بسم الله الرحمن الرحيم
نادرة تلك الكتب التي تستوعب أجزاء البحث الذي تتناولهه، وأقل منها أن يكون مع الاستيعابº العمق، والجُدة، والأصالة، والتحقيق، وأندر النادر أن تجمع مع كل ذلك الإمتاعَ والأسلوب الأدبي الرصين، من تلك الكتب التي تستولي على القارئ المثقف الجاد، وتحرك عقله، وتدفعه للنظر المتعمق في القضايا المعروضة كتاب العلمانية للدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي.
المقدمة:
قدم المؤلف للكتاب بمقدمة بين فيها أن الإسلام هو أعظم منن الله على البشرية عامة، وعلى أمة الإسلام خاصة، وأن كلمة لا إله إلا الله هي روح هذه الأمة، وسر وجودها، ومنبع حياتها، وأن الأمة بقيت ردحاً من عمرها تتبوأ منزلة عالية بين الأمم حين كانت تدرك معنى هذه الكلمة، وتعمل بمقتضاها.
ثم بدأ نور هذه الكلمة في الخفوت، فبدأ شأن الأمة في الهبوط، حيث ظلت تفقد من ذاتيتها وأصالتها بمقدار ما تفقد من نور هذه الكلمة، في علاقة مطردة تؤكد سنة من سنن الله لم تتبدل على مدار التاريخ.
وكان من أعراض هذا المرض المدمر º" فقدان الذات": الانبهارُ القاتل بالأمم الأخرى، والاستمداد غير الواعي من مناهجها ونظمها وقيمها، وكان مما زاد هذا المرض خطورةº الجهل بحقيقته، وعدم إدراك أسبابه، فكان التشخيص الخاطئ سبباً في العلاج الخاطئ الذي أدى إلى مضاعفات جديدة.
لقد تصور البعض أن هذا الداء يمكن علاجه بترقيعات نتلقاها من الكفار الذين أسموهم العالم المتحضر!.
كانت قابليتنا للذوبان مبرراً للحرب الشرسة التي شنها الغزاة على أفكارنا وأخلاقنا، حيث طمعوا في القضاء على مقومات وجودنا قضاء تاماً، فأقبلت طلائع ذلك الغزو الفكري تحمل شعارات متباينة الاتجاهاتº عليها من البهرجة والبريق ما يكفي لتضليل أمة منبهرة مهزوزة.
جاءت الاشتراكية والقومية والديمقراطية وفلسفة التطور واللادينية وغيرها من المسميات والشعارات، وتغلغلت هذه الأوبئة في العقول والقلوب التي فقدت رصيدها من " لا إله إلا الله " أو كادت، ونشأ على ذلك فلول ممسوخة أخذت على عاتقها إكمال عملية المسخ لباقي الأمة، وتعبيد الشعوب المسلمة للغرب، والإجهاز على منابع الحياة والقوة الكامنة في دينها، لكن الله - تعالى - تدارك الأمة برحمته، فأنبت من بين هذا الركام والظلام رجالاً صادقين، وأطلت من بين النيام والأموات صحوة جهادية أصيلة، طلبت الهداية والعلاج من كتاب الله - تعالى - وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فعادت إلى صفاء العقيدة، وسلامة المنهج، ولمحت ما في المناهج الموجودة من انحراف وضلال، فلفظت سموم الغزو الفكري الذي كاد أن يقضي عليها، وانتبهت إلى ما يروج في ساحاتنا الفكرية من مذاهب هدامة، كان منها مذهب العلمانية الذي كانت سحابة كثيفة من الضبابية تغشاه وتعمي حقيقته عن المثقفين فضلاً عن العامة، مما جعل أسهمها لا تزال مرتفعة في أسواقنا سواء باسمها الصريح، أو تحت شعار الديمقراطية، أو شعار " الدين لله، والوطن للجميع، أو غير ذلك من الشعارات.
كان هذا أحد الأسباب التي حدت بالمؤلف أن يتناول العلمانية بتلك الدراسة الجادة العميقة الموسعة، وكان السبب الثاني هو أن موضوع العلمانية المتمثل في عزل الدين عن توجيه الحياة يصادم مفهوم لا إله إلا الله، ومع ذلك نجده موجوداً في كافة مناحي الحياة في مجتمعات المسلمين، مما يستلزم كشف الزيف الذي يلفه ويخفي حقيقته عن المسلمين.
ثم عرف المؤلف بالعلمانية، وبيّن الخطأ في ترجمة الكلمة الإنجليزية secularism بالعلمانية، وأن هذه الكلمة لا صلة لها بالعلم، وأن الترجمة الصحيحة للكلمة هي اللادينية، ثم أيد ذلك بإيراد عدة تعريفات من دوائر المعارف الأجنبية للعلمانية، كلها تؤكد أن معنى ال (secularism ) في بيئتها التي نشأت فيها: الروح الدنيوية، أو الاتجاهات الدنيوية، أو الحركة المضادة للديانة المسيحية، وأنها نظام من المبادئ والتطبيقات يرفض أي شكل من أشكال الإيمان والعبادة، وأن الدين لا دخل له في شؤون الدولة، ولا سياسات الحكومة، وخاصة التربية العامة، وأنها دنيوية مادية لا تقبل المفاهيم التي تتعلق بالدين والروحانية، فالتربية التي تعتمدها لا دينية، فالدين في معنى هذا المذهب لا ينبغي أن يكون أساساً للأخلاق والتربية، ويقدم المستشرق " أربري " في كتابه (الدين في الشرق الأوسط) نموذجاً لأهم معاني العلمانية وهو فصل الدين عن الدولة بالجمهورية التركية، ثم يعلق المؤلف على العبارة المشهورة في وصف العلمانية " فصل الدين عن الدولة " بأنها تعريف غير دقيق، وأن مدلولها الصحيح هو " إقامة الحياة على غير الدين "، فالإسلام والعلمانية - أي اللادينية - نقيضان لا يجتمعان.
قسم المؤلف الموضوع إلى خمسة أبواب: الباب الأول دين أوروبا أو المسيحية بين التحريف والابتداع وفيه فصلان: الأول: التحريف: تكلم فيه أولاً عن تحريف العقيدة ( قضية الألوهية - تحريف الأناجيل )، وثانياً عن تحريف الشريعة، وفصل الدين عن الدولة.
والفصل الثاني: البدع المستحدثة في الدين النصراني: تكلم في هذا الباب عن دين أوروبا النصرانية الذي انحرفت عنه إلى اللادينية، وأثبت ما اعترى النصرانية من تحريف وتبديل، وأنه لم يعد يمثل دين الله الحق لا في العقيدة، ولا في الشريعة، بل تحول إلى مجموعة من الخرافات والبدع تولت الكنيسة كِبَر تسويقها وترويجها، وإيهام الناس أن ذلك هو الدين النصراني، وكان هذا التحريف الذي أصاب الدين النصراني على يد القساوسة الكذبة هو السبب الممهد للعلمانية، حيث طغت الكنيسة ودوخت أتباعها في خرافات يرفضها العقل، وتمجها الفطرة، ف
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد