بسم الله الرحمن الرحيم
عشية الكشف عن مسودة المبادرة الأمريكية للتغيير في الشرق الأوسط المسماة بـ (مشروع الشرق الأوسط الكبير) أكد الرئيس الأمريكي بوش الابن أمام جنود قاعدة " فورت بولك " في ولاية لويزيانا الجنوبية: " أن خيار الولايات المتحدة الأمريكية واضح، وهو: " إما أن تتقدم الحرية في المنطقة، أو أن تبقى مصدرة للعنف إلى كل أنحاء العالم "، وخاطب جنوده قائلاً:
" أمريكا تعتمد على جنودها لمواجهة الأخطار "، وأضاف: " لاشك أن العدو سينهزم وستسود الحرية "، ما قاله الرئيس الأمريكي يفضح الجانب الأكثر بشاعة في السياسة الأمريكية القائم على توظيف الهيمنة العسكرية في فرض المخططات الأمريكية لإعادة رسم الخارطة الجيوسياسية لمنطقة الشرق الأوسط بما يلبي مصالح الإمبراطورية الأمريكية التي دأبت في السنوات الأخيرة على تقديم نفسها كقوة لا متناهية في المجالات كافة، الثقافية، والاقتصادية، والعلمية، والعسكرية على ما في هذا من مغالطة سنتعرض لها لاحقاً.
ومن المهم أن نثبت بداية إقرارنا بأن الإصلاح الشامل في البلدان العربية وخصوصاً في حقلي السياسة والاقتصاد بات ضرورة ملحة ولازمة للمحافظة على الاستقرار والاستقلال، وكشرط للتنمية بما يتطلبه ذلك من تغييرات بنيوية جذرية أساسها ديمقراطية تؤمن أوسع مشاركة سياسية تضمنها قيام دولة المؤسسات والقانون والشفافية، وبأن الموقف من المشروع الأمريكي لا ينطلق من رفض الإصلاح و التغيير من حيث المبدأ بل على العكس من ذلك تماماً، مع الأخذ بعين الاعتبار أن نجاح أي عملية إصلاح حقيقية يشترط تحقيق المصلحة الوطنية أولاً، وهو ما تقفز عنه المبادرة الأمريكية، انطلاقاً مما سبق يمكن لنا أن نسوق الملاحظات التالية على ما بات يعرف بـ (المبادرة الأمريكية لتغيير الشرق الأوسط الأوسع نطاقاً):
أولاً: الخلل الأساسي في الوثيقة أنها تتناول الإصلاحات المطلوبة كمصلحة أمريكية خالصة، هدفها المعلن تلبية المصالح الأمريكية أولاً وأخيراً، وفي سبيل هذا فهي تحاول إعادة قولبة المنطقة قسراً بما يتماشى مع مفهوم العولمة الأمريكية، غير آبهة بمصالح شعوب المنطقة، إن أساس السياسة الأمريكية نظرة استعلائية قاصرة تقسم العالم إلى معسكري (خير أو شر) وتطبيقها العملي المسخ (من هو معنا ومن هو ضدنا)، ليصبح من المشروع أن نتساءل: أليس من السذاجة اعتقاد الإدارة الأمريكية بإمكانية نجاح سياساتها الخارجية المبنية على المصالح الأمريكية فقط، والسعي إلى تنفيذها بأساليب عدوانية؟!!.
ثانياً: يلاحظ أن الخطة في مسعاها لإعادة قولبة المنطقة سعت إلى إعادة تعريف مصطلح الشرق الأوسط بحيث يضم إلى جانب الدول العربية كل من: إيران، تركيا، باكستان، أفغانستان، دول آسيا الوسطى، دول القرن الأفريقي، وطبعاً إسرائيل يبقى لها موقع الصدارة، ولا يخفى في هذا أن التوسيع يهدف إلى جعل تعريف المنطقة مطابقاً لخارطة الحروب الأمريكية تحت دعوى (مكافحة الإرهاب الأصولي الإسلامي)، وبهذا فهي أقرب إلى كونها تحديد لمنطقة العمليات الحربية للجيوش الأمريكية.
ثالثاً: المبادرة الأمريكية استمرار لسياسة إدارة بوش الابن التي تجعل من تحقيق المصالح الأمريكية أساساً للشرعية الدولية، ولذلك فهي تقدم الدور الأمريكي على دور الهيئات والمؤسسات الدولية، على اعتبار أنها فقدت في ظل عالم القطب الأحادي شرعيتها، وكذا مواد القانون الدولي التي كانت وليدة معادلات دولية لم تعد قائمة، وهذا يؤسس برأيها لشرعية الاستفراد الأمريكي، ومحاولات فرض الديمقراطية والإصلاحات الليبرالية من جانب واحد بما تمثله من مصلحة وطنية أمريكية؟!!.
رابعاً: المبادرة تقفز عن أولوية تحقيق تسوية سياسية شاملة ومتوازنة للصراع العربي الإسرائيلي كشرط لازم في تحقيق الديمقراطية والتنمية، وما يشكله استمرار احتلال إسرائيل للأراضي العربية وتنكرها لحقوق الشعب الفلسطيني من عامل تفجير دائم، وفاتحة لحروب لا تنتهي، كيف يمكن الحديث عن توفير مقومات التنمية والديمقراطية في ظل ارتهان المنطقة لسيف التوسعية العدوانية الإسرائيلية المدعومة أمريكياًً، ألا يصبح من حقنا القول بأن أحد أهداف المبادرة الأساسية خلق مدخل لتكريس الهيمنة الصهيونية التوسعية على المنطقة.
خامساً: الإدارة الأمريكية تراهن في إمكانية فرض مشروعها على استمرار زخم اندفاعها العسكري ونجاحه وهذا أمر مشكوك به في ظل ارتفاع العجز في الميزانية الأمريكية بشكل غير مسبوق والبالغ 500 مليار دولار، مع دين يقدر بـ 7 تريلون دولار، وجاءت مؤشرات الأداء الاقتصادي الأمريكي التي تنذر بتباطؤ اقتصادي لتزيد من حدة الجدل واتهامات بلجوء إدارة بوش إلى تجميل الأرقام، وتشي الأرقام بأن معجزة التسعينيات التي وفرها ارتفاع معدلات نمو القطاع المالي لن تتكرر، مع بقاء القطاعات الإنتاجية الأخرى (الزراعة - الصناعة - التكنولوجيا - الخدمات) دون معدلاتها الأوروبية، وهو ما يسميه د. سمير أمين الطابع الطفيلي للاقتصاد الأمريكي، من كل ما سبق يمكن القول بأن الإدارة الأمريكية الحالية أو وريثتها ستجد صعوبة في تمويل حروبها القادمة.
سادساً: إن اختيار منطقة الشرق الأوسط للبدء بها قد يبدو من الناحية الشكلية فيه الكثير من الموضوعية لسهولة السيطرة عليها كونها تعاني من حالة تفكك وتناحر هائلة أوصلتها إلى درجة من الإعياء عطلت قدرتها على المقاومة، وافتقادها إلى التنظيم والعمل المشترك أبقاها أسيرة فجوة هائلة بعيداً عن عصر التكنولوجيا الرقمية، هذا إضافة إلى هشاشة أوضاعها الداخلية التي لا تملكها الحصانة السياسية والاجتماعية المطلوبة في المواجهة، لكن هذا الافتراض ساذج كونه يجعل من قبول الشعوب العربية مقايضة حقوقها واستقلالها بمجموعة إصلاحات أمراً ممكناً، إن شعوبنا تريد الإصلاحات مدخلاً لتعزيز استقلالها، واستعادة حقوقها، وهذا ما لن تجده في المبادرة الأمريكية، يضاف إلى هذا بأن محاولة أمريكا بسط سيطرتها على المنطقة خطوة على طريق تحقيق هدفها الإستراتيجي في بسط هيمنتها على العالم سيفتح على اشتداد وتيرة الصراع بما قد يفضي إلى نشوء تحالفات دولية جديدة بغية الحد من التفرد الأمريكي.
سابعاً: إن محاولة فرض روح الثقافة الاستهلاكية الأمريكية ستلقى ممانعة كبيرة من قبل المجتمعات العربية كونها تناقض خصوصيتها الثقافية والاجتماعية، وأكثر من ذلك فإن أي إصلاحات بنيوية حقيقية في الدول الريعية العربية (الخليجية تحديداً) ستعيد النظر ببعض مظاهر الثقافة الاستهلاكية الأمريكية التي تسللت إلى مجتمعاتها في سنوات الطفرة النفطية كشرط لقيام تنمية متوازنة ومستقلة.
ثامناً: تحقيق المشروع كما هو مطروح بشكل قسري يتطلب سيطرة أمريكية مباشرة طويلة الأمد تنتقص من استقلالية بلدان المنطقة بما يعني: المحافظة على القواعد العسكرية القائمة، وإقامة قواعد جديدة، وإبقاء العمل بـ (مفهوم الحروب الإستباقية)، وما سيخلقه هذا من بؤر توتر جديدة.
ويبقى من الضروري التنويه مجدداً إلى أن كل الملاحظات السابقة التي سيقت على المشروع الأمريكي تندرج في سياق البحث عن المدخل الأنسب للإصلاح لا رفضه، وبما لا ينتقص من الحقوق العربية، فلقد بات الإصلاح يحتل سلم الأولويات في المجتمعات العربية كضرورة راهنة وملحة، وضعها في إطار التجاذب بين الحكومات والإدارة الأمريكية يحرفها عن مسارها، ويقوض أسسها، لذلك فإن اختيار المدخل الصحيح للإصلاح وتوفير شروطه لا يقل أهمية عن موضوع الإصلاح بحد ذاته.
الشرق الأوسط الكبير بين مقاومة "الأمركة" وضرورة التغيير:
اختار واضعو نص مبادرة (الشرق الأوسط الكبير الأمريكية) استعراض عدد من الإحصائيات توطئة لمتنها، ورصدت الإحصائيات واقع المنطقة اقتصادياً وسياسياً بهدف إثبات مقولة رئيسية ستبنى عليه لاحقاً البنود الأساسية في مشروع التغييرات المقترحة: "طالما تزايد عدد الأفراد المحرومين من حقوقهم السياسية والاقتصادية في المنطقة، سنشهد زيادة في التطرف والإرهاب والجريمة الدولية والهجرة غير المشروعة "، والإشكالية هنا لا تكمن في صوابية المقولة السابقة من عدمها بل في تجاهل مسبباتها، ولعل في جلائها إجابة على السؤال الذي ما فتئ الإعلام الأمريكي يردده " لماذا يكرهوننا؟ "، وخدمة للنقاش يجب أن ننطلق فيه من نقض مقولة أن التغيير في الشرق الأوسط يمثل مصلحة وطنية أمريكية خالصة، كون الاستقرار والسلم العالميين مصلحة إنسانية مشتركة أساسها عدم التعارض مع مصالح الشعوب الواقع عليها التغيير، من هنا فإن المبادرة الأمريكية حين تعيد التأكيد على بعض الإحصائيات المُتَضَمِنَة تقريري الأمم المتحدة حول واقع التنمية البشرية العربية للعامين 2002 و 2003، وخصوصاً ما يتعلق منها بـ (الحريات، المشاركة السياسية، المعرفة، تمكين النساء) للقول بعد ذلك بأنها تساهم في "خلق الظروف التي تهدد مصالح أعضاء مجموعة الـ 8 " تتجاهل بشكل صارخ مصلحة ورغبة المجتمعات العربية في التغيير، وهذا لم تسقطه المبادرة سهواً، بل عمد يعكس ما يتطلبه الهدف الأساسي من وراء طرح المبادرة ألا وهو إعادة قولبة المنطقة بما يمكن من إلحاقها نهائياً بالعجلة الأمريكية، وهذا يفسر لماذا لم تأخذ المبادرة شكل مسودة يدار على أرضيتها الحوار مع الحكومات ذات الشأن بدل طرحها على قمة الدول الصناعية الثماني الكبرى لإقرارها في حزيران / يونيو المقبل، إن هذا التصرف الأمريكي الأحادي لم يستنفر معارضة عربية فقط، بل ومعارضة أوروبية أيضاً، وتجلى ذلك في المبادرات الاعتراضية والتكميلية الأوروبية وأبرزها: المقترح الفرنسي الألماني المسمى بـ (شراكة إستراتيجية لمستقبل مشترك مع الشرق الأوسط)، والمبادرة النرويجية الكندية، ومبادرة وزير الخارجية الألماني يوشكا فيشر، وخوفاً من محذور البناء الخاطئ على الملاحظة الأخيرة يجب إدراك أن التناقض الأوروبي الأمريكي هو في إطار الجزئيات، التي على أهميتها لا تعدو كونها صالحة فقط للتوظيف في التلطيف من الغلو الأمريكي، وشرط عدم تحولها أي المبادرة الأوروبية - إلى مدخل لبلورة رؤية أمريكية أوروبية جديدة تعيد تحديد وتأسيس العلاقة الأمريكية الأوروبية - ما بعد احتلال العراق - عملاً بمبدأ تقاسم المصالح هو صمود الممانعة العربية أولاً وأخيراً، ولهذا شروط:
إن الشرط الأول لنجاح الممانعة العربية في وجه المشروع الأمريكي لا يكون بتجاهل الحقائق التي استندت لها المبادرة الأمريكية وإن أساءت توظيفها، - المقصود خلاصة تقريري الأمم المتحدة للتنمية في البلدان العربية - بل بالتسليم بها وجعلها أساساً للزوم التغيير القادم لا محالة.
الشرط الثاني هو تحديد غاية الإصلاح، فليس صحيحاً أن غاية الإصلاح هو تقديم أنفسنا للآخر بشكل يقبله على أهمية ذلك، فقبول الآخر لنا أو قبولنا له يتطلب تملك مجتمعاتنا لثقافة جديدة أساسها التعددية في العلاقة مع الذات أولاً ومن ثم مع الآخر، بما يضمن حق التعددية السياسية والفكرية والثقافية على قاعدة التكامل، وبما يضمن تحقيق السلم الأهلي والحرية والديمقراطية، وشرط هذا قيام دولة المؤسسات، والأخذ بمبدأ التداول السلمي للسلطة.
الشرط الثالث تجنب الوقوع في محذور الاستسلام لوطأة الواقع العربي الراهن ومخيباته بدعوى الواقعية، لأن هذا يجعل من النظرة التحليلية لأزماتنا من هذا المنطلق أزمة بحد ذاتها، كونها تضع نفسها في إطار سكوني يفتقد لرؤية التغيير وروحه، وغالباً ما تصل إلى نتائج خاطئة أو منقوصة الجامع بينها قولها بعبثية المراهنة على الحراك المجتمعي الداخلي، وهذا سيقود بالنتيجة إلى القول باستحالة التغيير الذاتي، والتسليم بأحقية فرض الإصلاحات من الخارج.
الشرط الرابع مع إدراكنا بأن الكثير من الحكومات العربية بحكم مصالح بعض فئاتها تفتقد الحماسة للتغيير، وبعضها الآخر يفتقد الوعي والمقدرة على التغيير إلا أنها تدرك حاجتها الماسة للتغيير كممر إجباري للخروج من أزماتها المزمنة والمستفحلة، والخطر هنا لجوء بعض الحكومات إلى إدخال الإصلاحات من الباب الدوار، بما سيفقدها لقيمتها عملياً عبر تآكلها، وتحويلها إلى تسويات مرحلية، قابلة للنقض والتراجع عنها على ضوء تغيير ميزان القوى والظروف التي فرضتها.
الشرط الخامس مع معرفتنا بأن التباطؤ في إقرار الإصلاحات والعمل بها يحمل محذور تآكلها وتفريغها من محتواها، والالتفاف عليها، إلا أنه يجب الانتباه إلى أن حرق المراحل قد يحمل مخاطر أكبر بحصول انهيارات شاملة، وبالتالي لا بد من خلق الظروف التي تؤسس لإصلاحات بنيوية حقيقية، وإبقاء المخاطر الداخلية والخارجية التي سترافق حكماً عمليات الهدم والبناء تحت السيطرة، إن جعل الإصلاح رهن العقلية التجريبية المغامرة لا تحتمله مؤسساتنا المجتمعية الهشة، ولا حلول سحرية لأخطاء السنين المتراكمة، وما جرى في روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي يعطينا ألوف الأمثلة على ما ذكر سابقاً، إن توسيع المشاركة السياسية، وتأطير الحياة السياسية في مؤسسات ديمقراطية منبثقة عن عملية انتخابية مباشرة تشكل أنسب المداخل للإصلاح وغايته في آن واحد.
الشرط السادس إدراك أن الفكر الحداثوي العربي انسجاماً مع أهدافه يجب أن ينطلق من الخاص في فهمه وتفاعله مع العام، وأن الأخذ بالوصفات الأمريكية أو الأوروبية الجاهزة يقع على النقيض من ذلك تماماً، إن العولمة الأمريكية المتوحشة تفتقد إلى قوة المثال كونها تحول إملاءاتها إلى معاول هدم لخصوصية الآخرين خدمة لمصالحها الضيقة، وزاد من ذلك تحول الولايات المتحدة الأمريكية نفسها إلى دولة بوليسية مرة أخرى تضطهد الأقليات العرقية والدينية بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001.
إن طرح المشروع الأمريكي تواقت مع ظهور علامات بداية تآكل المشروع الأمريكي للهيمنة على العالم، ولا يعدو كونه محاولة لتوظيف قوة الدفع التي يوفرها تفوقها العسكري الهائل، لكن درس العراق الذي ما زال يتتابع فصولاً يؤكد يوماً بعد يوم حقيقة حاولت إدارة بوش الابن إغفالها وهي أن النصر العسكري شيء، وقطف ثماره شيء آخر.
نقف اليوم على مفترق طرق سيحدد مصيرنا إلى سنوات طويلة قادمة، إما الأخذ بالحداثة والإصلاح منهجاً لتغيير واقع مجتمعاتنا المتداعية، وإما مزيداً من التداعيات والكوارث، الإصلاح ليس خيار بل شرط لازم، فلنعبره بإرادتنا وإلا فالبديل عبوره من باب الآخرين بشروط و إملاءات أقل ما فيها أنها تقوض استقلالنا إذا لم نقل تقوض أساس وجودنا الفاعل.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد