بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
قال تعالى في سورة المدثر:
{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)}
{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} الرهن: الوثاق والحبس ومنه الرهن في الدين، والمعنى كل نفس مرهونة مأخوذة بعملها في جهنم {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ} هم أهل الخير جعلت علاماتهم في الحشر بجهات اليمين في مناولة الصحف وفي موقف الحساب وغير ذلك،، وجعلت علامة أهل الشر الشمال في تناول صحف أعمالهم وفي مواقفهم وغير ذلك.
والمعنى: إلا المؤمنين فإِنهم قد فك رهنهم، فهم ناجون من النار، وهم في جنات النعيم يتساءلون عن المجرمين.. فأهل الجنة وهم يتنعمون، وهم فيما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، لهم فيها فاكهة وهم فيها مكرمون، وهم وأزواجهم على سرر متقابلين، يسألون أهل النار: ما سلككم في سقر ؟؟؟؟
«سقر»: من سقرته الشمس أي: لفحته ولوحته وأحرقته وأذابته، وجعل سقر اسم علم لجهنم، قال تعالى: {ما سلككم في سقر} وقال تعالى: {ذوقوا مس سقر} ولما كان السقر يقتضي التلويح أي الإحراق في الأصل نبه بقوله {وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر} أي محرقة مسودة لظاهر جلد الإِنسان وهو بشرته، والجمع بشر.. وأن ذلك مخالف لما نعرفه من أحوال السقر في الشاهد.
{قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} ضيعنا حق الله تعالى في الصلاة، لم نتصل به، لم نقبل عليه، لم نتوجه إليه، توجهنا إلى كل البشر ونسينا رب البشر، طرقنا كل باب إلا باب السماء، اصطلحنا مع كل إنسان إلا خالق الإنسان.
{لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} ولو صلينا ضيعناها.. قال الله تعالى فيهم: {وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} النساء142
وقال تعالى {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} مريم59
وهذه الاية تعني كل حقوق الله تعالى، فذكر جل شأنه الجزء وعنى به الكل.. لم نتصل به، ولم نستقم على منهجه، ولم نأتمر بأمره، ولم ننته عن نهيه وزجره
{وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} جعلنا شهواتنا محور حياتنا، ومصالحنا فوق كل شيء، لم نتفقد مسكين، ولم نمسح دمعة يتيم، عشنا لأنفسنا ولآمالنا وطموحاتنا وداخل صندوق أسرتنا وأبنائنا وأحفادنا
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاع أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ -يَعْنِى شِدْقَيْهِ- ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ، ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الآيَةَ {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونُ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ
قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}.. استدل بعض علماء الأصول بهذه الآية الكريمة، على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، لأنه تعالى صرح في هذه الآية الكريمة، بأنهم مشركون، وأنهم كافرون بالآخرة، وقد توعدهم بالويل على شركهم وكفرهم بالآخرة، وعدم إيتائهم الزكاة، سواء قلنا إن الزكاة في الآية هي زكاة المال المعروفة، أو زكاة الأبدان بفعل الطاعات واجتناب المعاصي.
ورجح بعضهم القول الأخير لأن سورة فصلت هذه من القرآن النازل بمكة قبل الهجرة، وزكاة المال المعروفة إنما فرضت بعد الهجرة سنة اثنتين.
وعلى كل حال، فالآية تدل على خطاب الكفار بفروع الإسلام.
أعني امتثال أوامره واجتناب نواهيه، وما دلت عليه هذه الآية الكريمة، من كونهم مخاطبين بذلك وأنهم يعذبون على الكفر، ويعذبون على المعاصي، جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى عنهم مقررا له: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر:42-47].
{وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} مع غوغاء الناس، فدينه ما يفعله الناس، ولم نتحرر من بؤس العادات والتقاليد السيئة، وتقليد الغرب في الضار وليس النافع (العري بحجة الموضة، لكنة الأعاجم بحجة الثقافة، أعياد تتنافى مع هويتنا، أكلات ومشروبات لا تناسب أذواقنا.. حتى وصل الأمر بالمبالغة في العناية بالكلاب والقطط)
{وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} أي تكذيبا عمليا فقلما تجد أحد يكذب تكذيبا نظريا، فأعماله ليس فيها سعيا للآخرة، قال تعالى في شأن الموحدين الصادقين {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً} الإسراء19
{حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} أي الموت.. فإنهم مع هذه الجرائم الموجبة للسلوك في سقر لم يتوبوا منها حتى أتاهم اليقين أي الموت.. وسماه الله تعالى يقينا لأن وقوعه متيقن، قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} الأنبياء34.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد