بسم الله الرحمن الرحيم
الفصل الثاني: علمانية الاقتصاد:
الاقتصاد عند الجاهلية الأوربية المعاصرة هو الإله الأكبر، فقد انتقل الأوروبي من العبودية لرجال الكنيسة أو النبلاء إلى العبودية للرأسمالية أو الحزب الشيوعي.
نظرية الكنيسة ونظام الإقطاع: أقرت الكنيسة نظام الإقطاع السائد بل أصبحت مؤسسة من مؤسساته الثابتة، وأقرت الاضطهاد الذي كان واقعاً على أرقاء الأرض لكنها وقفت من الربا موقفاً متشدداً محرمته ومحاربته، لم تكتب الكنيسة احترام الناس بسبب سلوكها الذاتي وطغيانها المالي الفظيع، ولهذا فشلت في وضع سياسة اقتصادية عادلة تستمد أصولها من الدين.
كان المجتمع الأوربي ينقسم إلى طبقات:
الطبقة العليا: طبقة السادة الملاك وطبقة رجال الكيسة وهاتان الطبقتان كانتا تعيشان في ترف، والطبقة الدنيا: (العبيد ورقيق الأرض وصغار القادة والزهاد من رجال الكنيسة).
ومما يجدر الإشارة إليه هنا أن السادة الملاك كانوا يفرضون على رقيق القلب من الواجبات ما يثقل كاهلهم فعليهم أن يدفعوا للسيد الضرائب والأجزاء من محصوله وماشيته ويعمل سخرة للسيد بالإضافة إلى أنواع من الغرامات في مناسبات كثيرة بل إن بعض هذه الواجبات كان فيها الكثير من طعن الشرف والاعتداء على الكرامة مثل أن للسيد حق الليلة الأولى أي أن له أن يقضي الليلة الأولى مع عروس رقيقه كما أن للسيد أن يرث تركة رقيقه بعد موته.
هذا هو نظام الإقطاع الذي قامت على أنقاضه الحياة اللادينية المعاصرة و مع كثرة مساوئ نظام الإقطاع فإن أعظم مساوئه في الحياة والفكر أمران: ارتباطه بالدين، من الناحية التاريخية كان النظام الإقطاعي في عنفوانه في الفترة نفسها التي كانت الكنيسة في عز نفوذها ثم كان انـهيارهما معا فاستنتجت الجاهلية من ذلك معادلة خاطئة خلاصتها أن المجتمع الإقطاعي طبقي لأنة متدين، ولأنه بشع فلا بد أن يذهب ويستلزم ذلك نبذ الدين كلية أو على الأقل عزله عن التأثير في مجريات الأحداث وكانت الشيوعية أكثر انحرافاً وتطرفاً حين نسبت للدين دوراً إيجابياً في قواعد الظلم الإقطاعي.
2- المذاهب الاقتصادية اللادينية:
1 - المذهب الطبيعي: لما دبت الجفوة العميقة بين العلم والدين انفصلت النظريات الاقتصادية عن المثل والقيم الدينية، ووُلِد عندهم إله جديد وهو الطبيعة حيث حلت هذه الكلمة محل لفظ (الجلالة)، وارتفعت أصوات كثير من العلماء في سائر ميادين العلم والفلسفة يعلنون أن المجتمع (الطبيعي) هو المجتمع المثالي الذي يجب أن تؤوب إليه البشرية ففي الأخلاق ظهرت فكرة الأخلاق" الطبيعية".
ومع ظهور عدد من الكشوفات العلمية مثل كون الأرض ليست مركز العالم بل تدور حول الشمس، والكشف الذي اهتدى إليه هارتس بشأن الدورة الدموية ونظريات نيوتن عن الجاذبية والحركة، تساءل الناس: إذا كانت المصادر القديمة (آراء الكنيسة) أخطأت في نظرتـها للعالم الطبيعي، فلا يبعد أن تكون كذلك مخطئة في نظراتـها إلى السلوك البشري، من هنا أصبح كل شيء موضع التساؤل والشك، وأصبح البحث ينصب على تفسير النتائج والأسباب بالنسبة إلى السلوك البشري عن طريق قوانين الطبيعة بدلاً من البحث عنها في إرادة الله، أما أثر هذا المذهب على الاقتصاد خاصة فقد تأكد لدى كثير من الفلاسفة القناعة بأن تطبيق العقل على الأساليب التي يستخدمها الناس جدير بأن يكفل لهم الحياة المثالية أو (اليوتوبيا)، فتعددت وجهات نظر الفلاسفة الطبيعيين بشأن تنظيم المجتمع لا سيما من ناحية توزيع الثروة بطريقة عادلة، إلا أن الجامع بينهم كان (حرية العمل).
2 - المذهب الرأسمالي الكلاسيكي: وهو في حقيقته تطوير للمذهب الطبيعي، فلم يكن هذا المذهب أقرب إلى السماحة والاعتدال في معاملة الطبقة الفقيرة كما كان يتوقع، بل جاء هذا المذهب بنـزعة لا أخلاقية، فلم يكن إلحاح الرأسماليين على حرية الفرد وحقه في العمل لمصلحة الفرد الذاتية، بل كان ذلك تأكيداً لحرية المحتكرين من أرباب المصانع والتجار والصيارفة وكان من أشهر الرأسماليين الكلاسيكيين (آدم سميث - ومالتس - وريكاردو)، إذ على أكتافهم نـهض المذهب الفردي الرأسمالي، وهاك خلاصة لمذهب كل منهم:
آدم سميث (1790م)
عرف آدم سميث بأنه فيلسوف الاستعمار وكاهن الرأسمالية وأبو الاقتصاد العصري، كما عدّ كتابه (ثروة الأمم) أهم المؤلفات الاقتصادية في زمنه وأبعدها أثرا، ويشرح ذلك روبرت داونز فيقول: إن نظرية سميث في كتابه المذكور نظرية ذات نزعة ميكافيللية، وهي أن العامل الأول في نشاط الإنسان هو الأنانية والمصلحة الشخصية، ومن مظاهر تلك المصلحة العمل على جمع الثروة، بل إن سميث يرى أنـها صفات محمودة لا مرذولة، والغريب أن كتابه هذا قد حظي بشهرة واسعة على الرغم مما يتضمنه من روح غير أخلاقية تتمثل في مراعاة مصالح الرأسماليين وتشجيعهم على الجشع والقسوة، والإعراض عن معاناة الجموع الغفيرة من العمال والفلاحين، ولم يقتصر سميث وكتابه على إنجلترا ولا أوربا وحدها بل كان كتابه المذكور (إنجيلاً) للمستعمرين الذين انقضوا على بلدان العالم الضعيفة ينهبون خيراتـها ويستعبدون شعوبـها.
على أن سميث لم يسلم من معارضة بعض ذوي الميول الدينية أو الإنسانية، فقد قال عنه (رسكن): إنه الإسكتلندي الغبي الهجين الذي يدعو الناس عمداً إلى التجديف في الدين بقوله: عليك أن تكره الرب إلهك، وتعصي وصاياه، وتشتهي مال قريبك.
مالتس (1834):
كان مالتس صورة مبالغ فيها من سميث، فقد كان أسوأ منه، حيث دافع عن نظرية سميث، ووقف بحدة أمام نظرية متفائلة ظهرت في القرن الثامن عشر تتلخص في أن الطبيعة قد وفرت للإنسان لوازم السعادة، فما على الإنسان إلا أن يحسن توزيعها، فرد على أصحاب تلك النظرية المتفائلة بنظريته الشاذة التي اشتهرت فيما بعد، وخلاصتها أن تزايد السكان يحصل وفق متوالية هندسية (2- 4 8 16 32 -..)، وأما الموارد الغذائية في العالم فتنمو وفق متوالية عددية (2 4 6 8 10 -)، وعليه فإن الموارد لن تكون كافية للسكان بعد زمن، ولابد من حصول مجاعات تقضي على نسبة كبيرة من سكان البسيطة.
ولم يكتف مالتس بتأييده لنظرية سميث، بل زاد عليها بأن اعترض على قوانين الفقراء في إنجلترا، ورفض بشدة أي رحمة لهذه الطبقة المعدمة غير المنتجة، ومنع كل صور الإحسان أو الإعانات إلى تلك الأسر العاجزة عن تدبير وسائل معيشتها.
وبين المؤلف أن مثل هذا الجنوح اللا أخلاقي في نظريتي سميث ومالتس يشير إلى أن الفكر الأوروبي يميل إلى اعتناق مثل تلك النظريات الشاذة والأفكار اللا أخلاقية المتطرفة، على الرغم من وفرة الأفكار الأقرب إلى الاعتدال والموضوعية، وألمح إلى أن تلك الظاهرة قد تبدت لنا عند الكلام على الميكافيللية والماركسية والفرويدية، وأن ذلك يعود إلى مرض متأصل في النفسية الجاهلية أكثر من كونه نتيجة طبيعية للأوضاع الفكرية والاجتماعية غير الطبيعية.
ريكاردو:
يرى ريكاردو" اليهودي" أن مسئولية التفاوت الاجتماعي والأزمات الاقتصادية تنصب على ما أسماه" الريع" وليس على" الربح"
والريع هو المكسب الذي يحصل عليه مالك الأرض، أما الربح فهو مكسب الصناعي الرأسمالي، ويعلل ذلك معتمداً على نظرية سميث في إعطاء القيمة للعمل، بأن الريع ليس ثمناً للعمل، ولكنه ناتج عن امتلاك مورد طبيعي للثروة.
ويرى أن ملاك الأرض إذا تقاضوا أثماناً عالية لوسائل العيش فهم لا يستغلون العامل، ولكنهم يستغلون صاحب العمل الذي يضطر إلى أداء أجور عالية لعماله، بينما هو لا يستطيع أن يرفع من أثمان منتجاته لأنـها تتحدد في سوق قوامها التنافس.
وكان من ثمرات نظريته أن أقنع الرأسماليون الحكومة الإنجليزية بإلغاء قوانين الغلال فأفسحت المجال لاستيرادها من الخارج، فهبطت أرباح الملاك الزراعيين، وانخفضت تكاليف الصناعة، فخفض الرأسماليون أجور العمال، ثم تمادى ريكاردو فطالب بتأميم الأراضي وفرض الضرائب الباهظة عليها.
الأثر العام للمذهب الكلاسيكي:
كانت المنفعة المادية وتحقيق أكبر ربح بأية وسيلة هي هدف المذهب الكلاسيكي وقانونه فقد جرد الاقتصاد من أي مؤثر أو صبغة دينية أو أخلاقية، فأنتج هذا المذهب مشكلتين خطرتين:
الأولى: قيام اقتصاد عالمي يجعل الربا والاحتكار عموده الفقري.
والثانية: تعريض الشعوب التي طبق عليها المذهب للجوع والبطالة والأزمات الخانقة، وقد صور الروائيون من الإنجليز ما كان عليه حال العمال من النساء والأطفال، وما كان عليه حال الملاجئ والفقراء - ولم تكن أمريكا بأحسن حالا من بريطانيا - ولم تدم للرأسماليين فرحتهم بـهذا الاستغلال البشع للعمال الكادحين، فقد أضرمت هذه المعاهدة النار في القلوب وأججت ضدهم نار العداوة، فانبعثت الشرارة للفكر الاقتصادي الماركسي.
3 - المذهب الاقتصادي الشيوعي: بينما بالغ الرأسماليون في تطبيق المذهب الفردي تطرف الفكر الشيوعي في تطبيق المذهب الجماعي الذي لا يقيم للفرد وزنا إلا من جهة كونه مسمارا في الآلة الاجتماعية، وفي الحقيقة فإن الفكر الجماعي له جذوره القديمة التي تصل إلى أفلاطون في جمهوريته المشهورة.
وكان من طليعة المفكرين الاشتراكيين في الغرب" روبرت أوين" و" سان سيمون"" وفورييه" إلا أنـها كانت اشتراكية نظرية خيالية أما اشتراكية ماركس فهي الاشتراكية العلمية الوحيدة في التاريخ والتي ساندتـها الفلسفة المثالية الألمانية" فلسفة هيجل" كما ساندتـها نظرية دارون.
وهكذا تبلور المذهب الاشتراكي بعد عمليات من التلفيق والترقيع استخدمت فيها أشتات فكرية منوعة، وكانت أوضح البصمات على الشيوعية هو التراث اليهودي والنفسية اليهودية، وهو ما يتجلى في العبودية الخانعة للمال وتأليه المادة وكذلك في الحقد على البشرية وقيمها ومقدساتـها. وأوضح المؤلف أن دراسة الاقتصاد الشيوعي بمعزل عن الفلسفة الشيوعية في إطارها العام ليس إخلالا بالموضوعية العلمية فحسب، بل هو ضرب من إضاعة الجهد فيما لا طائل تحته، فمؤلفات الإلحاد الشيوعي هي كتب اقتصادية شيوعية، كما أن الكتب الاقتصادية الشيوعية هي كتب إلحاد بالدرجة الأولى.
فالفكر البشري في النظرية الشيوعية هو انعكاس للواقع المادي - فالمادة هي الأساس ومنها ينبثق الفكر والمشاعر ومن هذه المشاعر الدين نفسه، وكان ذلك الإلحاد جريا مع المادية الجدلية وتطبيقا للتفسير الاقتصادي للتاريخ الذي قام على مبادئ نظرية كان من أهمها:
1 - حتمية الصراع بين المتناقضات وهو يعني بالنسبة للمجتمع البشري الصراع بين الطبقات وبين المصالح المادية المتعارضة وكان من أخطر المبادئ الفلسفية الشيوعية مبدأ حتمية الانتقال عبر مراحل وإنه لا إرادة للإنسان في الانتقال وإن هذا الانتقال يصحبه تغير حتمي في الأفكار والمعتقدات والسلوك فالدين في نظر الشيوعية أوهام وخيالات انعكست عن الوضع الاقتصادي...
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد