بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
الغربة والاغتراب في روايات (غائب طعمة فرمان) رسالة تقدمت بها ميساء نبيل عبد الحميد إلى مجلس كلية التربية ـ جامعة تكريت وهي جزء من متطلبات نيل شهادة الماجستير في اللغة العربية وآدابها بإشراف أ. د.صالح علي حسين الجميلي 1432هـ/ 2011م
وفي هذه الدراسة بينت الباحثة أنه في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية، شهد العراق اشتداد الصراعات الاجتماعية – السياسية بين النظام الملكي الحاكم، والمدعوم من بريطانيا من ناحية، وبين تيارات الحركة الوطنية العراقية الساعية إلى التحرر من المعاهدات التي كبلت العراق وجعلت موارده في خدمة المجهود الحربي البريطاني، وإجراء إصلاحات جدية في بنية النظام السياسي القائم من جهة أخرى. وكان من الطبيعي أنْ ينعكس تأثير ذلك على المثقفين والأدباء العراقيين، من حيث تعميق رؤاهم النقدية للواقع الاجتماعي والسياسي، وحثهم على كتابة نصوص إبداعية تتناول أحداثاً سياسية وظواهر اجتماعية.
وتبعاً لذلك فقد ظهر خلال خمسينات القرن الماضي (العشرين) عدد من الأدباء والقصّاصين، الذين اصطلح في تأريخ الأدب العراقي الحديث على عدّهم رموز جيل الخمسينات، لعل أبرزهم: عبد الملك نوري، وفؤاد التكرلي، وشاكر خصباك ومهدي عيسى الصكر، وغائب طعمة فرمان.
ويمكن القول، إنَّ مما ساعد على اتساع آفاق هؤلاء الأدباء والقصّاصين وتعميق وعيهم الفكري والفني، هو اطّلاعهم على التيارات والمدارس الفكرية والفنية التي سادت الحياة الثقافية في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.
وهناك من يرى، "أنّ أبرز نماذج الخمسينات القصصية الواقعية، وأنضجها من الناحية الفنية، لم تكن سوى نتاج لتفاعل أثر تلك التيارات في وعي الأديب أو القاص ونظرته للواقع الذي كان يسعى إلى تغييره، مع ملاحظة أنَّ شدة التأثر بأحد هذين التيارين دون الآخر كانت تتباين من قاص إلى آخر"([1]). ففي حين كان أثر (الوجودية) في (فؤاد التكرلي) أكثر وضوحاً، كانت (الماركسية) هي المؤثرة في بلورة وعي (غائب طعمة فرمان) للواقع وحركته، وفي رؤيته القصصية لهذا الواقع، وهو ما يتجلى بوضوح في ما نشره من قصص وروايات.
ويعتقد العديد من النقاد والباحثين، أنَّ أهمية (غائب)، بالنسبة للأدب العراقي الحديث، تكمن أساسًاً في رواياته، لا في قصصه. ولعل ما رسّخ لديهم هذا الاعتقاد، النجاح الباهر الذي نالته الرواية الأولى التي أقدم على نشرها (عام 1966) – النخلة والجيران، والتي سرعان ما ثبتت اسمه في ميدان كتابة الرواية، على أنّه من الروائيين العراقيين البارزين، وله مكانة متميزة بين الروائيين العرب المعروفين. ويبدو أنَّ (غائب) نفسه قد اقتنع، من جراء ذلك، بأنَّ الرواية تمثّل النوع الأدبي الأكثر اتساعاً وقدرة على التعبير عن الواقع وما يتخلله من أحداث، ومن ثم فقد كرّس له، منذ منتصف الستينات تقريباً، القدر الأكبر من نشاطه الإبداعي.
وتعود معرفة الباحثة بأدب (غائب طعمة فرمان) إلى مرحلة دراستها الجامعية الأولى، اذ تكوّنت في ذهنها فكرة باهتة إلى حدٍّ ما، عن شخصيته وكونه روائياً عراقياً بارزاً، أمضى مدة طويلة من حياته في غربة عن وطنه (العراق)، بل ومات ودفن في بلاد الغربة. وبعد إنهاء السنة التحضيرية لدراسة (الماجستير)، انصرفت الباحثة ، شأنها شأن زميلاتها وزملائها، إلى البحث عن موضوع تتناوله بالدراسة وتعد عنه (رسالة) تنال على أساسها شهادة (الماجستير)، فانتقت عددا من الموضوعات، ولكنها كنت متوجسة من كونها قد بُحثت سابقاً من قبل باحثين آخرين، فبقيت مترددة بشأنها إلى أنْ اقترح عليها يوماً أحد أساتذتها أنْ تكتب عن (الغربة والاغتراب في كتابات غائب طعمة فرمان).
ومضت الباحثة إلى المكتبة –بل المكتبات– تنقّب وتبحث عن دراسات سبق أنْ أعدت عن (غائب طعمة فرمان)، وبعد بحث طويل تبيّن لها أنَّ الدراسات عن (غائب طعمة فرمان) لا تتعدى عدد أصابع اليد الواحدة، وهي تنحصر في ما يأتي:
1. دراسة الدكتورة فاطمة عيسى جاسم، الموسومة بـ(غائب طعمة فرمان روائيا").
2. دراسة الدكتور علي إبراهيم، الموسومة بـ(الزمان والمكان في روايات غائب طعمة فرمان).
3. دراسة الدكتور زهير شليبة، الموسومة بـ(غائب طعمة فرمان – دراسة مقارنة في الرواية العراقية).
4. دراسة شازاد كريم عثمان زين الدين، الموسومة بـ(الرؤية السياسية والاجتماعية في روايات غائب طعمة فرمان وإبراهيم أحمد) – وهي رسالة ماجستير قدمت إلى كلية التربية للبنات بجامعة بغداد، عام 2006.
5. كتاب الدكتور أحمد النعمان الموسوم بـ(غائب طعمة فرمان – أدب المنفى والحنين إلى الوطن)، الذي صدر عام 1996. وهو يضم أغلب ما كتب عن (غائب) من دراسات وبحوث، وما أجرى معه من لقاءات ومقابلات صحفية، وذكريات عنه كتبها أصدقاؤه – جمعها الدكتور النعمان بين دفتي الكتاب.
وخرجت الباحثة من قراءتها لهذه الدراسات، بأنَّ ما من واحدة منها قد عالجت موضوع (الغربة والاغتراب) في مجمل كتابات غائب طعمة فرمان، ودرستها دراسة تفصيلية قائمة بذاتها. مما يعني أنَّ إقدام الباحثة على دراسة هذا الموضوع ينطوي على استباق وجدة. بيد أنها عندما استشارت بعض أساتذتها في قسم اللغة العربية في كلية التربية – بجامعة تكريت لفتوا نظرها إلى أنَّ دراسة (الغربة والاغتراب في كتابات غائب طعمة فرمان) تتّسم بالاتّساع والشمول، لأنها تتطلب الرجوع إلى كل (كتابات) غائب طعمة فرمان، من مقالات، وخواطر، وشعر، وقصة قصيرة، وروايات – الأمر الذي يجعلها لا تتناسب مع المدة الزمنية التي يفترض أنْ يستغرقها إعداد (رسالة ماجستير)، وبالتالي فقد استقر أمرالباحثة على أنْ يكون موضوع (الرسالة) هو: (الغربة والاغتراب في روايات غائب طعمة فرمان)، وكان أنْ تفضل عليها أستاذها الدكتور (صالح الجميلي) بالموافقة على الإشراف على (الرسالة).
وقد اشتملت (الرسالة) على مقدمة، وتمهيد، وثمانية فصول، وخاتمة.
أما التمهيد، فقد تضمن التعريف بالمفاهيم أو المصطلحات الرئيسية الواردة في الدراسة، وتحديداً: مفهوم (الغربة)، ومفهوم (الاغتراب)، ومن الناحيتين: اللغوية والاصطلاحية.
كما حاولت الباحثة بيان أشكال أو أنواع (الغربة) و(الاغتراب)، فاستعرضت تلك الأنواع، وبينت خصائص ومواصفات كل نوع منها، وقد حرصت على أنْ أظهر، في خاتمة المبحث، ما يميز (الغربة) عن (الاغتراب) على أساس أنَّ (الغربة) تنطوي على بُعد مكاني، بشكل خاص، فهي تتعلق بما هو خارج ذات الإنسان، وتنم عن ابتعاد الإنسان عن ما ألفه من مكان، أو عن الأهل والأحبة. في حين أنّ (الاغتراب) ينطوي على بُعد انفعالي، داخلي – أي كونه شعور يعتمل في داخل الإنسان، من جراء أسباب وعوامل ومؤثرات عديدة: المألوف من الأشياء بسبب تقادم الزمن يسبب (اغتراباً زمانياً)، وعدم التآلف مع ما هو سائد ومتوارث من أعراف وتقاليد اجتماعية يُسبب (اغتراباً اجتماعياً)، وإن عدم الرضا عن السلطة السياسية يسبب (اغتراباً سياسياً)، وإنّ عدم الانسجام مع النفس وتطلعاتها يُسبب (اغتراباً نفسياً)، وهكذا...
وحاولت أيضاً جمع الوقائع التي تشكل سيرة حياة (غائب)، منذ ولادته في أحد أحياء بغداد القديمة الفقيرة، وتتبع مراحل نشأته العائلية والاجتماعية، وما واكب ذلك من مراحل دراسية أمضاها، مُبينة، في سياق ذلك، المؤثرات والعوامل التي ساهمت في تكوين ثقافته، وبلورة وعيه، وتحديد توجهاته الأدبية. ولقد بينت في ختام الفصل أنَّ حياة (غائب) وتكوينه الثقافي يمكن تقسيمها على (خمس) مراحل متعاقبة ومتميزة.
وتستطيع الباحثة الزعم، هنا، من دون مواربة، أنَّ ما كتبته عن سيرة حياة (غائب) وتكوينه الثقافي، يعد أول صياغة لسيرة حياته وتشكيل ثقافته وأكملها، إذ إنها لم تقع على أية محاولة لتحقيق ذلك من قبل أي باحث قبلها، وفق السياق الذي اتبعته، وبهذا التفصيل الذي أوردته.
وعمدت على تسليط الضوء على مظاهر الاغتراب في حياة (غائب)، وبيان مفهومه الشخصي أو تصوره الخاص عن الاغتراب، وأنواعه، وموقفه منه، ورد فعله تجاهه.
أما الفصول الثمانية، فقد مهدت لها بالحديث عن بعض (المفاتيح) التي تيسر لنا فهم غايات (غائب) من رواياته، ثم تناولت رواياته (الثماني (بالتحليل إلى عناصرها من (مكان) أو مسرح الرواية، و(الزمان) الذي تجري فيه أحداثها ووقائعها، وحبكة الرواية، ومسار أحداثها، ثم تناول شخصياتها الرئيسية والثانوية، وتحليل الشخصيات المهمة في كل رواية، وبيان مظاهر الاغتراب في أفكار ومواقف وسلوك تلك الشخصيات المهمة، مراعيةً لتسلسل صدور الروايات.
ثم ختمت (الرسالة) بـ(خاتمة) تشتمل على خلاصة ما ورد في الدراسة وإجمال أهم الاستنتاجات التي خرجت بها من دراستي. ثم أوردت (ملحقاً) أدرجت به قائمة بكل نتاجات (غائب) وكتاباته الاخرى، من مقالات وخاطرات، وقصائد شعرية، وقصص قصيرة، أو مجموعات قصصية، مبينة أين تم نشرها، ومتى، وذلك على سبيل التوثيق لإنجازات (غائب) الكتابية. وبطبيعة الحال، فقد أوردت، في النهاية، قائمة بالمصادر الأساسية والثانوية والمراجع التي اعتمدت عليها في إعداد هذه (الرسالة).
واتبعت الباحثة في دراستها للموضوع أكثر من منهج، وفقاً للموضوع الذي بحثته في كل مبحث. وعموماً، فإنني اتبعت المنهج الوصفي، والمنهج التأريخي، والمنهج التحليلي، والمنهج النفسي. أما المنهج الوصفي فقد اعتمدته في الفصل الأول، عند قيامي بوصف المقصود بـ(الغربة) و(الاغتراب)، وأنواعه. وأما المنهج التأريخي فقد اتبعته في تتبع مسار حياة (غائب) وتكوينه الثقافي في المبحث الثالث من الفصل الأول، وكذلك في مباحث الفصل الثاني ، اذ تناولت دراسة روايات (غائب) وفقاً لتسلسل نشرها وصدورها. بيد أني في المبحث الثاني من الفصل الثالث عمدت أيضا" إلى استخدام المنهج التحليلي والنفسي، متناولة كل رواية من روايات (غائب) الثمان، بالتحليل إلى عناصرها الأساسية، من (مكان) و(زمان) و(حبكة) و(شخصيات)، ثم تحليل الشخصيات المهمة في الرواية، والتي يتجلى في سلوكها ومواقفها، ومسارها وأقوالها ما تعانيه من اغتراب.
نتائج الدراسة:
خلصت الباحثة من دراسة مظاهر (الغربة) و(الاغتراب) في روايات (غائب طعمة فرمان) إلى:
1. ان تجربة (غائب) خلال مدة مكوثه في العراق كانت مدة قلقة يسودها عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي للمجتمع العراقي عامة. وقد كوّن غائب حصيلته الثقافية نتيجة متابعة ومطالعة الأدب العربي، بشقيه النثري والشعري، القديم والحديث، والأدب الغربي كذلك. وقد تزامن مع مرحلة تكوينه الثقافي اندلاع الحرب العالمية الثانية، وكان لأحد المعسكرين اللذين تشكلا حينها تأثير على سياسة العراق وأوضاعه القائمة لخضوعه في تلك الآونة لسيطرة الانكليز. وصارت تلك الحرب بمجرياتها الشغل الشاغل للمثقفين والمتابعين العراقيين، ومن بينهم وعلى وجه الخصوص (غائب)، ما جعله يواكب التطورات السياسية والتاريخية في تلك المرحلة، وتبدأ ثقافته بالتبلور على النحو الذي عرف عنه في رواياته الأولى.
2. كما تأثر بالعديد من المذاهب والاتجاهات الفكرية والسياسة التي نشأت وازدهرت في أوروبا وانتقلت إلى منطقة الشرق الأوسط لتؤثر على المجتمع العربي ، في مصر والعراق، وليس (غائب) فقط، الذي عكس ذلك التأثر في نتاجاته الكتابية. وكانت الصحافة المصرية، التي عمل فيها أثناء دراسته في جامعة القاهرة إحدى وسائل النقل لتلك الحركات والاتجاهات، كما هي الوسيلة الرئيسية التي اعتمد عليها (غائب) وكانت عينه التي يرى بها العالم من حوله خلال عمله سواء في الصحف والمجلات المصرية أو في (جريدة الأهالي) بعد عودته للعراق . وما لبثت الأوضاع السياسية ان تأزمت كثيرا في العراق إلى درجة صدور قرار بإغلاق بعض الصحف والجرائد، ومن ضمنها الجريدة التي كان يعمل فيها (غائب)، مما اضطره الأمر للبحث عن فرصة عمل أو وظيفة جديدة خارج العراق بعد أن تعذر عليه إيجادها فيه . وقد تعددت محطاته ، والتي شملت سوريا، ولبنان، ورومانيا، والنمسا وألمانيا ومصر والصين ثم العودة بعد (ثورة 14 تموز 1958) إلى العراق وفي كل محطة لبث مدة وانتقل إلى أخرى عساه يجد فرصة أفضل منها حتى استقر به المقام في الاتحاد السوفيتي (السابق) وتحديدًا عاصمته (موسكو).
3. وخلال إقامته في (موسكو)، اكتوى (غائب) بنار الغربة وذاق مرارة الفراق والابتعاد عن الأهل والأحبة، فلم يجد مفرا غير التنفيس عن ذلك من خلال كتابات تجلب له من شذى الوطن وعبقه ما يبقيه على تواصل معه ويجعله يتغلب على محنته ومعاناته من غربة مكانية والاغتراب بأشكاله. وكانت تلك التجربة القاسية فرصة لتحقيق نجاح أدبي لم يكن (غائب) يحلم في الحصول على مثيلها في وطنه. فنسج من ذكرياته عن الوطن وما عرفه فيه من شخصيات (أهل - أقارب - معارف - صداقات ) وأزقة، وبيوت، ومعالم مدينته الحبيبة (بغداد) قصصا وحكايات روائية تمنحه التواصل الذي كان يحتاجه في غربته وجاعلا من أزمته ومعاناته تجربة ايجابية، ورغم كل السلبيات التي تخللتها. فكانت روايات (غائب) الثمان تعبيرا واقعيا عن ما عاناه وقاساه من صعوبة في التآلف مع بيته الجديدة، وشعوره بعدم الانسجام ذاتيا مع من يحيطون به ، فضلا عن معاناته من التغير الاجتماعي وما فيه من عادات وتقاليد وأعراف غريبة. وان كانت معاناة (غائب) شأنها شأن معاناة غيره من العراقيين المغتربين، إلا انه بحساسية طبعه تميّز عنهم ببعض المغالاة، إذ مما يلاحظ أن (غائب) كان يساوره شك دوما بأن أزلام السلطة العراقية تطارده باستمرار، في حين لم يكن لهذا الشك أساس في الواقع، ولم يكسب جراء ذلك غير تعكر صفو حياته، واغتراب خانق، وتبديد لكل أمل بالعودة إلى ارض الوطن.
4. على الرغم من التوجس الذي لازمه، من السلطة الحاكمة في العراق، في كل العهود إلا أن ذلك لم يستأصل من قلبه التعلق أكثر بوطنه (العراق). والعراق -هو بغداد- وبغداد تعني له الأزقة والمحلات والشوارع، والهواء الذي كانت رئة (غائب) الوحيدة بحاجة إليه على نحو متزايد، بل وكلما طال الوقت به في الغربة زاد حبه وشغفه بها، والدليل رواياته التي لم تخل من أوصاف مدينة ـ بغداد ـ حبيبته الدفينة في قلبه . وقد عبّر في كل منها عن صورة شبه حية عن حياته واغترابه وإحباطا ته.
5. اشتملت تلك المؤلفات الروائية على شخصيات روائية، هي (غائب) في باطنها وشخصيات روائية في ظاهرها ، وعكست مشاعر مؤلفها وما اعتراه بكل صدق وواقعية.
6. ويمكن القول إن لكثرة السفر والترحال، أو لرحلة (التشرد) التي عانى منها غائب، وتوقه الشديد للوطن وما فيه، دور كبير في تحفيز ذاكرته، و طرح خزين ذكرياته التي وفرت له شعورًا بالتواصل مع الوطن الذي لا يفارق خياله.
7. كما يمكن القول، إنه على الرغم من لأفق الواسع الذي تميّز به (غائب) وثقافته العالية، إلا انه عرف دوما بالتواضع والبساطة.
8. تبين من خلال دراسة رواياته وتحليلها، أن (غائب طعمة فرمان) روائي عراقي رائد، أصيل، يسري حب العراق في عروقه. فقد ولد عراقيًا، وعاش حتى في غربته الطويلة عراقياً، وإن كانت الظروف السياسية - الدولية التي فارق الحياة خلالها من ناحية، وقرار زوجته الروسية وأم ولده من ناحية أخرى، قد حالا دون تحقيق أمنيته في العودة إلى أرض العراق؛ لكي تحتضن تربة العراق جثمانه.
9. في ضوء ما ذكرناه عن كل رواية من روايات (غائب طعمة فرمان) الثمان، وما تخللها من دلالات الغربة والاغتراب، سواء في سلوك الشخصيات، أم في الحوار الوارد على ألسنتها، أم من خلال السرد العام للرواية، يتبيّن لنا ماهية وطبيعة المعاناة التي جاشت في نفس (غائب)، والتي حاول عكسها أو إبرازها في رواياته، ويأتي ذلك مصداقاً لما ذكرته في بداية (الرسالة) من أنّ (غائب) قد عانى (الاغتراب السياسي) و(الزماني)، و(المكاني) و(النفسي)، إضافة للاغتراب (الثقافي) الأمر الذي أكسب بعض رواياته أجواءً فنية خاصة وتشويقاً مميزاً، ويتجلى في تصادم المصالح الشخصية بمواقف السلطة وإجراءاتها الهادفة إلى التحكم بمصائر الشخصيات، ولا فرار من سطوتها، سواء شاءت أم أبت.
والواقع، إننا إذا أمعنا النظر في سلوك ومواقف كل شخصية ووقفنا عندها سنلاحظ أنَّ لكل شخصية نوعا" اغترابيا" محددا" عانت منه، شأنها شأن مؤلفها، وسأحاول فيما يأتي الإشارة إلى نوع الاغتراب الذي تجلّى لدى كل شخصية من تلك الشخصيات:
10. الغربة المكانية: ويلاحظ أنه تميّز بالحضور الواسع في سائر روايات (غائب)، وقد تجلّى في سلوك كلٍ من (سليمة الخبازة) و(تماضر) و(مرهون السايس) و(رديفة) و(خيرية) و(مصطفى الدلال) – في رواية (النخلة والجيران). أما في رواية (خمسة أصوات) فقد تجلّى فس سلوك (سعيد) و(شريف). وفي (المخاض) تجلى في سلوك (كريم). وفي (القربان) في سلوك (ياسر). وفي (ظلال على النافذة) في سلوك (ماجد) و(حسيبة) و(عبد الواحد)، وإن كان لدى هذا الأخير مؤقتاً. وفي (آلام السيد معروف) تجلى الاغتراب المكاني في سلوك (معروف الدواليبي). وفي (المرتجى والمؤجل) تجلى في سلوك (يحيى سليم) و(علوان شاكر) و(صالح جميل). أما في رواية (المركب) فقد تجلى في سلوك (رائد).
11. الاغتراب النفسي: ويمكن أنْ نلاحظ أنه كان له سلطان على شخصيات (غائب) الروائية وأثّر في أفعالها وردود أفعالها، وهو يظهر بوضوح في سلوك (سليمة الخبازة) و(حسين) و(تماضر) و(مصطفى) و(مرهون السايس) و(رديفة) و(حمادي) و(خيرية) في رواية (النخلة والجيران). وفي سلوك (سعيد) و(عبد الخالق) و(شريف) و(حميد) في رواية (خمسة أصوات). وفي سلوك (كريم) و(هدية – زوجة السائق نوري) في رواية (المخاض). أما في رواية (ظلال على النافذة) فتجلى في سلوك (ماجد) و(فاضل) و(حسيبة) و(شامل) و(فضيلة) و(عبد الواحد). أما في (القربان) فتجلى في سلوك (ياسر) و(مظلومة) و(المعلم المتقاعد – علي) و(هادي). وفي رواية (آلام السيد معروف) تجلى في سلوك بطل الرواية (معروف عامر الدواليبي). أما في (المرتجى والمؤجل) فتجلى في سلوك سائر الشخصيات التي تطرقت إليها، ماعدا واحداً منهم (ثابت حسين) الذي يعاني اغتراباً مؤقتاً ما يلبث أنْ يزول بزوال المسبب. أما في (المركب) فقد تجلى في سلوك (خليل الرسام) و(رائد) و(عصام) و(شهاب).
12. الاغتراب الاجتماعي: ويلاحظ أنّه كان لتواجده الضئيل نسبياً تأثير فاعل على سلوك الشخصيات الروائية خلال تفاعلها مع أحداث الرواية، ففي رواية (النخلة والجيران) تجلى في سلوك (حسين) و(مرهون السايس) و(خيرية) و(سليمة). وفي (آلام السيد معروف) تجلّى في بعض ردود أفعال البطل (معروف عامر الدواليبي).
13. الاغتراب السياسي: ويمكن القول إنّه نوع من الاغتراب الدائم الحضور في ثنايا روايات (غائب)، إلاّ أنه ظهر بشكل صريح في سياق حوارات الشخصيات التي تطرقت لها في رواية (خمسة أصوات)، وكذلك لدى (كريم) و(نوري السائق) في رواية (المخاض)، ولدى (ماجد) و(عبد الواحد) في رواية (ظلال على النافذة)، ولدى (صالح جميل) و(علوان شاكر) و(ثابت حسين) في رواية (المرتجى والمؤجل)، ولدى (عصام) و(الشيخ نعمة) في رواية (المركب).
14. الاغتراب الزماني: ويمكن القول إنه كان بمثابة عنصر حيوي لم يكن بوسع (غائب) الاستغناء عنه في رواياته، لكنه لا يظهر بوجه مباشر صريح، وإنما يظهر من خلال استرجاع الشخصيات لذكرياتها الماضية والحنين لزمنٍ مضى والنفور من زمنٍ راهن عصيب ومؤرق بكل ما فيه وانعكس ذلك في رد فعل (سليمة الخبازة) و(تماضر) في رواية (النخلة والجيران)، ولدى شخصيات رواية (خمسة أصوات) خلال لحظات التذكر واسترجاع الماضي، ولدى (كريم) و(نوري السائق) في (المخاض)، ولدى (مظلومة) و(ياسر) و(علي – المعلم المتقاعد) في رواية (القربان)، ولدى (ماجد) و(فضيلة) و(عبد الواحد) في (ظلال على النافذة)، ولدى (معروف الدواليبي) في (آلام السيد معروف)، ولدى (ثابت حسين) في (المرتجى والمؤجل)، ولدى كل من (عصام) و(خليل) في رواية (المركب).
15. الاغتراب الثقافي والفكري: ويلاحظ أنَّ حضوره كان بارزاً على وجه الخصوص في الروايات التي احتوت على شخصيات مثقفة مضطهدة ومحبطة، والتي لم يتركها (غائب) دون أنْ ينوّه أو يلفت الانتباه لشيوعها في الوسط المثقف، وتبعاً لذلك فقد اقتصر ظهوره على روايات محددة وشخصيات معينة، كما لدى (إبراهيم) و(سعيد) في (خمسة أصوات)، ولدى (معروف الدواليبي) في (آلام السيد معروف)، ولدى بضع شخصيات في حوارات غير صريحة في (المرتجى والمؤجل)، ولدى (رائد) و(عصام) و(خليل) في رواية (المركب).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
الهوامش:
(حميد الخاقاني: تطور لغة القصة ورؤيتها للواقع، مجلة (الثقافة الجديدة)، العدد 189، ص143 – 144، (أعيد نشره في كتاب: د. أحمد النعمان: غائب طعمة فرمان – أدب المنفى والحنين إلى الوطن، دار المدى، دمشق، 1996، ص350 – 355)).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد