بسم الله الرحمن الرحيم
يحلو للنخبة العلمانية أن تجعل من مسألة البرنامج الحجة الكافية، والتبرير الموضوعي لإقصاء الفاعل الإسلامي من ساحة التدبير للشأن العام. فالحركة الإسلامية في منظورها حركة احتجاج اجتماعي تستهدف الشرائح الاجتماعية المسحوقة، حيث تستغل مخزون الغضب الاجتماعي المتراكم عندها، نتيجة اليأس والإحباط من شروط الواقع التي لا تفي بأي تسوية لأوضاعها المتردية.
وهي إذ تؤسس لخطابها النقدي تركز على النفس الشعاراتي للحركة الإسلامية، وعلى استغلال العاطفة الدينية للجماهير. وهي لا تفتأ تذكر بالمستوى المتدني للوعي بالنسبة للطبقات الشعبية التي تستجيب لنداء الحركة الإسلامية، بل تتطرف أحياناً، وتخرج عن صوابها وتلعن الجماهير، بل وتلعن الديمقراطية، تلك القيمة الحضارية، لمجرد أنها تقنية وأداة لم تعط الريادة والطليعة للنخبة العلمانية. ويكتمل الخطاب النقدي العلماني للحركة الإسلامية بالتركيز على البرنامج.
فالحركة الإسلامية، أو قل للدقة، الفاعل الإسلامي السياسي إنما يزايد بشعارات في الساحة السياسية منافسا النخب العلمانية، وهو لا يمتلك أي برنامج اقتصادي وسياسي يمكن البلاد من الخروج من أزمتها الراهنة. في حين تتميز النخبة العلمانية كما تروج لذلك في خطابها بالرؤية العامة التي تؤطر البرنامج، كما تمتلك البرنامج التفصيلي الذي يؤطر مختلف مناشط تدبير الشأن العام، بل وتمتلك أيضا الإجراءات الاحتياطية، والاحترازات التي يلزم أن ترافق كل مشروع طموح يراد له أن يقود البلاد.
المناقشة الموضوعية لمثل هذه الانتقادات العلمانية المتوجهة للحركة الإسلامية ينبغي أن تنطلق من الحلقة الأولى الممسكة بكل الحلقات الأخرى، أو قل ينبغي أن تنصرف إلى نقد المسلمة المنطلق منها، ومن ثمة عرض بقية الأفكار على محك النقد العلمي.
مشكلة الطرح العلماني هو في تقييمه للحركة الإسلامية وخاصة في تحديده لمقومات النشأة والتجدر.
تجنح غالب المقاربات العلمانية إلى اعتبار العامل الاجتماعي هو المحدد لتفسير الظاهرة الإسلامية فالحركة الإسلامية، هي حركة أصولية ماضوية استطاعت أن تقوي عناصر خطابها بمضمونين أساسيين:
- التركيز على المضامين الدينية، وبالتالي استثمار الرصيد العاطفي لدى الجماهير.
- التركيز على البعد الاجتماعي، وتأطير الشرائح الاجتماعية الفقيرة والمهمشة والمنبوذة، حتى أن بعض المعالجات العلمانية التي تتزيى بلبوس علم النفس الاجتماعي، حاولت تبرير هذا الاختيار، فجعلت من الراحة النفسية، والوضعية الرمزية والاعتبارية لهذه الفئات داخل البنية التنظيمية للحركة الإسلامية مبررا للتوسع والاكتساح الذي تحققه هذه الحركة في صفوف هذه الشرائح. وهكذا ترى النخبة العلمانية، أن الفاعل الإسلامي السياسي يستثمر رصيد الغضب المتراكم، ومخزون اليأس والإحباط المركوز في لا شعور الفئات المسحوقة وتراكم كل ذلك في رصيدها لكسب المعركة السياسية.
والغريب أن النخبة العلمانية لا تولي اعتبارا لتجديد مقاربتها ومراجعتها، لأنها تعتقد أنها جاءت بمسلمات لا سبيل إلى فتح النقاش في صدقيتها بله إعادة النظر فيها. وعناصر المنهج تقتضي طرح كل الأفكار للنقاش، حتى تلك التي تعتبر ركائز ومنطلقات للفكر العلماني.
والواقع أن الطرح العلماني لا يحسن، بهذه المقاربة، فهم الظواهر الاجتماعية. فلقد أثبتت المعاينة الواقعية لمسار تطور الحركة الإسلامية، وخاصة في هذا البلد، أنها حركة نخبة مثقفة متعلمة، منشغلة بهموم الذات المغربية ووضعيتها في السلم الحضاري، ذلك الانشغال المؤطر بالانتماء لهذه الأمة، والانطلاق من مقوماتها الثقافية ورصيدها التاريخي. فهي حركة نشأت في بيئة مغربية إسلامية لها أصولها التاريخية، فهي لا يمكن بحال أن تنظر إلى هذا البلد خارج تجربته التاريخية، ولا يمكن أن تلغي الرصيد المرجعي الثقافي ونظام القيم الذي كان يشكل أساس النهضة المغربية كما عرفت تاريخيا.
وهي إذ تقوم وضعية بلدها على كافة المستويات، تعرض ذلك على تجربته الحضارية، وعلى رصيد الآخر (الغرب) في الواقع، ذلك الآخر الذي لم يكن يشكل نموذجا بالنظر إلى الإمكانات الذاتية، وهي إذ تفعل ذلك لا تجد من بديل سوى الانطلاق من الأصالة الإسلامية، التي تعني التصالح مع القيم، والتصالح مع التاريخ، وأيضا الانخراط الفعلي في استكمال بناء العبقرية والحضارة المغربيين، ولا يتم ذلك إلا باكتساب للخبرات العلمية، والكفايات الحضارية التي لا يتصور حصولها بغير الانفتاح القاصد و الواعي على الحضارة الغربية. بهذه النظرة تطرح الحركة الإسلامية معالم مشروعها النهضوي. وهي لا تعلن العداء للغرب كما تصور ذلك النخبة العلمانية، وإنما تطرح نموذجا للعلاقة القائمة بين الدول، تلك العلاقة المبنية على احترام الخصوصيات الثقافية والحضارية، وعلى رعاية المصالح المشتركة، وعلى احترام السيادة الداخلية للدول.
أعتقد أن هذه المبادئ لا يمكن، لمجرد تبنيها، أن تصبح الحركة الإسلامية تستعدي الغرب، وتعلن الحرب ضده. فإعلان هذه الحركة لتضامنها مع الحركات التحررية، ومع قضايا المسلمين، وإبرازها لمظلوميتهم لا يمكن أن يصنفها في صف العداء مع الغرب، بل على العكس، أن تلك المواقف تعبر عن عمق الانتماء الإسلامي والوفاء لقيم التضامن الإسلامية وحتى العالمية.
نعود الآن لمسألة البرنامج، يغالط كثير من العلمانيين الناس حينما يعلنون النزوع نحو الشعارات عند الحركة الإسلامية، مع أن مجمل الشعارات التي خلقت الإحباط واليأس في نفوس الشعوب العربية على امتداد التاريخ العربي المعاصر كانت علمانية المنزع، بل وحتى التجارب المغامرة التي حطمت النظام العربي، إنما كانت مؤطرة بشعارات علمانية تعلن صراحة أنها بغير مشروع وبغير برنامج، وأن طريقها ومنهجها التجربة، بل ومن الزعماء العلمانيين من ينتقد في عنف مفهوم البرنامج، ويعلن في نفس ثوري، أن منهج التجربة الدائر بين الخطأ والصواب هو الذي يبني الفهم السياسي والممارسة السياسية الراشدة. وعليه فلا يخلو توجه نهضوي من طرحه لشعارات تعبر عن مواقف المرحلة أو التوجهات الإستراتيجية للتيار.
تنظر الحركة الإسلامية إلى قضية البرنامج باعتباره إجراءات واقعية وتدابير تنسحب على كافة مجالات الشأن العام. غير أن هذا البرنامج لا يكون له أي تأثير في غياب مشروع مجتمعي ينطلق من مرجعية معينة، بنظام قيم معين، بهوية معينة ووجهة قاصدة. هذه العناصر هي التي تؤطر البرنامج، أو قل هي الأرضية الأساسية لنجاح أي مشروع مجتمعي. فتركيز الحركة الإسلامية على المشروع المجتمعي المؤطر بتلك العناصر هو الذي يضمن قابلية المجتمع للانخراط في تنفيذ عناصر البرنامج.
والذين يجعلون من البرنامج النقطة المحورية في نقدهم للحركة الإسلامية لا يفهمون معنى البرنامج، ولا يفهمون أيضا الحركة الإسلامية. فالبرنامج بالتحديد البسيط هي مجموعة من التدابير التي يضعها الخبراء والمتخصصون في مجال من المجالات لحل معضلة من المعضلات، أو لتحقيق تنمية معينة. هذه التدابير تكون ناتجة عن فهم دقيق لطبيعة المسألة من ناحية الخبرة الفنية، ثم صياغة الإجراء صياغة تراعي فقه التنزيل ومراحله، ولا يكون ذلك بغير النظر في المآلات، ومن ثمة تتميز المشاريع والبرامج الناجحة بما يسمى التدابير الاحتياطية التي توضع كحل عملي لمعالجة الوضعية الناتجة عن عدم فاعلية التدابير السابقة. وفي اعتقادي فإن الحركة الإسلامية لا تعدم الكفاءات القادرة على إبداع الحلول لقضايا الشأن العام، ولا تعدم من السياسيين من يفهم الواقع المجتمعي والسياسي الذي ستتنزل في إطاره تلك التدابير، ولا تعدم وجود الوسائل التربوية والثقافية القادرة على إقناع المجتمع في الانخراط في عملية التغيير والنهضة.
ولقد أثبتت التجربة العملية كفاءة الحركة الإسلامية في تسيير مجموعة من هيئات المجتمع المدني. بل أن الساحة الثقافية والاجتماعية، وساحة المدافعة النقابية والسياسية تثبت تميز التجربة الحركية الإسلامية وقدرتها التنظيمية وكفاءتها البرنامجية. في حين تراجعت المواقع العلمانية، وكان عجزها واضحا في هذا الحقل المدني، بل وكان عجزها فاضحا في تسييرها للشأن العام. وتلك حجة نضيفها في حوارنا مع النخبة العلمانية نؤكد من خلالها أن الكفاءة التنظيمية والخبرة الفنية والفهم الدقيق للواقع - وهي عناصر ضرورية لصياغة البرنامج وإبداعه - لا تكون قوية بغير فاعلية مجتمعية، تلك الفاعلية الشرط الرئيس في كل نهوض.
والنخبة العلمانية تفهم أنها تفتقد لهذه الفاعلية، بل إنها على الرغم من امتلاكها لكل قنوات التأثير عجزت أن تخلقها، وصارت مع إخفاقاتها المتكررة نخبة معزولة عن المجتمع، لأنها لا تمثل إلا نفسها، ولا ترعى إلا مصالحها، وما نظرياتها وتقليعاتها الفلسفية سوى التبرير الهجين لاستمرارها في مواقع النفوذ، واستئثارها بالمصالح الخاصة.
إن النخبة العلمانية مدعوة لفتح حوار هادئ وهادف حول المشروع المجتمعي لبلدنا المغرب، ولا بأس أن قامت بإلقاء نظرة، ولو عابرة على تاريخنا المغربي الحافل، وأمعنت النظر في مسار النهضة المغربية منذ مئة وخمسين سنة، أن هذه المدة الزمنية كافية لبناء وعي نهضوي مغربي أصيل، يحسن رسم علاقة الذات بالآخر (الغرب)، ويحدد المنطلقات العقدية والمرجعية للانطلاق، كما يضع القيم على رأس الأولويات في المشروع المجتمعي.
لقد آن الأوان لتعيد النخبة العلمانية موقفها من النموذج الغربي، وأن تعلن انتماءها للأمة ولتاريخها وحضارتها، قبل أن يغير التاريخ موقفها. فلقد أثبتت الوقائع التاريخية أن من لم يعدل موقفه لكي يساير التطور التاريخي، يقوم التاريخ بتعديل موقفه. فكم تبنت النخب النظرية الماركسية، وماتت من أجلها في جلد عقدي، والتزام مذهبي كبير، وكانت الانتقادات توجه إليها، وكانت تنظر بعين الكبرياء إلى أطروحاتها النظرية، وبعين الاستصغار لكل مخالف، ولقد حكم المنطق التاريخي في تطوره بهجانة من يتبنى الطرح الماركسي، حتى أن الماركسيين أنفسهم بعد تغير مواقفهم ومواقعهم، صاروا ينظرون إلى رفاقهم الملتزمين بمفاصل المنهج، على أساس أنهم نصوصيون أو طوباويون حالمون، وأحيانا يتهجم عليهم بنفس المفردات الماركسية فينعتون بأصحاب النزعة الفوضوية الطفيلية.
أعتقد أن النخبة العلمانية نشأت في مناخ من التأثر بالنموذج الغربي، واكتسبت إشعاعها الأول بالتبشير بالحداثة ومعطياتها، فإذا كان الغرب اليوم قد كشف عن نواياه العدائية اتجاه كل من أعلن مجرد الاستقلال في قراره السياسي، وصنف المؤمنين بالتعدد الحضاري ضمن الدول المارقة، وصنف غير المنخرطين في حملته المجنونة ضمن الدول الراعية للإرهاب، والتمس كل المبررات للسيطرة على المواقع الإستراتيجية في العالم، فإنه قد حان الوقت بالنسبة للنخبة العلمانية لفك ارتباطها الفكري والسياسي بالغرب، وإعادة بناء مفاهيمها المستقلة انطلاقا من المصالح الوطنية، ولا ضير بعد ذلك أن وقع الخلاف في الأفكار والتصورات ما دام الكل راعيا للمصالح العليا بالبلاد. وحينذاك لا شك تتغير النظرة العلمانية للحركة الإسلامية ولخطابها الحركي، وتنظر إلى هذا الفاعل الجديد بنظرة إيجابية كبيرة، إذ سترى المجتمع كله محكوما بنظرة واحدة وموقف واحد، هو خدمة البلاد في إطار من التداول الديمقراطي الذي ينمي الفعالية الاجتماعية، ويحصن النسيج المجتمعي. كزا و صفعا...))
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد