بسم الله الرحمن الرحيم
الجذور العدائية، تنصير الطفولة المسلمة، الأخطبوط التنصيري، أساليب المبشرين، الإسلام يتحدى، أساليب تنصيرية أخرى، المرأة و أسلحة المنصرين، السلبية البغيضة، الجهود التنصيرية في باكستان، مواجهة النشاط التبشيري، ملاحظات عامة على المسيحية.
الجذور العدائية:
المدخل الوحيد لفهم ظاهرة هجمة وكالات التبشير ومؤسساته على العالم الإسلامي هو عداء الغرب المسيحي للإسلام والمسلمين، ولنبحث جذور وأسباب العداء استناداً إلى كتابات باحثين غربيين، وننقل عن أحدهم قوله: إن وجود الإسلام في حد ذاته يثير عميق الانزعاج عند الغرب، فالإسلام في نظر الغربيين خطر يزيد من حدته غموضه وعدم قابليته للوضع تحت منظار التنبؤ والقياس، والغرب لم يكن في البداية يستطيع فهم الإسلام، ولم يجد العون على ذلك من أي مصدر جديد أو قديم، وعلى الرغم من وجه الشبه الذي لاحظه الغربيون بين الإسلام واليهودية - حسب رأي الباحث الغربي -، إلا أن اليهودية بتخلفها وخضوعها للمسيحيين لا سيما في العصور الوسطى لم تكن مستعصية على الفهم والإسقاط من الاعتبار كقوة مهزومة ضعيفة، أما الإسلام فكان حتى العهود الحديثة قوة ناهضة ناجحة متجددة مهما ضربتها المحن، وبالتالي لم يكن الغرب ليستطيع أن يتهكم على دين اعتنقه رجال يُكبرهم الغرب نفسه، ولا يشك في حكمتهم كصلاح الدين الأيوبي والفارابي وابن سينا.
ويذهب كاتب غربي آخر إلى أن سبب عداء الغرب المسيحي للإسلام يكمن في توسع هذا الدين، ومجابهته للنشاط التنصيري، وقيامه بالدعوة لجلب الأتباع والمؤمنين.
ويقول هذا الباحث - وهو عضو في لجنة التبشيربكنيسة اسكتلندا - : أن الأديان الأخرى كاليهودية والهندوكية لا تنشر نفسها، بينما يطرح الإسلام نفسه كدين عالمي، وينافس المسيحية في هذه الدعوة، ويضيف: أن المسلمين الذين أسقطوا الصلبان في الشام وغيرها يتطلعون الآن إلى بناء مساجدهم في قلب انجلترا، وإسقاط الصلبان حتى في الكنائس الريفية النائية بذلك البلد، والإسلام - كما يقول الباحث المبشر - آخر دين كبير جاء بعد المسيحية، وعقيدته نسخ هذا الدين وإنكار حقيقته، والإسلام هو الدين الوحيد الذي هزم المسيحية في فترات الصراع بينهما، وهو الوحيد الذي يتصدى لها في أجزاء كثيرة من العالم، وهو الذي يتحدى المسيحية بإنكار كل مبدأ من مبادئها الكبرى، ويجعل من هذا الإنكار عقيدة راسخة عنده، سواءً تعلق الأمر بأبوة الرب، أو بنوة المسيح للرب، وتجسده وصلبه أو قيامته، والقرآن جاء ليصحح هذه المفاهيم، ولا يوجد دين آخر يتخذ هذا الموقف من المسيحية، والإسلام فوق هذا وذاك يحير المسيحية برفضه الاستسلام بعد هزائمه السياسية في العصر الحديث، وببساطة عقيدته في التوحيد وخلوها من مظاهر التعقد والأسرار الكهنوتية، والمسلمون هم وحدهم الذين يجابهون المسيحية بدين موثوق في أصله التاريخي، وبكتاب يؤمنون بأنه وحي سماوي، ولا يستطيع خصومهم أن يشككوا في نسبته إلى الرسول، أو في دخول التحريف عليه.
وهكذا نجد أن جذور العداء ضاربة، وهي لا ترجع إلى طمع اقتصادي، أو توسع استعماريº بقدر ما تُفسَّر بالخوف أمام تحدي الإسلام الديني والحضاري والسياسي، ونرى أن الأطماع الاقتصادية الاستعمارية هي التي تُفسَّر بالعداء للإسلام، فالغرب يطمع فيما عند المسلمين من موارد لأنه يكرههم ويبغض أن تكون بين أيديهم، ويريد أن ينتزعها منهم لعلهم ينتكسون، ويضيع معهم دينهم.
والغرب يتوسع في أراضيهم ليستأصلهم ويضيع عقيدتهم، ومن هنا نربط بين الاستعمار في العصر الحديث وبين العداء للإسلام والتمكين للنصرانية في بلاد المسلمين.
تنصير الطفولة المسلمة:
ونذكر في هذا الصدد كتاب "الطفولة في العالم الإسلامي" الذي ألفه المستشرق والمنصر صمويل زويمر عام 1915، ويهلل زويمر لظاهر الاحتلال الإنجليزي للعراق، والإيطالي لليبيا التي كانت تحدث في ذلك الوقت، ويتنبأ بأنه مع امتداد السيطرة الاستعمارية على العالم الإسلامي من الهند وما وراءها إلى المغرب فإن العادات والتقاليد والقيم والقوانين المسيحية الأوروبية ستنتقل إلى بلاد المسلمين، وتهيئهم بعد ذلك لتقبل المسيحية نفسها بعد ضياع الإسلام، ونستغرب عندما نجد هذا الكاتب - الذي يقول عنه تلاميذ المستشرقين عندنا أنه باحث - قد جاء ليصفق بيديه فرحاً لانتشار الملابس الغربية بين المسلمينº لأن ارتداء الأحذية و الجوارب - كما يقول بالحرف - ستزيد من صعوبة الوضوء!!
ويزيد الاستغراب والتساؤل عندما يقول زويمر: إن ضياع الاستقلال السياسي للبلدان الإسلامية يتواكب - مع ما يسميه - بحركة عصرية تدعو إلى تقليد الغرب، ونقل نماذجه ومُثُله الفكرية والاجتماعية، ويركز على أهمية النظام التعليمي بالنسبة لجهود المبشرين، حيث يرى أنه يعرّف الناشئة وهم في سن الانصياع على حضارة الدين المسيحي، ويمتدح الحكومات المقامة في البلاد الإسلاميةº والتي نشرت مثل هذا النظام على حساب التعليم الإسلامي، ويلمح في هذا الوضع الجديد فرصة لم تتح من قبل منحها الرب - حسب قوله - لتنصير الطفولة المسلمة، ونتركه يتحدث:-
لقد فقد الإسلام قوته في كل مكان، وبينما كانت غيرة الحكام المسلمين في السابق تمنع جهود التبشير بين المسلمين، أو تعرقلهاº فإن سيف الإسلام الآن قد انكسر، وذلت قلوب المسلمين، وخضعت في كل الأرجاء بسبب الكوارث التي قامت بهؤلاء الحكام ولا ريب، أو وقوع البلدان الإسلامية تحت الحكم الأوروبي بما يعنيه من استقرار الإدارة، والتعليم يعني حتمية انهيار المعارضة الإسلامية.
الأخطبوط التنصيري:
نستخلص من هذه الأقوال وما يشابهها سنة لا تتغير من سنن الهجوم الغربي على الإسلام، فهناك التوسع العسكري والاقتصادي والثقافي للغرب، ويتواكب مع تغريب البلاد الإسلامية بالكامل، وضياع أراضيها واستقلالها في هذه المجالات، ثم إضاعة الإسلام بعقيدته ومظاهره، وإحلال العقائد الغربية - وعلى رأسها النصرانية – محله، ومن المؤكد أن النجاح الذي حققته جهود التبشير في السنوات الأخيرة في إندونيسيا وباكستان لم يكن ليحدث إلا في ظل سيطرة غربية كاملة على حكومات هذه البلاد التي شجعت بالفعل النشاط التنصيري، ودعمته لإرضاء مسانديها الغربيين، محتجة بشعارات التسامح والليبرالية والعلمانية، ونضرب المثل على هذا الاتجاه بما وقع في إندونيسيا عقب الانقلاب العسكري الموالي للغرب الذي حدث هناك عام 1966، ونذكر هنا شهادة مجلة التايم الأمريكية في 16 يونيو 1967:
إن هذه الأمة الإسلامية اليوم مسرح لنشاط تنصيري متصاعد أطلقت عليه جريدة مسيحية أمريكية وصف أكبر حركة باتجاه المسيحية في الفترات الحديثة، إذ يقدر أن الكنائس الكاثوليكية والبروتستانتية قد اكتسبت حوالي ربع مليون متنصر خلال الأشهر العشرين التي أعقبت الثورة المضادة للشيوعية، وقد اعتنق المسيحية في جاوة الشرقية والوسطى في تلك الفترة خمسة وستون ألف شخص، بينما انضم ستة عشر ألفاً إلى الكنائس في سومطرة الشمالية، وأقيمت ثلاثون كنيسة جديدة في إقليم واحد بغرب بورنيو تضم خمسة آلاف شخص، ونظمت في العاصمة خمسون حلقة لدراسة الأناجيل التي نفذت طبعاتها لاشتداد الطلب عليها، وقد خصص مجلس الكنائس الأمريكي حوالي ثلث مليون دولار لمساعدة الكنائس البروتستانتية بإندونيسيا على استيعاب الأعضاء الجدد.
وعلى الرغم من أن معظم المتنصرين إن لم يكن كلهم من القطاعات الوثنية أو المسلمة بالنسبة فقطº إلا أن مجرد قيام هذا النشاط الوقح المدعم بالأموال الأمريكية في بلد تصفه المجلة الأمريكية ذاتها بأنه مسلم بنسبة 90% يدل على أمور خطيرة.
أساليب المبشرين:
نمضي في استعراض بعض أساليب المبشرين، وننتقي مثلاً من مخطط وضعه أحدهم لمنطقة غرب أفريقيا ونيجيريا في مواجهة الإسلام ومده، ومن الغريب أن نجد المبشر يضع خطة ويعنونها "الجهد المنظم لمكافحة تقدم الإسلام في غرب أفريقيا"، ونتساءل: هل المطلوب نشر النصرانية أم ضرب الإسلام أم أن الاثنين لا ينفصلان؟
ونتساءل عمن يمكِّن لهؤلاء أن يضعوا خططهم وينفذوها؟ هل هي الحكومات الاستعمارية التي زالت رسمياً، أم خلفاؤها الذين يتربعون على رؤوس السلطة تحت اسم الحكام الوطنيين المستقلين؟ ونسير مع خطة المبشر لنجده يوصي بإصدار كتب باللغات العامية تتناول دحض ما يسميه الافتراءات المحمدية القائمة على الجهل، ويقول: إن هناك مواداً كافية متاحة حول هذا الموضوع في مصر والهند، والمطلوب نقلها إلى غرب أفريقيا حتى تُستَخدم الأسلحة المصاغة على الحرب ضد الإسلام في كل مكان.
والخطوة الثانية في مشروع المبشر أخطر من الأولى: يجب أن تدرس في مدارس البعثات التبشيرية كل أخطاء الإسلام، وأن يحذر التلاميذ منها.
ومدارس البعثات التبشيرية هذه هي القائمة بيننا بأسماء أجنبية معروفة، والتي تتقاضى أعلى المصروفات.
أما الخطوة الثالثة فتنادي بعقد اجتماعات خاصة للمحمديين - كما يسميهم المبشر -، والبحث في الوسائل التي يمكن بها النفاذ إليهم، والتأثير عليهم لترك دينهم، والإقبال على النصرانية.
والخطوة الرابعة لافتة للنظر: يجب احتلال المراكز (المدن) المحمدية الهامة، حيث أن الدعوة الإسلامية تنتشر منها إلى المناطق الوثنية المجاورة.
ونتساءل عمن سيحتل هذه المراكز، وكيف سيكون الاحتلال؟
والخطوة الخامسة خطيرة وذكية: يجب تعيين مبشرين أو دعاة متجولين للنصرانية على غرار الدعاة المسلمين المتنقلين، وعلى كل منهم أن يمكث في القرية الواقعة ضمن نطاق عمله مدة تكفي للتأثير على الناس، وإقامة مكان للعبادة، ويجب الاعتناء باختيار هذه العناصر إذا كانت هناك قرى مسلمة في المنطقة.
والخطوة السادسة ليست غريبة: يجب إقامة كلية مسيحية تضم الخبراء في الشئون الإسلامية في كل مكان، يكون فيه المسلمون أغلبية.
الإسلام يتحدى:
وعلى الرغم من كل هذه الجهود يقف الإسلام الأعزل يتحدى المخططات، ويحاول الكاتب الأمريكي "ألان مروهيد" في كتابه "النيل الأبيض" الصادر عام 1960 تحليل التحدي الإسلامي تمهيداً للتغلب عليه، ويحدد التحدي الإسلامي في بساطة العقيدة فكراً، وممارسة، وغياب الكهنوت، وسهولة العبادة دون وساطة، ويرى مورهيد أن هذه السمات تلائم العقل الأفريقي الساذج والمتخلف الذي لا يستطيع أن يفهم أسرار وفلسفات المسيحية، ويا له من اتجاه عنصري يسم الأفارقة بالبلاهة، وهو يخطط لتنصيرهم!! غير أن الكاتب نفسه يعود ليكشف عن حقيقة غربة النصرانية عن أفريقيا، وتناسب الإسلام معها، ورسوخه في تربتها، فيرى أن المسيحية جاءت إلى القارة السوداء بطراز معماري أوروبي للكنائس، وبثياب أوروبية ضيقة لا تتفق والمناخ الحار، أما عمارة المسجد لمساحاته الممتدة تحت القباب المستديرة فيتواءم مع البيئة، ونوعية الأرض، كما يناسبها الجلباب العربي الفضفاض.
وتنصب جهود المبشرين الأجانب حتى وقتنا الراهن في محاولة استنباط شكل من الممارسة الكنسية يكون ملائماً لأفريقيا وآسيا، ويمكِّن عقيدتهم من الوقوف في وجه الإسلام، غير أن المؤسسة الكنسية هي نبت أوروبي سار مع مسار التاريخ الغربي، وتطور مع تطورات الحضارة الأوروبية في وقت ضعفت فيه الكنائس الشرقية، ولا ريب أن أي محاولة لتغطية الوجه الغربي الأوروبي للمسيحية العالمية هي محاولة مصطنعة فاشلة.
الرق:
نمر على قضية يثيرها المبشرون في أفريقيا لتشويه صورة الإسلام بربط التجار المسلمين بالرق، والوصول من ذلك إلى أن الإسلام يناصر الاستعباد، وهنا نقف مرة أخرى لنسأل: هل هم ينشرون المسيحية أم يحاربون الإسلام؟
ونذكر أن الكتب المقدسة للمسيحيين لا تقول شيئاً عن الرق إلا في رسائل القديس بولس، حيث تأمر العبد بالطاعة والاستسلام لسيده، إلا أنها لا تتعرض لحاله على الأرض، بينما يحث الإسلام على عتق الرقاب، ويجعل ذلك كفارة عن بعض الذنوب، ويسد ينابيع الاسترقاق، ويفتح باب التحرير، وتلاحظ - مريم جميلة - أن النصارى والمسلمين كان لهم دور في تجارة الرقيق بأفريقيا في القرن التاسع عشرº غير أن قيام بعض المسلمين بذلك كان مخالفاً لتعاليم الإسلام، ثم إن نظام العبودية ظل قائماً في أمريكا المتحضرة حتى عام 1965.
العنصرية:
مازالت آثار التفرقة العنصرية والتعصب ضد السود قائمة حتى الآن في الكنائس المنفصلة للبيض والسود، ولا يغير تغرٌّب الأسود وتقبله للنصرانية من الأمر شيء، فمهما فعل يظل أقل مكانة من الأبيض.
وتتحدد نظرة كل من المسيحية والإسلام إلى المسألة العنصرية أو الطبقية في قضية محدة العبادة، فما زالت كنائس البيض منفصلة عن كنائس السود حتى الآن في مناطق واسعة من أمريكا، وفي كل أنحاء جنوب أفريقيا، وعندما عقد مؤتمر كنسي في جنوب أفريقيا أواخر عام 1954 قسمت القائمة إلى نصفينº خصص أحدهما للكهنة البيض، والآخر للسود، جلسوا ليبحثوا مشكلة التفرقة العنصرية، و قد خطب في الجمع قس أسود فقال لهم: إنهم قسموا المسيح كما قسموا القاعة، وسخروا منه، وهم يقولون: إنه ابن للأب، فإلى أي فريق ينحاز الأب، وإلى أي جماعة يذهب المسيح إذا عاد إلى الأرض، وأدان قس آخر دفاع الكنيسة البروتستانتية في جنوب أفريقيا عن مبدأ التفرقة العنصرية، مذكراً قادتها بأن الحب الذي يقولون: إنه جوهر المسيحية لا يتحقق عندما يحرم طفل أفريقي من التمتع بجمال حديقة مقصورة على البيض، أو يمنع عامل أسود من الجلوس مع مخدوميه البيض في كنيسة واحدة.
وعلى النقيض نجد صورة تعبر عن المساواة في العبادة عند المسلمين، وهي صورة رسمها قلم كاتب إنجليزي زار القاهرة في مطلع القرن الحالي، ودخل أحد المساجد خلسة ليفاجأ في صفوف المصلين بنماذج لكل طبقات ومستويات المجتمع المصري، تقف متراصة متوحدة خاشعة لله في الصلاة، بدون تفرقة أو تمييز، ويحدثنا الكاتب عن الفلاح الواقف بجانب التاجر الغني، والعامل المكدود والطالب لابس الثياب الأفرنجية والشيخ بعباءته، وتتعدد أشكال وألوان الملابس داخل المسجد، ولكن تتوحد القلوب وأركان الفريضة لتدل على أعظم إنجازات الإسلام - كما وصفها المؤرخ البريطاني المشهور توينبي - وهي إلغاء المشاعر العنصرية.
أساليب تنصيرية أخرى:
ونعود لنلقي الأضواء على بعض أساليب المستشرقين، وننظر لنجد الاستغلال البشع ممثلاً في تلك الجماعة التبشيرية التي استقرت بالمغرب في أوائل القرن الحالي، واحتمت بالاستعمار الفرنسي والأسباني لتأخذ أيتام المسلمين في مدينة طنجة، وتنصرهم لقاء الخبز والمأوى، ثم ترسل بهم ليكونوا مرتزقة في خدمة الجيش الفرنسي الاستعماري في حروبه ضد الشعوب المسلمة وغير المسلمة، ونلمح هنا التدني والحقارة في قصة ذلك المبشر الذي أقنع أحد الأطفال الهنود المسلمين بأنه إذا صلى للمسيح، ورسم علامة الصليب على صدرهº فإن فريقاً لكرة الكريكيت سينتصر على الخصوم بفضل الرب.
ثم نرى كيف يضع المبشرون أساطيرهم حول مهارتهم في التنصير، لنقرأ ما كتبه أحدهم: عن شاب دمشقي من عائلة مسلمة كفر بالدين بعد اطلاعه على العلم الحديث، لكنه عاد وآمن بالمسيحية عندما أخبره صديق نصراني أن المسيحية لا تحرم الموسيقى والرسم كما يفعل الإسلام المتعصب.
المرأة و أسلحة المنصرين:
ونقف عند نشاط المبشرين في مجال العلاقات الاجتماعية في البلاد الإسلامية لتلاحظ أنهم يهتمون كثيراً بما يسمونه تحرير المرأة، أو تنفيرها من الإسلام وتعويدها على العادات الغربية لهز الإيمان في نفسها، وزعزعته، أو وأده في أطفال المستقبل.
ويركز المبشرون في العديد من المناطق على ضرورة تخلي المرأة المسلمة عن الزي المحتشم، وتمردها على الأسرة، وخروجها إلى المراقص والملاهي حتى وإن لم يؤدِ ذلك في النهاية إلى اعتناق المسيحية.
ويتضح من هذا الاتجاه أن للتغريب والتشكيك في الإسلام أهدافاً أصيلة في عمل المبشرين تفوق بالفعل اهتمامهم بالدعوة إلى النصرانية، ويبرز هنا كمثال: قيام مبشرة هولندية بإنشاء مدرسة للبنات في مدينة البصرة عام 1909 لتربيتهن تربية أوروبية صرفة، وتجهيزهن لإكمال التعليم في الغرب حين يبعدن عن الإسلام تماماً، وكانت هذه المبشرة تهتم بمتابعة أخبار طالباتها، وتفرح عندما تسمع أنهن تخلين عن الزي العراقي التقليدي، واتبعن العادات الغربية في بيوتهن، ومع أطفالهن، وقد سجلت تجربتها هذه في كتاب صدر في أمريكا عام 1961، وتتحدث بابتهاج عن التغير الاجتماعي المواتي للغرب الذي يمكن للمعاهد العلمية التبشيرية والغربية أن تحدثه، وتجدر الإشارة هنا إلى الدور الذي تقوم به الجامعة الأمريكية في القاهرة وبيروت، وكلية روبرتس في إسطنبول وغيرها.
السلبية البغيضة:
لكن الجانب الأخطر في كل هذه النشاطات التنصيرية يكمن في جهل المسلمين بها، وسلبيتهم إزاءها، وتواطؤ الحكومات في البلاد الإسلامية معها.
فالدعوة الإسلامية غائبة عن الأقليات غير المسلمة المقيمة في بلاد المسلمين، والحكام العلمانيون تخلوا عن واجب الحاكم في الإسلام الذي يحتم عليه رعاية القيم الدينية لمواطنيه، وتشجيع الدعوة لنشر الإسلام، ويقف المسلمون في حالة من الغفوة المشينة إزاء المبشرين المسلحين بالأموال الطائلة، والنفوذ السياسي، والذين يسخرون المؤسسات الاجتماعية الضرورية كالمكتبات والمدارس والملاجئ والمستشفيات ودور الرعاية ومراكز الشباب لنشر دعوتهم حتى في داخل بلاد المسلمين أنفسهم.
والمبشرون ينوعون أساليبهم ما بين الإقناع والإرهاب، والإغراء واستغلال الجهل والحاجة، وهم يجتذبون الفقراء بالمال، أو تزويد المسكن، أو الإرشاد الزراعي، أو الخبز، أو فرص التعليم، أو مناصرة قضايا المظلومينº بالاستناد إلى الحماية الخارجية، وهكذا يتحول المبشرون إلى تيار اجتماعي سياسي قوي ينافس الدولة ويخيفها إن لم يسيطر عليها، وبهذه الطريقة ضاعت الأغلبية المسلمة في كثير من الدول الأفريقية، واهتزت في بلاد إسلامية كبيرة كأندونيسيا والباكستان.
وعندما قام حاكم مسلم مستنير كأحمد وبيلو، وأبو بكر تيفاواباليوا في نيجيريا أسقط فوراً في انقلاب عسكري دموي دبرته الصليبية الدولية بالتحالف مع الصهيونية، وكانت جريرته التي قتل بها في يناير عام 1966 أنه شجع الدعوة الإسلامية مما أدى إلى اعتناق الألوف المؤلفة من النصارى والوثنيين للإسلام، وقبلها بعامين تحالفت الصليبية مع الشيوعي السابق جوليوس نيريري وبعض الاتجاهات العسكرية الماركسية لقلب حكومة زنزبار المسلمة، وتنحية الحاكم العربي الشرعي السلطان جمشيد، وإحلال حكم مسيحي محله بعد ذبح أعداد لا حصر لها من المسلمين في هذه الجزيرة وتصفية سكانها من العرب، وببساطة شديدة انتهت زنزبار كمعقل إسلامي كبير وقديم في شرق أفريقيا.
الجهود التنصيرية في باكستان:
يمتد الأخطبوط التبشيري بتحالفاته السياسية الواسعة إلى قلب بلد كان يظن أنه بمنجى عن مخططات التنصير والتغريب وهو باكستان التي قامت على الإسلام لجمع شمل المسلمين، فما هي الصورة في ذلك البلد؟ ولنترك الأرقام تتحدث: ففي عام 1958 ذكر المسيحيون أن أعدادهم هناك تبلغ حوالي ثلاثمائة ألف، وقالوا: إن نسبة زيادة المسيحيين خلال عشر سنوات من عام 1941 إلى 1951 بلغت حوالي 30%، وكانت الزيادة في منطقة البنغال الشرقية وحدها (بنجلاديش الآن) تصل إلى 45%، ووصلت في منطقة لاهور بالجزء الغربي من البلاد إلى 50%، بينما ارتفعت في مدينة كراتشي إلى مئة بالمئة، أما في الفترة من عام 1951 ـ 1958 فقد زادت الأعداد بنسب أعلى لاسيما فيما يتصل بالمنضمين إلى المذهب الكاثوليكي.
وترجع نشاطات التنصير إلى أواخر الأربعينات، حيث استغلت الهيئات التبشيرية حالة الفوضى السائدة عقب التقسيم وما تبعه من متاعب، ونشوء تجمع لاجئين كبير في الانتشار بين الأوساط الإسلامية، والتركيز عليها، وقد ذكرت جريدة "العالم الإسلامي" التي تتبع إحدى جهات التبشير الأمريكية أن المجتمع الإسلامي قد ساده الاضطراب عام 1947 مما أدى إلى أن يصبح المسلمون أكثر تقبلاً لصداقة المسيحيين المبشرين الذين قدموا المعونات والهداية والإرشاد من خلال تنظيمات مثل: اللجنة المسيحية لإغاثة باكستان الغربية ومقرها لاهور.
وقد دعمت حكومة باكستان هذه الأعمال التبشيرية، وسهلت لها نشاطاتها من النواحي المادية والمعنوية فضلاً عن تدفق الأموال من أمريكا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا والسويد على أكثر من أربعين منظمة تبشيرية تنشط في باكستان من خلال المؤسسات التعليمية وغيرها.
وتركز جهات التنصير في باكستان على النواحي التعليمية بعد أن استقرت هناكº باستغلال الاضطراب، والعَوَزº الناجمين عن التقسيم.
ومن المؤسسات التعليمية كلية فورمان المسيحية للشباب، وكلية كينيرد للشابات، ودير عيسى ومريم للأطفال، وكلها تدرس بالإنجليزية ومقرها لاهور، وتعتمد الحكومة الباكستانية أساليب وأنظمة ومناهج وفلسفات التعليم في المدارس والمعاهد التبشيرية كنماذج وقدوة ومثل عليا تصاغ على أسسها سياسات التعليم في المدارس الحكومية باللغتين الأردية والبنغاليةº و لهذا السبب تتضاءل أهمية تدريس اللغة العربية والفارسية في التعليم الحكومي، وتهيمن الإنجليزية ليس كلغة فحسب، بل وثقافة أيضاًº حيث يدرس الأطفال تاريخ إنجلترا على حساب تراثهم الوطني، ولا يتعلمون أي شيء عن الإسلام أو تاريخه سواءً في الخارج أو في بلدهم الإسلامي نفسه، وتحاط دراسة المواضيع الإنجليزية بمغريات شتى تحبب التلاميذ فيها، بينما تقدم مادة الإسلاميات في صورة منفرة غير متصلة بالواقعº سواءً في مراحل التعليم الأولية أو الجامعية.
أضف إلى ذلك أن الدراسات الإسلامية في الجامعات تقدم من وجهة نظر غربية استشراقية مما يعني أن الطلاب المسلمين يدرسون دينهم على يد أعدائه، ومما لا ينبغي إغفاله أن المدارس التبشيرية الخاصة في باكستان تعمد إلى صياغة سلوكيات الطلبة على الأنماط الغربية، فتفرض عليهم الزي الأوروبي الكامل بما فيه رباط العنق الذي لا يتناسب مع حرارة الطقس، كما تقدم لهم أصناف الطعام الإنجليزي.
مواجهة النشاط التبشيري:
مواجهة النشاط التبشيري في البلاد الإسلامية يجب أن تبدأ بمنع هذه التحركات المستغلة للعَوَز والحاجة، كما لابد أن يقترن ذلك بدعوة إسلامية إيجابية وذكية متحررة من قيود السلطة، أو روتينية الوظيفة، يقوم بها الأفراد والجماعات.
ومن المؤكد أن الدعوة الإسلامية بين غير المسلمين لن يكتب لها النجاح على نطاق واسع إلا إذا قام مجتمع أو دولة إسلامية تكون بمثابة القدوة للطبيعة العملية، والممكنة للمنهج الإسلامي، وتقدم البديل العملي الناجح والقائم في وجه المنهج الغربي الفاشل على تعدد أساليبه.
فمثل هذه الدولة الإسلامية الحقيقية هي الكفيلة بإنجاح جهود الدعوة كما كانت في المدينة المنورة في عهد الرسول - عليه الصلاة و السلام -.
وإذا كان المبشرون يعتمدون على مجال الخدمات الاجتماعية والاقتصادية للوصول إلى الجماهير المحرومة، فلابد من دعم جهود التنمية والوفاء بحاجات الناس الصحية والتعليميةº من خلال مؤسسات إسلامية تابعة للحكومات أو الأفراد أو الهيئات، ولابد كذلك من التعرف بعمق على الفكر والعقيدة المسيحية وأوجه القصور والضعف فيها.
ملاحظات عامة على المسيحية:
نحاول هنا أن نطرح بعض الملاحظات على المسيحية الغربية التي تمثل مناطق عيب، تقابلها أوجه قوة في الإسلام. أولى هذه الملاحظات تتعلق بغياب مفهوم الأمة الواحدة العامة في الممارسة المسيحية، وغلبة المفاهيم العنصرية، والقومية، فالعنصرية تحكم المسيحية الغربية مع الشعوب الأخرى حتى لو اعتنقت المسيحية، والقومية تهيمن على العالم المسيحي الغربي الذي يفصل بين الدين والدولة، مما أدى إلى ظهور شرور النازية والفاشية والشيوعية، وفي كل الأحوال فإن غياب مركزية التوجه ووحدته قد أصاب المسيحية الغربية بضعف شديد تحاول الآن التغلب عليه من خلال تحركات البابوية الرومية، ومجلس الكنائس العالمي في ميدان السياسة.
والعيب الثاني الرئيسي في المسيحية هو تعقد عقائدها، وغموضها المضطربº كعقيدة التثليث مثلاً، ونجم عن ذلك تحول المسيحية إلى مجرد محاولة غير ناجحة لتحويل بعض الأفكار الفلسفية إلى دين لا تتقبله الفطرة الذهنية، كما نجم عنه أيضاً حركات الإصلاح المتتابعة منذ البروتستانتية، والتي سعت كلها إلى جلاء غموض الفلسفات والمذهبيات المتداخلة في العقيدة المسيحية، لكن هذه الحركات بدورها حولت الدين إلى كتلة باردة فاقدة لحرارة الإيمان والإخلاص، وانتهى الأمر إلى ضيق المفكرين والعامة من الأمر برمته، ورواج الدعوة إلى فصل المسيحية عن تسيير الشئون السياسية والاجتماعية إذا كانت عقائدها الأساسية على هذه الدرجة من التخبط، ومع ذلك بقي دعاتها يؤكدون أن صعوبة عقائدها تعني أنها موجهة بالإساس للعقول المتحضرة، وليس للسذج في بلدان آسيا وأفريقيا ممن يقبلون على الإسلام لبساطته.
والعيب الثالث القاتل هو خلو المسيحية من فلسفة اجتماعية شاملة وفعالة، فهي منذ بدايتها لا تعلق على شؤون الحياة والبشر، وليس لديها رأي في مسائل الدولة والقانون والإنتاج، ولا بديل أمامها إلا أن تعيش منفصلة عن الدولة، أو أن تسعى إلى مناقضة نفسها بالعمل على السيطرة على الدولة التي توجد الكنيسة في دائرتها، وتعود نظريتها في هذا المجال إلى القرنين الأول والثاني من تاريخها، حيث ترعرعت إلى جانب الدولة الرومانية وتركت قضايا الحياة للقياصرة الأقوياء، مكتفية بالحديث عن ملكوت الرب، وكان من شأن هذه الثنائية، والبعد عن الحياةº أن تثور ردود فعل قوية ضد المسيحية في تاريخها الطويل في أوروبا لعل أشهرها كان تفشي المذهب الشيوعي في بلدان الغربº ليحاول ملء الفراغ الدنيوي الخالي من أي توجيه ديني، ولا ريب أن محاولة فصل الدين عن الحياة تفشل، لأن الحياة لا تقبل أن تنقسم وتحصر في أطر ضيقة.
ومن العيوب الأخرى التي أصابت المسيحية اقتصارها على الشعوب الغربية، وتطبعها بأفكارها ومذاهبها وعاداتها، ولم تنتشر المسيحية خارج أوروبا إلا في بلدان العالم الجديد في أمريكا الشمالية والجنوبيةº حيث واجهت وثنيات متخلفة، لكنها حينما حاولت أن تتوسع في البلدان ذات الأديان المنظمة حتى وإن كانت وثنية كالهندوكية والبوذية فشلت، ولم تحرز أي تقدم إلا في ظل سيطرة الاستعمار الغربي وبمساعدته والتحالف معه، واستغلال أوضاع محلية معينة من الأزمات والحروب، والفقر والجهل، والتفكك الاجتماعي، والتدهور الثقافي، وضرب الحضارات الأصلية.
ونختتم جولتنا المطولة عبر أفكار وممارسات المسيحية بتساؤل: ترى لو عاد المسيح - عليه السلام - فهل سيتعرف على أتباعه في الغاتيكان، أم في مسلمي فلسطين والبلاد المجاورة الذين سيعرفون قدره كنبي؟ ويرحبون به حتى وهم في حالة الاستضعاف؟ إن عيسى - عليه السلام - لن يسعى لمقابلة البابا، لكنه سيحاول تحرير القدس كما حررها من قبل من الغارسيين والكتبة والمنافقين، وسيقود جيش المسلمين من فلاحي مصر والشام وفلسطين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد
التعليقات ( 1 )
عن المبشرين
-ح
07:34:59 2020-07-17