تحقق فوائد كبيرة للعديد من دول المنطقة.
لذا لا تستطيع دول الاتحاد الأوروبي أن تتجاهل هذا الواقع لا لسبب إلا لأن الإدارة الأمريكية تريد ذلك، فالشراكة الأوروبية المتوسطية مستمرة، وهي تتطور على نحو مشجع، وفي الواقع فإن من حق الاتحاد الأوروبي أن يقلق بسبب الهجمة الأمريكية الجديدة فهي قد تفسد إنجازاته الكبيرة، أو تضيف عامل اضطراب جديداً إلى المنطقة على الأقل بالإضافة إلى العوامل العديدة الموجودة.
وانطلاقاً من هذا الواقع يعتبر الاتحاد الأوروبي أن الاقتراحات الأمريكية يمكن أن تشكل دعماً لخطواته السابقة إذا تمت بالتنسيق الكامل معه، وبعد إعادة النظر في الأسس التي ترتكز إليها، ولكن من دون استخدام أسلوب الإملاء والإجبار على الطريقة الأمريكية السائدة، ذلك أن الشراكة الحقة كما تحددها العلاقة الأوروبية المتوسطية تحتاج إلى تعاون في مختلف المجالات، وليس إلى إملاءات، كما تحتاج إلى تفهم كامل لحقيقة تأثير الصراع العربي - الإسرائيلي على كل ما يحدث في المنطقة.
هذا الموقف الأوروبي من مشروع «الشرق الأوسط الكبير» بدا واضحاً تماماً من خلال التصريحات القوية التي صدرت عن الرئيس الفرنسي جاك شيراك بعد استقباله الرئيس المصري حسني مبارك وعدد من المسئولين العرب الآخرين خلال الأسبوع الماضي، ومن خلال مضمون المشروع الفرنسي - الألماني المشترك الذي يحدد بالتفصيل الرؤية الأوروبية الكاملة مما يسمى «شراكة استراتيجية لمستقبل مشترك في الشرق الأوسط».
فقد أكد الرئيس شيراك ترحيبه بـ «التشاور والتحديث» ولكن «من دون تدخل أو إجبار»، كما أوضح أن أي تحديث في المنطقة يتطلب مسبقاً إنهاء الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، الذي وصفه بأنه «لب الصعوبات» في المنطقة، وكذلك «وجوب إيجاد حل للوضع في العراق يستعيد بموجبه هذا البلد سيادته ووحدته»، واعتبر الرئيس الفرنسي ذلك «شروطاً مسبقة لأي تحديث نؤيده طبعاً».
في مواجهة المشروع الأمريكي:
أما المشروع الفرنسي ـ الألماني الذي يفترض أن يصبح مشروعاً أوروبياً شاملاً بعد عرضه على القمة الأوروبية أواخر الشهر الجاري، وإن بدا - من حيث الشكل - مكملاً للمشروع الأمريكي «الشرق الأوسط الكبير» فهو ينسف أبرز مرتكزاته وآليات عمله، فهذا المشروع (على نقيض المشروع الأمريكي) يؤكد في صورة حاسمة أن «تسوية النزاع العربي - الإسرائيلي تشكل أولوية استراتيجية لأوروبا، وفي غياب مثل هذا الحل لن تكون هناك أي فرصة لتسوية المشاكل الأخرى في الشرق الأوسط».
كما يعتبر المشروع الأوروبي أن «نهج برشلونة» (المقصود به الشراكة الأوروبية - المتوسطية، وسلسلة مبادرات التعاون بين الطرفين) «يؤمن مجموعة واسعة من الأدوات الملائمة لتطبيق المبادئ الإصلاحية في المنطقة، ومنها على سبيل المثال: إجراء حوار سياسي وأمني في شأن السلام والاستقرار في المتوسط، وإرساء الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية الإعلامية وإقامة دولة القانون، وتنفيذ إصلاحات هيكلية في المجال الاقتصادي، وتطوير التعليم، وتحقيق المساواة بين الرجل والمرأة، ودعم انبثاق مجتمعات مدنية.. الخ أما المقاربة الأمنية التي يطرحها المشروع فتستند إلى الاستراتيجية الأمنية الأوروبية التي أقرها الاتحاد الأوروبي في ديسمبر 2003م.
وفي النهاية يدعو المشروع الأوروبي إلى صدور إعلان عن قمة الدول الثماني يستند إلى مضمون الاقتراحات الأوروبية والأمريكية، وإلى الإعلان الذي سيصدر عن قمة تونس العربية، مؤكداً على التمسك بالمبادئ الأساسية: الإصلاح والديمقراطية والتحديث، التي تحكم هذه العملية.
على أن أبرز ما يسجله المشروع الأوروبي المشترك هو الحؤول دون تحويل «الأحادية الأمريكية» التي يعبر عنها مشروع «الشرق الأوسط الكبير» إلى خيار وحيد بالنسبة لقمة الدول الثماني والقمم الأخرى اللاحقة، وهذه مسألة شديدة الأهمية في مرحلة ما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق.
وحيال ذلك يمكن القول أن مشروع «الشرق الأوسط الكبير» بما يواجه من ردود فعل سلبية يسجل على إدارة الرئيس جورج بوش نقطة فشل جديدة، ولعل الاختبار الأخير سيكون في نوفمبر المقبل داخل الولايات المتحدة نفسها.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد