بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
عباد الله، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلًا قال: يا رسول الله! كيف يحشر الكافر على وجهه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " أليس الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادرٌ على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة "، قال قتادة وهو أحد رواه الحديث: بلى وعزة ربنا ". متفق عليه. إن شر من يحشر يوم القيامة هو من يحشر على وجهه، {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ}.
والعباد يوم القيامة يبعثون على ما ماتوا عليه، قال صلى الله عليه وسلم: (يبعث كل عبدٍ على ما مات عليه) رواه مسلم، أي: على الحال التي مات عليها من إيمانٍ أو كفرٍ أو يقينٍ أو شكٍ أو عملٍ صالحٍ أو فاسد، فالذي يموت وهو محرم، يبعث يوم القيامة محرما ، ومن قتل أو مات شهيدًا يبعث يوم القيامة له جرحٌ يثعب دمًا، علامة افتخار بين الخلائق، اللون لون دمٍ والريح ريح مسك.
فالناس يوم القيامة يجنون ما قدموه لاسيما ما يكون في آخر أعمارهم كما قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيم».
ومن أحب قومًا حشر معهم، ومن أحب أهل الضلالة والفساد حشر معهم، ومن أحب العلماء والأتقياء حشر معهم. {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ}، يعني: أتباعهم، وأشباههم، والذين عملوا بأعمالهم الباطلة. كما قال تعالى: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ}. تفسير الطبري 19/519
عباد الله: من مشاهد يوم القيامة أن الله القوي يكلم عبده الضعيف، والعزيز يكلم عبده الذليل، والغني يكلم عبده الفقير، يقول صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحدٍ إلا سيكلمه الله يوم القيامة، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، ولو بكلمة طيبة". رواه البخاري ومسلم.
ومن الأمور التي يهول لها الإنسان، ويشتد الأمر عليه بها أن من العباد من لا يكلمهم الله، ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم، ويعذبهم بأن يصرف وجهه الكريم عنهم: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: {ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم ولهم عذابٌ عظيم، قلت: يا رسول الله! من هم خابوا وخسروا؟ قال: فأعادها رسول الله ثلاث مرات ثم قال: المسبل، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب، والمنان}. رواه مسلم.
وتدنو الشمس من الخلائق قدر ميل فقي حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه: {أن الشمس تدنو يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، قال سُليم بن عامر - وهو الذي يروي عن المقداد- والله ما أدري ما يعني بالميل: أمسافة الأرض؟ أو الميل الذي تكحل به العين؟ قال: فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون عرقه إلى كعبيه، ومنهم من يكون عرقه إلى ركبتيه، ومنهم من يكون عرقه إلى حقويه- أي: مشد الإزار عند الخصر- ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا، وأشار صلى الله عليه وسلم بيده إلى فِيه}. رواه مسلم.
ويقف الناس ويحشرون حفاةً عراةً غرلًا، حتى ما قطع من الإنسان في ختانه سيعود عليه مرة أخرى، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {يحشر الناس حفاةً عراةً غرلًا، فقلت: الرجال والنساء جميعًا ينظر بعضهم إلى بعض؟! فقال: الأمر أشدٌّ من أن يهمهم ذلك} رواه البخاري ومسلم، والأغرل هو: الأقلف.
والناس في الحساب يوم القيامة أقسام فمنهم من يكون حسابه بين يدي الله عسيرًا، وهؤلاء هم الكفرة الذين أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا، وكذبوا المرسلين، وكذلك عصاة الموحدين قد يطول حسابهم ويعسر بسبب ظلمهم وعِظم ذنوبهم.
ومن الناس من يدخلون الجنة بغير حساب ولا سابقة عذاب، أسأل الله بأسمائه وصفاته وفضله الذي لا يضيق به ذنوب خلقه، أن يجعلنا منهم.
ومن الناس من يحاسب حسابًا يسيرًا، وهؤلاء لا يناقشون الحساب ولا يدقق معهم ولا يحقق معهم، وإنما تعرض ذنوبهم عرضًا، ثم يتجاوز الجبار عز وجل عنهم، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ليس أحدٌ يحاسب يوم القيامة إلا هلك، فقالت عائشة: يا رسول الله! أليس قد قال الله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}. فقال رسول الله: إنما ذلك العرض، وليس أحدٌ يناقش الحساب يوم القيامة إلا هلك". رواه البخاري ومسلم.
واعلموا عباد الله أن الله عز وجل يعرض ذنوب العبد عليه، فعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله يُدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره، فيقول الله لعبده المؤمن: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى العبد في نفسه أنه قد هلك، قال: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته، وأما الكافرون والمنافقون فيقول الأشهاد: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}. رواه البخاري ومسلم. كنفه: ستره ورحمته.
ويبلغ الأمر أشده، والمخاصمة ذروتها عندما يخاصم العبد ويشهد عليه أعضاؤه، قال تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة ونفعنا بما فيهما من الآيات والذكر والحكمة ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وسمع الله لمن دعا، وبعد، فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، ففي يوم القيامة يأمن المؤمنون المتقون ولا يخافون ويطمئنون ولا يفزعون يقال لهم: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ}. والسبب أن قلوبهم في الدنيا كانت عامرةً بالخوف من الله، فرد الله عليهم هذا الخوف جزاءً بطمأنينةٍ وأمنٍ يوم القيامة، أليسوا يقولون: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا* فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا}.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد