بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
نَشَرَ الأديب الفرنسي باشومون (توفي 1771م) مذكراته السريَّة قبل موته بثلاث سنوات فقط في عام 1768م، ومما ذَكَرَهُ في أحد فصول ذلك الكتاب الذي يحمل عنوان: (العدوى المُقَدَّسَة)، أنَّه قد "ظهرت في فرنسا منذ بضع سنوات طائفة من الفلاسفة الجريئين"، وهذه الطائفة كان هدفها الرئيس يتمثل في "تنوير العقول بشكلٍ كاملٍ"، لكن كيف؟ كان ذلك من خلال "زعزعة المعتقدات واستئصال الدين حتى في أسسه العميقة وركائزه". لكن كيف يُمكن لهم تحقيق مثل هذا الهدف؟ يقول باشومون: "هم يستخدمون طريقتين لزعزعة هذه العقائد: (1) إما أسلوب التهكم والسخرية من رجال الدين وعقليتهم الخرافيَّة. (2) وإما أسلوب البحث العلمي الأكاديمي الذي يكشف عن تاريخيَّة العقائد المقدسة".
هذا النص مهم جدًا لفهم الغرض الوظيفي من السخرية، وأثرها العميق في تغيير القناعات، فالسخرية حتى وإن ظهرت عادة عابرة لبعضهم، فإنَّها إذا كانت منهجًا مستمرًا لأي شخصٍ أو مجموعةٍ فإنَّها في حقيقتها استراتيجية تعمل على الهدم بالتشكيك.
فالسخرية خطورتها أنها لا تكلف صاحبها الكثير من العمق في العلم والمعرفة، أو البناء والتأسيس، أو التجاوب مع الآراء برؤية نقديَّة هادفة. وإنما تعتمد على التشكيك من خلال هزِّ وتحريك قناعات المتلقي في اعتقاداته بطريقة توحي بالوثوقيَّة العالية، التي يقع ضحيتها السطحي عادة.
فالساخر الاستراتيجي يستهدف فئة ثقافتها ليست عميقة، ويعفي نفسه تلقائيًا من البناء العلمي وتقديم البديل، ويخلق حالة تضخم زائفة لدى جمهوره. وهذا التضخم يوحي لهم أنهم ليس في حاجة لمطالبته بنقض الفكرة محل السخرية علميًا بأكثر من السخرية منها، فتُخلق هنا حالة من المصداقية الزائفة.
والسخريَّة ليست أسلوب تأثيرٍ خطرٍ على العوام فقط بل على بعض المتعلمين، لأنها توهم المتلقي بوثوقيَّة المتحدِث وعلوه وتهافت المُتَحدَّث عنه. وتزداد خطورة الساخر حينما يتظاهر بالتسامح والتعالي المعرفي، ويُلْبِس سخريته ثوب الموضوعية وروح النقد التي تفصل بين نقد المؤمن ونقد الإيمان.
ولعلنا نقول مثل ما قال بيتر سلوتردايك في التنوير أن السخرية تقطع "جذور المعرفة بالوحي بأناقة تمامًا، من دون أن تكون عدوانية بشكل خاص". وفي كثيرٍ من حالات السخرية الفكرية والدينية فإنَّ صاحبها لا يقدر أن يفصح بحقيقة نواياه ودوافعه والغرض الأصلي من وراء السخرية والاستهزاء.
ولذلك، فإنَّ الساخر الاستراتيجي يحرص أن يغلف سخرية بأسلوب بريء، أو عن طريق تساؤلات عفوية، أو تقديم معلومات أو صور نشاز للفئات المستهدفة. وإذا كانت السخرية مؤلمة إذا كانت تتناول خصوصيات وهوية الإنسان، كأصله ونسبه وبلده، فإنها تزداد إيلامًا إذا مست إيمانه ودينه!
فالسخرية من الإيمان مؤلمة محزنة لقلوب الصادقين. قال الله لنبيه "إنا كفيناك المستهزئين"، ثم قال له: "ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون". والسخرية منهجٌ قديمٌ جديدٌ يتبعه المفلس الذي الذي لا يمتلك البديل الصحيح، ولا النقد الصريح، فيفضل أساليب التشكيك الميسورة له والمؤثرة.
فهم يسخرون من الأشخاص، قال تعالى: "وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ"، "إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ". "وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ".
وقال تعالى: "وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ". وقال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ".
وهم يسخرون أيضًا من الأفعال، قال تعالى: "الَّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ في الصدقات"، "وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لايَعْقِلُونَ".
وإحساس الإنسان بالألم حين السخرية من إيمانه، من دلائل قوة إيمانه، والإيمان الراسخ في القلوب لا تهزه السخرية، وإن كانت تؤلمه وتؤذيه وتزعجه. والتعامل الأمثل مع السخرية بجميع أشكالها، هو التجاهل وعدم التفاعل معها إلا ما مَسَّ حقًّا يمكن إدانة الساخر به قانونيًّا.
والسبب أنَّ الساخر لا يطلب حقًّا في العادة، وليست لديه الأدوات الأولية أو الجادة في الحوار والنقد البناء، ولذلك فإن الأجدر تجاهله وإهماله. قال تعالى: "وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ".
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد